صراع العروش | لماذا لا يكتب جون سنو الشِعر؟

منشور الثلاثاء 8 أغسطس 2017

في مسلسل "صراع العروش" يوجد الكثير من المتنافسين للحصول على السلطة، كما أن هناك مَن يريد سواد الفوضى ليحقق مصالحه، هذا غير مَن يتصارعون من أجل المال أو الانتقام أو النساء، شخصية واحدة لا تسعى لأي من العروش، جون سنو، البطل الأبرز في المسلسل. 

جون بطل مغاير لصورة الأبطال الدرامية المعتادة، ستجده رجلًا هائمًا بملامح عابسة، ولا يحرص على إزالة لحيته أو تهذيب مظهره كثيرًا، ليس شريف النَسَب، وبينما يلهث المشاهدون من أجل الكشف عن هويته، لا يُبِد اهتمامًا كبيرًا بذلك ويرضى بكونه "لقيطًا". 

هذا الرجل رث الهيئة من أبرز شخصيات السلسلة، رغم أنه آخر من يؤمن بذلك، حتى أنه يستاء ويخجل عندما يثني أحدهم عليه، أو يتحدث عن كراماته الخارقة، وهنا يكمن سر جون، فهو يعيش فقط بصفته ابنًا للجليد، وكشخص غريب عن الحياة، لا يكترث للصراعات النابعة عن الغرائز الإنسانية. يتسامى عن ما يفتن جنسنا، لا يهتم بأن يعرف أنثى في سنوات مراهقته، رغم أن الأعراف تبيح ذلك. 

المسألة ليست في أن جون رجل صوفي يزهد في السلطة والمال والنساء، هو فقط ينظر للحياة بشكل أعمق وأكثر إدراكًا من غيره، لا يستثيره ما يستثير أغلبنا، هو أكثر فهمًا لمعنى الحياة من أغلب بني جنسه، الحياة عنده هي الوجود الكلي. قِيَمه لا تشوبها النسبية، ينحاز للضعيف ولمَن يعرف أن بداخله الخير، يمكن أن يدفع حياته من أجل رجل لا يعرفه. المدهش أنه لا يرى ما يفعله أمرًا استثنائيًا، بل يراه بديهيًا، يتحرك دون إطلاق العنان لشيطاني الخوف والبطولة. 

اقرأ أيضًا: لِمَن العرش اليوم

عندما صاغ جورج ر.ر . مارتن (مؤلف الرواية) شخصية جون سنو لم يعطه اسمًا خياليًا كأغلب شخصيات النص، كان هناك في الحقيقة رجل يحمل هذا الاسم، رجل خالف سلوك البشر المعتاد في منتصف القرن التاسع عشر، واستطاع أن يقود بني جلدته تحو النجاة من عدو كاد أن يفتك بهم. لا نبالغ إذا قلنا أننا جميعًا مدينون له، هذا الرجل، جون سنو الحقيقي، هو مكتشف سر انتشار وباء الكوليرا، وعلى عكس كل متخصصي عصره، افترض الطبيب جون سنو ان الوباء ينتشر عبر المياه وليس الهواء، خالط المرضى دون أن يشرب مياههم، لم يثنه تهكم الجميع عن المضيّ قدما في تأكيد فرضيته، حتى أثبتها بالفعل، وبعدها اقتنع الجميع بنظريته واتبعوه، وتم إعادة صياغة طريقة تعامل  البشر مع المياه بعد اكتشاف جون سنّو، وأنقذنا جميعا من خطر الموت بوباء الكوليرا.

يصارع جون سنو في المسلسل عدوًا يعتقد أغلب البشر أنه وهم، لكنه الحقيقة عينها، وهل هناك حقيقة سوى ملك الموت؟ إن الفناء قادم لا محالة، كل هذه العروش والأموال والرغبات هامشية وستزول، ليس هنالك معنى للحياة سوى محاربة الفناء، ولكي تحارب عدوًا ما فعليك أولًا الاعتراف بوجوده، يُنذِر سنو البشر بقرب الفناء، ويدعوهم للإيمان بهذا أولًا ثم مواجهته عن طريق التخلي عن كل هذه الغرائز والأنساب. يتسق هذا مع هوايته في التفاخر بكونه لقيطًا، جون لا ينحاز لأحد سوى حق عالمه في الوجود، وفي المقابل يتخلى عن رغبته في الانتقام لعائلته، وعن البقاء مع  معشوقته الأولى، وعن تلبية الكثير من الرغبات، كم غريب هذا فعلًا؛ كيف تدافع عن عالم تخلى عنك منذ طفولتك، وتتخلى بدورك عن كل إغراءاته؟

الإجابة ليست "أنت لا تعلم شيئا جون سنّو" كما تخاطبه النساء المفتونة بعذرية روحه. وصف ديفيد بنيوف ودان ويس، وهما من مؤلفي المسلسل ومنتجينه، شخصية جون سنو بأنها "تتفهم تمامًا طبيعة العالم الموحشة، وهدفها الرئيسي هو مواصلة النضال وتحقيق النصر دون خسارة مبادئها، رغم ان عائلته سبق وأن هُزمت بسبب تمسكها بالمبادئ". هو يعتقد أن الحياة غير قادرة على دفعنا نحو التنازل عن مبادئنا، وإذا نجحت فهذا يجعلنا ضعفاء.  

 

المثالي في شخصية جون سنو أنه ليس مثاليًا، لدرجة إنه يبغض تميزه في المبارزة والقتال، ويوجد من هم أكثر منه ذكاء وقوة، يفعل الكثير من الأخطاء، ولا يمكن القول بتمتعه بمهارات سياسية أو عسكرية فذة، حتى أنه كاد أن يخسر معركة "اللقيطين" لولا تدخل سانسا وبيتر بيليش.  هو قائد غير شعبوي، لا يسعى إلى إرضاء أتباعه قدر ما يهتم بالمضيّ في الطريق الصحيح، بل أن أحد أخطائه أدى الى مقتله من قبل تابعيه. لكن لأنه يدافع عن الحق في الحياة، تدافع الحياة عن حقها في استمراره.  

في نفس الوقت لا يرى جون سنّو أن هناك داعيًا للكذب أو الخداع، هو حتى لا يَعِد أتباعه بالانتصار على قوى الموت، لكن هذا لا يثنِه عن المحاولة، وقد تحترمنا الحياة إذا توحدنا لقتال الموت، وهذه هي الفرصة الوحيدة في النجاة.

بالنسبة لي، جون سنو هو أكثر الشخصيات منطقية في صراع العروش، خصوصًا في دوافع أفعاله، وإذا كانت لي إضافة على شخصيته، فكنت سأجعله يقرض الشِعر أيضًا، يبحث عن الكمال وهو رث الهيئة، دون أن يدري أن الكمال يكمن داخله، وسأقوم باستغلال هذه الإضافة في تكثيف فلسفته ورؤيته للحياة وتوثيقها، وربما سيقول في أحد أبيات قصائده: "لا تندهش إن ضبطتني مبتسمًا، فأنا لستُ بطلًا".