يا فلسطينية نعتذر.. ما بدنا نسافر حداكوا

منشور الثلاثاء 8 أغسطس 2017

نشر الكاتب أحمد سمير مقالًا على صفحته في الفيس بوك بعنوان "خواطر عن القضية الفلسطينية"، يبدو أنه من الأهمية بمكان مناقشته لأنه يعبر عن حالة تتسع بشكل ملحوظ بين صفوف المثقفين خاصة الليبرالين والعلمانين، تتعلق بالتعاطي مع القضية الفلسطينية، حتى بات أمرًا شائع في أوساط ليبرالية وعلمانية الحديث بخطاب صادم ومزعج عن قضايا الصراع العربي الاسرائيلي، وعن النضال الفلسطينى والمقاومة.

وأقر أولًا أن هذا المقال يستند إلى بعض المقدمات الصحيحة تماما، لكن ما يبنى عليها من نتائج مزدحم بالمغالطات المنطقية واللبس والخلط بين أشياء مخلوعة من سياقها، كما أن من شأنه تفريغ نضالات وطنية وتاريخية من مضمونها، والمماثلة - أحيانا كثيرة، وعن عمد - بين المستعمِر والمستعمِر.

أما عن المقدمات التي أن أخذت مجردة فلا خلاف عليها

1- يجب التعاطي بمنطق واحد وبدون تمييز مع كل قضايا التحرر، وإن كل القضايا العادلة  تستحق التعاطف والتضامن كما يستحق الفلسطينيون التضامن ، ولا نميز فى ذلك فلسطين عن سوريا مثلًا.

2- أن هناك جزء من من العداء للإسرائيليين مبني على عداء ديني لليهود، ومن جهتى أزيد أنه جزء ليس بقليل. 

أعتقد  هذا فقط من مجمل ما كتب، ما يمكن الاتفاق عليه مجردًا، أما ما لا يمكن الاتفاق معه فنقاط كثيرة. 

مركزية القضية؟

فكرة مركزية القضية الفلسطينية بحاجة إلى مراجعة. في الواقع لم أعثر على أي أفكار أو وثائق قديمة أو حديثة، خاصة فى التراث السياسي لليسار المصري، اعتمد هذا التصور عن مركزية القضية الفلسطينية، لقد نُظِر دائمًا للقضية الفلسطينية باعتبارها في المقدمة من قضية الصراع الوطني ضد الاستعمار ، رأس رمح، وذلك لأنها الأرض العربية التي ما زالت عليها قوات عسكرية استعمارية مباشرة، لقد مثلت قاعدة مسلحة للهيمنة الإمبريالية في منطقة معبأة بعوامل التوتر، وأيضا وربما الأهم، بالنفط ، والموقف منها يُعد مؤشرًا لمدى عداء المرء للاستعمار ، مجرد مؤشر سياسي لكنه هام وجوهري.

كما تمثل القضية الفلسطينية عائقًا أمام شعوب المنطقة  في سعيها  للتحرر والتنمية الوطنية ، ولكن لم يقل أحد تمركزوا حولها أو أجلوا باقي النضالات حتى تتحرر فلسطين ، تلك النكتة لم تكن واردة مطلقا في التراث السياسي لحقب الاربعينات حتى التسعينات على الأقل. افترض الكاتب من مخيلته فرضية خاطئة ابتداءً، ثم بنى عليها. 

لماذا فلسطين بكل هذا التضامن وليس سواها - إن المقدمة خاطئة عمليًا ونظريًا، تكفي إطلالة سريعة على حجم التضامن المحلي والإقليمي والعالمي مع العراق ضد الغزو الأمريكي، ولم تكن فلسطين في بؤرته مطلقًا.

لكن هناك أسباب اخري أغفلها الكاتب، أن فلسطين قضية تحرر وطني ضد قوى الاستعمار بوضوح لا لبس فيه، بينما في سوريا وليبيا وحتى العراق الأمر مختلف، وملتبس، ومتداخل، قضية نضال ضد ديكتاتورية نظام واستبداده، وانتفاضات شعبية تلاها تسلل عسكري استعماري مباشر وغير مباشر، وظهور قوى لمنظمات دينية رجعية محلية. الخيارات في تلك البلدان كلها مرّة.

القذافي، قاصف شعبه حارة حارة وزنجة زنجة من جهة، والأمريكان وكذا المنظمات الجهادية والمناضلين بالوكالة على الجهة الأخرى، بشار سيد الشبيحة وممثل التاريخ الديكتاتوري للأسرة الحاكمة، والقصف الرسمي لمظاهرات تطالب بالحرية، وعلى الطرف الآخر كل هذا الخراء الذي نراه، وعراق صدام الدموى قامع شعبه وقاصف الأكراد بالكيماوي والشيوعيين بالطائرات وحاجب كل الأصوات عدا صوته، والغزو الأمريكي "الديموقراطي" بأطنان صواريخه وقنابله على الضفة الأخرى.

إنها قضايا ملتبسة ومتداخلة بشدة، لكن القضية الفلسطينة لم تكن كذلك، لا يوجد فيها هذا الالتباس والتداخل، إنها فلسطين وشعبها ضد الاحتلال الصهيوني، ذلك عنوانها العريض والجاذب.

مغالطة تاريخية

ثمة خلط بعيد عن التاريخ في تفسير حجم التضامن والتعاطف مع القضية الفلسطينية، الوقوع في ذات الفخ الرجعي المنصوب لها، بإرجاع حجم التضامن مع فلسطين إلى ارتباطه بالخطاب الجهادي الإسلامي، ثم تصوير هذا الخطاب الجهادي بوصفه خطابًا معادٍ للتحرر ، ومن ثم فالنتيجة هي أن هذا التضامن مرتبط بمنظور معادٍ للتحرر؟

بل أن الكاتب يصل ببساطة من مقدماته تلك، إلى نتيجة مفادها "أن معيار التضامن مع الفلسطينيين مش التضامن مع الحق والعدل والحرية".

نلفت النظر أولًا إلى أن فترة صعود التضامن لم تكن مترافقة مع، ولا مرتبطة بـ، ظهور الخطاب الجهادي الإسلامي الحديث برمته، ولكنها ارتبطت بموجات صعود حركة التحرر الوطني في المنطقة، والانتشار الواسع للتيارات والميول القومية، ويليها - أو يترافق معها، انتشار الأفكار والتيارات اليسارية التي تسيدت شعبيًا خطابات المقاومة للاستعمار بما فيه الاستعمار الصهيوني.

مشاركة النظام الصهيونى في هجوم 1956 صعّد من نبرة العداء للصهيونية، الموقف من اليهود ارتبط بالنعرة والمخاوف القومية وليس بالعداء لليهود انفسهم، كرنفالات - عالقدس رايحين - ظهرت مؤخرًا ولم تتجاوز الطابع الكرنفالي ولم يكن لها انتشار شعبي، حتى ظهور حركة المقاومة الإسلامية حماس الملتبس كان متأخرًا جدًا، ولجذب الصراعات والعداءات الوطنية والقومية إلى أرض أخرى رجعية وطائفية، سحب البساط من منظمة التحرير ومن الجبهات الشعبية والوطنية، لتسقط نتائج نضالات نصف قرن في حجر حماس التي أسفرت عن حكومة متعاونة مع الكيان الصهيوني إلى أبعد مدى، وتحولت إلى شرطي كابح للنضال الشعبي الفلسطيني.

لم تستخدم المنظمات الجهادية القضية الفلسطينية إلا هامشيا، وتصدر عملها قضية الحاكمية وتطبيق الشريعة، فلم تهتم أصلا بحشد تعاطف حول فلسطين بقدر ما اهتمت بحشده حول البوسنة والهرسك وأفغانستان والشيشان والصومال وما شابه.

فلا تاريخ النضال الفلسطيني، ولا تاريخ التضامن الشعبي، ولا حتى تاريخ عمل ودعاية الجهاديين، يدعمون تلك المغالطة المرعبة.

ومُمَاثلة لا محل لها من الاعراب

يقول الكاتب "الإسرائيليين بشر عاديين زينا، زي أي شعب تاني في العالم، وهم مسؤولين عن الظلم اللي بتعمله حكومتهم زي ما احنا مسؤولين عن الظلم اللي بيعمله السيسي، أو زي ما اللبنانيين مسؤولين عن جرائم حكومتهم بحق اللاجئين السوريين".

نلاحظ أنه يشير إلى الإسرائيليين، وليس حتى إلى اليهود، إي إلى الكيان الاستيطاني المحتل، ويصفه ببساطة على أنه "الإسرائيليين بشر عاديين زينا، كلنا بشر، المستغل والمستغل، المستعمر والمستعمر، والضحية والجلاد، عادى زينا، كلها شعوب ربنا". 

أن يمحو جوهر الصراع والتباين بين المراكز والمواقف بجرة قلم، أو بضغطة زر، بل يزيد بأن يجعل قضايهم متماثلة - ومشكلتهم - شأن المصريين واللبنانيين، الصمت عن جرائم حكوماتهم، العقدة ليست في احتلال أرض شعب، ولكن في سكان المستوطنات الذين لا يجب أن يصمتوا مثلًا على جرائم الاستيطان، ونحن جميعا مثلهم خاطئين، كأن المشكلة هى مجرد تجاوزات السلطة الاسرائيلية، لنرمي قضية الاحتلال نفسها خلف ظهورنا حتى لا نتهم بـ"ترديد جعجعة الستينات" كما يشير الكاتب. عاشت جميع الحكومات، وليسقط الصمت الشعبي من لبنان حتى اسرائيل.

تزييف الصراع مجددًا

يقول الكاتب "ليه يتم حرمان اليهود من التعبد في القدس؟ ينفع كل الناس تتعبد في نفس المكان، والمسلمين يبطلوا جهل وتعصب وأذى لغيرهم، ويكبروا شوية على الجو بتاع محدش هيتعبد هنا غيري".

حرمان من يا مولانا من التعبد؟ هل يقوم الفلسطينيون المسلمون مثلا بطرد الإسرائيلين من أماكن عبادتهم أو منع شعائرهم وطقوسهم؟ هل لنا عينان لنرى ما يحدث فعلًا على الأرض أم نقرأ من كراس دعاية إسرائيلي؟ هل الصراع أصلا حول الطقوس والشعائر الدينية؟ هل يقوم المسلمون فعلا بإيقاع الأذى بالإخوة البشر الصهاينة وهم في دور عباداتهم بجهل وتعصب؟ متى كانت فلسطين حكرًا على دين أو جماعة دينية معينة؟ ألا يعد ذلك تزييفًا للواقع الجاري أمام أعين العالم برمته حتى هذه الساعة؟ أليست الصورة مقلوبة عن الاضطهاد والمنع والتعصب.. الخ؟

لسنا فيما يبدو بحاجة لقوة تحرير تخلص شعبا من محتليه، ولكن لمجلس أديان أعلى يراضي ويوفق بين أصحاب العقائد في بلد واحد، تحت رعاية النظام الصهيونى البشري. هذا لنبتعد عن جعجعة الستينات.

قفزة لا لزوم لها

في نقلة راديكالية يقول الكاتب - إسرائيل دولة عنصرية بكل تأكيد - وكأن المشكلة مجددا هى في مجرد وجود أفكار رجعية أو عنصرية، قضية الاحتلال تتواري تماما في الظل، وتخرج إلى صدارة المشهد وجود أفكار وممارسات عنصرية، وكي يعمق أطروحته يقفز فوق كل الفروق الجوهرية التي تميز مسألة الاستيطان الاستعماري، والحق الفلسطيني في فلسطين نفسها بلا تنازل لا يملكه أي جيل فلسطينى عن كامل أرض فلسطين المحتلة، ويضع إسرائيل "العنصرية" في تماثل مجرد مجددًا مع غيرها من العنصريين، يقرر "زي ما مصر عنصرية ضد النوبيين والبدو والمسيحيين والبهائيين والشيعة والمثليين، زي ما السعودية والكويت عنصريين ضد البدون، زي ما عراق صدام عنصرية ضد الشيعة والعراق الحالية عنصرية ضد السنة". 

هكذا اسرائيل مثل غيرها، وقضية المثليين والمسيحيين والبهائيين تتطابق مع القضية الفلسطينة والاحتلال وبناء المستوطنات، أي تمييز إذن -ربما بما فيه تمييز الأب بين أبناءه، هو نفس حال إسرائيل البشرية مثل غيرها، هكذا يمكن تذويب جوهر القضية والصراع الوطني والاحتلال الاستعماري، بأن نضيف لمجلس التسامح الديني الاعلى، مجلسًا أعلى آخر مناهض للتمييز بين البشر إسرائيليين أو غير اسرائيليين، ولنقاوم بوجه خاص من تسبب في نظرتنا - الجعجاعة - للصراع الفلسطيني العربي في مواجهة الصهيونية ونظامها الاستعماري، ألا وهو - العداء الدينى لليهود.

من على أرض فلسطين هم مجرد يهود، هكذا يري الامر، ليسوا مستعمرين أولا وقبل كل شيء، المشكلة كلها إذن هي -إننا مابنحبش اليهود- وبالتحديد يهود اسرائيل البشريين الصهاينة الضيوف أو أصحاب الأرض، فالفرق لم يعد مهمًا.

التسوية والمفاوضات

نحن أمام صراع تدفعه أفكار دينية رجعية، في مواجهة شعب ربما كان هو صاحب الأرض الأصلي -كما يقرر الكاتب، ويقرر أيضًا أنه -معادٍ لاسرائيل- وان كان شكل ومدى وأسباب عداءه لها صارت أمورًا غامضة وملتبسة، هو يعاديها نفس عداءه للروس والأمريكان وإيران والسيسي وبشار وإردوغان وحماس وحزب الله والإخوان والسعودية زائد - قائمة طويلة من الدول - ولسبب بسيط - "بترتكب جرائم بحق الناس".

تعميم مذهل، صار الأمر مدهشًا في تبسيطه لقضية الاحتلال ولهذا العداء العام، أمين الشرطة الذي يسوق مواطنًا لقسم البوليس دون جريمة، يرتكب جريمة في حق الناس، الموظف متقاضي الرشوة وحرامي الغسيل ومهدر الحق القانوني للمواطن، كل تلك الاطراف ترتكب جرائم في حق الناس، طبعا يختلف عن مرتكبي المذابح وجرائم الابادة والمستعمرين، لكن المقال كله لا يقول انه يعاديها من زواية كونها استعمار بأى درجة.

ومن التبسيط المعمم يقفز لموقف براجماتى "جنون أن يعادى العالم كله، فمثلا إسرائيل دولة احتلال عنصرية بس عندها تقدم تقني لازم أستفيد منه، العالم مش أبيض ولا أسود، العالم درجات متداخلة من الرمادي". 

التعايش والاستفادة البرجماتية اذن، كنا مخطئين حين تشبثنا بالحق الفلسطينى في ارض فلسطين، ما اعتبرناه خيانة - اي التنازلات والتعايش، كان الموقف الوحيد الصحيح، ومنذ 1947، العنترية والجعجعة هي ما جعلنا نفشل و"نلبس في الحيط".

إن كل تفكير في أن المقاومة طريق للحل هو تفكير صبياني، جعجعة، ورجعية دينية معادية لليهود، ينصحنا الكاتب اذن بالتفكير من هذا المنظور، والابتعاد عن "الجعجعة بتاعت الستينات".

هذا هو ما انتهى اليه مقال الكاتب، والذي حتما يترتب عليه قبول التطبيع، على الاقل من زواية الاستفادة العملية من تقدمها التقني.

ما ساقه الكاتب يدق ناقوس الخطر فعلًا، ثمة تيار تصفوي صريح ينشأ بين صفوف المثقفين المصريين، تيار مستعد للتعايش مع الاحتلال الصهيوني، يبسط جرائمه إلى حد مشابه لأي ديكتاتورية عادية، ويسخف مواجهته باعتبارها عداءً للسامية أو وقوفًا على أرضٍ دينية رجعية، لكنه ليس تيارا عدوًا.

إنهم من أصدقائنا وزملائنا، ليسوا مستفيدين أو متاجرين، إلا أنهم اشد خطورة من أي عدو او مطبع صريح، الحوار معهم هو أفضل الطرق، ليس نبذهم او تخوينهم، إعادة الاعتبار لأهمية النضال ضد الاحتلال الصهيوني، التنبيه لدوره وخطورته، تفنيد الأساطير الصهيونية مرة بعد أخرى، قبل ان نستيقظ ونجد على الجهة الاخري من الصراع صديقًا كان معنا بالأمس.