يوم تحين لحظة التغيير في مصر

منشور الأربعاء 23 أغسطس 2017

 

إذا كانت الجهود الرامية لإصلاح الواقع في مصر قد اصطدمت بصخور عدة، كارتفاع مستويات القمع، وتقلص مساحات التعبير عن الرأي، ورقاد الأحزاب والمثقفين في سُبات عميق، فلا مناص من الانشغال بالمستقبل والتدبر في أمره. فالوضع الحالي ليس مستدامًا وليس مستقرًا، مهما أوحت الشواهد بغير ذلك، بل يمكن القول أنه يحمل في طياته بذور تغييره، طال الوقت اللازم لذلك أم قَصُر. إذ لا يمكن تصوُّر أن تتزامن لفترة طويلة عوامل: كممارسة أعلى درجات القمع، والمعاناة المجتمعية من أسوأ الأزمات الاقتصادية مع موت العملية السياسية وتفاقم الفشل الإداري في كل القطاعات؛ دون أن يحدث أي انفتاح ولو جزئي في النظام السياسي.

لكن المعضلة، أنه حين تحين في المستقبل لحظة تغيير كبرى أيًا كان نوعها ومقدماتها وتوقيتها؛ فإن قوى التغيير ستجد أنفسها أمام بيئة غير مهيأة بالمرة للتغيير. ففي الحاضر علل مستعصية، ستقف -في اللحظة الفارقة- كحجر عثرة أمام نجاح أي تغيير سلمي ومتوازن وبناء.

موت السياسة

أول تلك العلل هو غياب البديل القادر على ملء الفراغ السياسي وقت الأزمة، نتيجة لضمور الحياة السياسية، واقتلاع مؤسسات المجتمع المدني وتأميم الإعلام. المفارقة أنه كانت هناك ثمة حياة سياسية أيام مبارك (الذي قامت ضده ثورة أنهت عهده)، لكنها كانت محكومة بقواعد صارمة، تحافظ على منصب الرئيس وهيمنة الأجهزة الأمنية وسيطرة الحزب الحاكم على البرلمان. ولكن، برغم السلطوية لم تمت السياسة، وأعلنت عن نفسها من خلال منابر مختلفة كالنقابات وصحف المعارضة ومسيرات الشارع (وفي وقت لاحق استعانت بالأدوات الرقمية كالمدونات ووسائل التواصل الاجتماعي).

اليوم يبدو ذلك القليل من السياسة (والمحصور في الهامش) من قبيل الرفاهية السياسية. فقد لفظت السياسة بشكلها التقليدي أنفاسها الأخيرة في السنوات الأخيرة، واختُزِلت - وهي بطبيعة الأشياء عملية معقدة ومتعددة الأوجه- في شخص واحد تعاونه الأجهزة الأمنية. ولم يعد هناك حتى حزب حاكم. كما اختُزِلت عملية الحكم - والمنوط بها إدارة تناقضات المجتمع والتعبير عنها – في السيطرة والقمع.

باختصار صرنا بصدد سلطة بلا سياسة.

يبدو الأمر، إن شبهناه بمباريات كرة القدم، وكأن قواعد اللعبة تغيرت جذريًا: حَقَّ للجميع أيام مبارك نزول الملعب ومداعبة الكرة، لكن تسجيل الأهداف ظل امتيازًا حصريًا لمبارك ونجله وحزبه، فيما اكتفى الآخرون بركل الكرة في أركان الملعب. أما الآن فليس من حق أحد نزول الملعب من الأساس سوى الرئيس وأجهزته ومعاونيه. لذا، اكتظت مدرجات المتفرجين أو سلالم الخروج من الاستاد بمن خالفهم من القوى السياسية والاجتماعية.

وبديهي أن مصر ستدفع ثمنًا باهظًا لذلك حين تحين لحظة التغيير. يتذكر الجميع مثلاً، أن تهميش القوى العلمانية في العقود الثلاثة لعهد مبارك أدى إلى سيطرة الإسلاميين على كل الإنتخابات بعد رحيله (ومجموعها خمس جرت في الفترة من مارس/ أذار 2011 إلى ديسمبر/كانون أول 2012). أما اليوم؛ فالجميع من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، في التهميش سواء.

وحين تتداعى الأوضاع ويستوطن الفراغ، ستسعى كل الأطراف بشكل محموم لفرض إرادتها وحسم الأمور لصالحها. بيد أن غياب الأطر السياسية الشرعية، وطول فترة الكمون في الهامش، ينذر بخطر أن تسقط البلاد في قبضة العنف، إذ يولد العنف دومًا من كونه خيارًا أخيرًا يتم اللجوء إليه حين تتوارى السياسة، حين لا توجد آليات واضحة تحظى بالتوافق الوطني لحل الخلافات بين الفرقاء.

تفكُّك المؤسسات 

ثاني تلك العلل يكمن في انخفاض مستوى الثقة في مؤسسات الدولة جميعًا إلى أدنى مستوياتها، ليس فقط في كفاءتها المهنية وقدرتها على الإنجاز، بل في إخلاصها ووطنيتها أيضًا.

يأتي ذلك رغم أن النظام الحالي جاء منذ اللحظة الأولى محمولاً على صهوة الوطنية، ومنذ حينها يقتات هذا النظام على مخزون مشاعرها الجياشة. لقد كان لافتًا في غمرة الثورة في يناير 2011، أن المتظاهرين صبوا جام غضبهم على الشرطة والحزب الوطني الديمقراطي فحسب، ولذلك استهدفت طاقتهم التدميرية أقسام الشرطة ومقار الحزب على مستوى الجمهورية، فيما لم تُمس بسوء تقريبًا باقي المباني والمصالح الحكومية. أما الاحتفاء العظيم يومئذ؛ فكان من نصيب ضباط الجيش وجنوده.

                                       

حرق سيارة شرطة في جمعة الغضب - ثورة يناير 

كانت هذه هي الصورة في 2011، لكن مياهًا كثيرة جرت في نهر السياسة المصرية منذ ذلك الحين. فالحياد الذي اتسم به موقف المؤسسة العسكرية في 2011؛ تحول في غضون سنوات قليلة إلى دعم كامل وظاهر لـ"النظام"، وعلى نفس المنوال أصاب التسييس جزءًا من مؤسسة القضاء العريقة، مما جعل منها طرفًا أساسيًا في معادلة الحكم.

انفصمت إذن، أو كادت، كل أواصر الثقة بين الدولة وقطاعات واسعة من المجتمع، ولم يبق ثمّة محصنين - بالهيبة والسمعة - داخل إطار الدولة المصرية. وعليه؛ فإذا وصل السخط الشعبي على نظام الحكم ذروته يومًا، فستمتد نيرانه بلا شك إلى كل المؤسسات، وهو أمر شديد الخطورة، وينبغي تجنبه بكل وسيلة.

كما أن تفكك مؤسسات الدولة وتحولها إلى جزر منفصلة لا رابط ولا تنسيق بينها إلا القليل، لا يبشر بخير. فحين يفرض التغيير نفسه يُفترض أن يحدث بالدولة؛ لا بمعزل عنها.

مصر دولة ذات بيروقراطية عتيدة، تبسط وجودها الأخطبوطي على كافة مناحي الحياة، ولذلك لا يمكن تجاوزها أو القفز من فوقها. وعلى الرغم من أن الرئيس السيسي قد وضع الحفاظ على مؤسسات الدولة هدفًا رئيسيًا لحكمه؛ فإن ذلك لم يتحقق، على الأرجح لاختلاف مفهومه عن ماهية "الدولة" والأسلوب الأمثل لاستعادة "هيبتها". بل كان أن حدث العكس تمامًا: كفاءة متدنية في الأداء، وتراكم للأخطاء والخيبات في كافة القطاعات، واعتمادًا متزايدًا على المؤسسة العسكرية، للاستفادة من انضباطها وكفاءة أدائها، ماأدى لمزيد من التدهور في أداء المؤسسات المدنية.

الأكثر من هذا؛ غياب القيادة الحكيمة. فنحن الآن لسنا إزاء ديمقراطية سليمة متسلحة بقواعد الحكم الرشيد، ولا حتى ديكتاتورية آمرة ناهية ترصد مواطن الزلل داخل الدولة فتقوِّمها سريعاً بسلطة الحاكم الفرد؛ بل نحن بصدد حالة من السيولة والانقسام انطلق على إثرها المرؤوسون في مواقعهم يوطدون نفوذهم، ويشيِّدون بكل دأبٍ قواعدًا من المؤيدين والمريدين.

يظهر هذا أكثر ما يظهر في المؤسسات الأمنية التي يفترض أن يكون التنسيق والتعاون فيما بينها أعلى ما يكون، بالنظر إلى تقارب الاختصاصات، ووحدة الأهداف (كمحاربة الإرهاب والجريمة). لكن التعاون استُبدِل بالتنافس، وبزغ بوضوح السعي المنفرد للظفر بالسلطة، ولزيادة رأس المال السياسي عبر الاستثمار في المشاريع الاقتصادية ووسائل الإعلام، وبناء شبكات واسعة من العلاقات في الدولة والمجتمع ودوائر المال والأعمال.

بالتوازي مع ذلك، سقط نموذج الثورة السلمية في أذهان الشباب، وهم بطبيعة الحال وقود أي تغيير حقيقي. إذ حدث لهم تغيُّر هائل على المستوى النفسي والفكري منذ لحظة يناير، والتي كان شعارها الأثير هو "سلمية". كان الثوار عندئذ في فورة الشباب، وكانوا بالطبع حديثي العهد بالسياسة، مدفوعين في حماسهم بالأمل والإخلاص وسلامة الطوية، لكن الانخراط في نهر السياسة الآسن، وانكباب الأطراف كلها على نفخ جمرات الصراع والفتنة، ترك آثارًا كبيرة عليهم.

فالسنوات المحمومة التي تلت إقصاء مبارك، والعنف الذي ترعرع ثم تربع فيها، وما تلاه من عودة الدولة على أسنة الرماح في عام 2013، والاعتماد المتزايد على المؤسسة العسكرية؛ هزت كيان الشباب، وربتهم على أن القوة - والقوة فقط - هي ما يفيد وينفع في مضمار السياسة، وأن الأحلام البريئة والشعارات النبيلة التي حملوها على أكتافهم في يناير لا تغني ولا تسمن من جوع.

اليوم يؤمن كثير منهم أن إسقاط النظام "بأكمله" ضرورة، وأن بناء ما هو جديد يستدعي هدمًا كاملاً لما هو قديم، كما سقط بعضهم فريسة لروح الانتقام والرغبة في التشفي في غُرمائهم. ليس هذا بمستغرب، فالعنف مُعْدٍ، والأنظمة العنيفة كثيرًا ما تُولِّد معارضة شبيهة بها: عنيفة وشديدة المراس.

بانتهاء الثورة واختطاف الحلم وسجن الرفاق وانفجار حمامات الدم، تكسرت النصال على النصال، وازداد الغضب، وبقيت أفئدة الشباب ترسف في أغلال اليأس وخيبة الأمل.

طاقات الغضب المكتوم ونوازع الشر المكبوتة اليوم هائلة، ولا ينبغي الاستهانة بها أبدًا. وبديهي أنه إن واتت الفرصة الشباب لتفريغ هذه الطاقات في حمأة صراع مستقبلي، فستكون العواقب وخيمة، وهو ما يخصم قطعًا من فرص النجاح حين ترسو سفينة المجتمع على محطة التغيير.

ثم يأتي استمرار تدهور النخب المصرية ليضفي ظلالاً إضافية من الشك على إمكانية نجاح أي تغيير إيجابي، إذ كيف للتغيير أن يتحقق في غياب الكوادر والقيادات؟ لقد رسبت النخبة المصرية منذ لحظة الخامس والعشرين من يناير في كل الاختبارات، ولا يُرجى منها الكثير، لا في أوقات الاستقرار ولا في أوقات التغيير. فأمراض الحياة الحزبية الرئيسية ما تزال مستمرة ومتفاقمة، مثل تشظي الكيانات الحزبية، وانغماسها في صراعاتها الداخلية، وجنوحها نحو الصراع مع بعضها البعض أكثر من مناطحتها للسلطة، بل ومساندة بعضها للأنظمة بشكل صارخ، ولذلك سميت "بالمعارضة الوفية"، يضاف لهذا فشلها في تقديم أية إسهامات سياسية أو فكرية حقيقية.

أما النخب المصرية – داخل الأحزاب وخارجها – فلا يزال يحكم أداء أغلبها مزيج سام من الانتهازية والاستبداد والشللية والمداهنة وقصر النظر.

حتمية التغيير

ستشتد على الأرجح آثار  وعواقب الأزمة حتى منتهاها. وبالتبعة ستُكرّ السبحة، وينفرط العقد، وتنقشع الغيمة، وتبزغ شمس الفرصة يومًا. لكن هذه العوامل التي تعرضنا لها تجعلنا غير مؤهلين لاغتنامها. فغياب البديل السياسي، وضعف الثقة في الدولة والنخب السياسية بالإضافة لاستمرار الآليات المؤسساتية القائمة، وفتور الحماس للأدوات السلمية في التعبير مع تصاعد مستويات الغضب؛ كل هذا يفتح الباب على مصراعيه أمام انفجارات العنف الطائش والمراهقة السياسية من ناحية، وجموح الانتهازية والصيد في الماء العكر من ناحية أخرى. فكيف لمصر أن تتجنب هذا المصير الماحق؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يجدر بالجميع الانشغال به، ونتعرض له في المقالات المقبلة.

 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.