"ضل الراجل" في محكمة الأسرة

منشور الأربعاء 9 أغسطس 2017

"ضل راجل ولا ضل حيطة" مثل شعبي كان دافعًا لكثيرات من النساء إلى المسارعة للزواج من أول شخص يبدو مناسبًا يطرق باب أسرتهن طالبًا إياهن للزواج. هذا المثل عينه جعل عديدات منهن يتحملن سوء المعاملة لسنوات، قبل يتوجهن إلى ردهات محكمة الأسرة لتتحول حياتهن إلى بضعة أوراق في ملف قضائي ينتظر الفصل فيه بعد أشهر، أوسنوات

هنا في محكمة الأسرة التي نظرت ربع مليون قضية مرفوعة من النساء للمطالبة بالطلاق أو الخلع خلال عام 2015 وحده. بخلاف قضايا إثبات النسب والنفقة؛ أغلب المتقاضيات الذين تحدثت إليهن، كن من النساء اللائي يفضلن الزواج على العمل عادة، وبحسب دراسة عن مركز رصد قضايا المرأة نشرت عام 2013، فإن 75% من نساء مصر يفضلن الزواج على العمل، بعدما تربين على المثل سالف الذكر. 

قبل تلك الرحلة لمحكمة الأسرة لم اكن أتخيل أن يكون حال النساء في علاقاتهن بأزواجهن على هذا القدر من السوء، لكن تلك الرحلة مع صديقتي التي ذهبت للتنازل عن كافة القضايا التي رفعتها ضد طليقها للحصول على حقوقها المادية بعد الطلاق، مقابل أن  يسمح لها باسترداد ابنها، جعلتني أرى كيف تحول "ظل الرجل" في حياة كثير من نساء مصر إلى شبح جاثم على أنفاسهن ينتزع منهن أبسط حقوقهن في الاستقرار النفسي والمادي. 

كابوس الحب 

بدموع صامتة و نظرة منكسرة، افترشت إحدى السيدات أرض طرقة المحكمة ببني سويف. روت لي - شريطة عدم ذكر اسمها- عن زواجها الذي دام 10 سنوات بعد قصة حب جمعتها وزوجها، لكن الزوج وجد أن الحب يبيح له ضرب زوجته وإساءة معاملتها بعدما أنجبت منه طفلين، ظنًا منه أنه ضمن بقاءها في حياته بعد وصول الطفلين. "أنا هنا اليوم للتنازل عن كافة القضايا التي رفعتها ضده للحصول على النفقة ومؤخر الصداق وحقي في قائمة المنقولات رغم أني ربحت هذه القضايا، لكني أخشى أن أفقد أولادي إن أصررت على الانفصال، لذا سأعود وأعيش معه مرغمة حتى أضمن بقاء أولادي معي". 

هذا الصدى يتردد في العديد من الحكايات الأخرى التي ستسمعها مثلي إذا قضيت يومًا في إحدى محاكم الأسرة، وجلست لتستمع لحكايات النساء. كثير منهن أتين للحصول على نفقة لهن ولأولادهن بعدما قرر الزوج التخلي عن أسرته الأولى لصالح زوجة وأسرة ثانية، أو لمجرد الرغبة في توفير الأموال وعدم شعوره بالمسؤولية عن نفقات أولاده من الأساس. كثير من هؤلاء النساء أتين للتنازل عن القضايا كصديقتي خشية فقد الأبناء.

المحامية ر. س التى تخصصت في قوانين الأحوال الشخصية تقول: "مع الأسف جهل الكثيرين بقوانين الأحوال الشخصية يوقعهم فى مشكلات عدة ثم يلجاون لنا فى النهاية .كثير من السيدات يلجأن لرفع دعوى النفقة لها ولأولادها لأن الزوج يرفض الإنفاق عليهم. تستغرق هذه القضية وقتا، لكن المماطلة من قبل الزوج لا تأتى الا بنتائج عكسية لأن ذلك يجعل المبلغ يتراكم على الزوج شهريا ويحصل على حكم بالسجن إن لم يسدد المبلغ. ولكن كثيرات لا يستطعن تحمل مدة التقاضي الطويلة نظرا لظروفهن الاقتصادية الصعبة و خصوصا إن كان لديهن أولاد".

في أبريل/ نيسان الماضي، بدأ البرلمان في استعراض مشروع قانون مقدم لتعديل قانون الأحوال الشخصية القائم. وفور الإعلان عنه نشطت صفحات فيسبوك التي أسسها رجال يطالبون بتعديل القانون من أجل منح الرجل صلاحيات وحقوق أوسع في رؤية واستضافة وحضانة الأطفال بعد الطلاق. مطالبات الرجال أثارت ذعر النساء.

لهذا الذعر ما يبرره: يقول المحامي علي محمد - تم تغيير الاسم بناء على طلبه- "بعض الأباء يقومون بخطف الأولاد و حرمان الأم من حضانتها لأبنائها لإكراهها على التنازل عن حقوقها، وكثيرًا ما تُعرض علينا هذه القضايا ونستصدر أوامر قضائية باقتحام بيت الأب وتفتيشه بحسب عنوان السكن المثبت رسميًا. الأباء يعرفون هذا ويقومون بتهريب الأولاد خارج المسكن المُثبت، ولا يحق للشرطة تفتيش بيت أي من أقارب هذا الأب أو أية عناوين أخرى له غير مثبتة رسميًا. وفي النهاية تتنازل النساء عن حقوقها والحقوق المادية لأبنائهن مقابل استعادة الأولاد".

                                             

 

ضل الحيطة 

بحسب البيانات الرسمية الصادرة عن المجلس القومي للمرأة؛ فإن 30% من الأسر المصرية تعولها النساء. هذا الرقم يظهر أثره بجلاء في حكايات العديد من النساء اللائي أتين إلى محكمة الأسرة لطلب الطلاق، ربما أملا في أن يقل عدد الأفواه التي يتوجب عليهن إطعامها، من خلال نهاية علاقتهن بالأزواج المتكاسلين عن العمل. 

ما سمعته من حكايات، جعلني أتتبع وضع المرأة المعيلة في مصر من خلال النسب و الإحصاءات التي تعطيها لنا المنظمات الحقوقية والمراكز القومية للبحوث، فكان الواقع أكثر من صادم إذ تكشف الدراسات عن كونها ظاهرة متفشية وليست مجرد حالات فردية لنساء معدودات تسعين للخلاص.

فمع أن المجلس القومي للمرأة يعلن أن نسبة الأسر التي تعولها النساء هي 30%، يزيد هذا الرقم في بيانات المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية الذي يحددها بنسبة 34%. ورصدت بعض المنظمات الحقوقية أن النسبة تصل الى 38%، وأعلى نسبة  للنساء المعيلات هي للمطلقات والأرامل، وتبلغ ذروتها في محافظة سوهاج إذ تصل لنسبة 3.22% من تعداد سكان المحافظة.

و رغم أن لدينا مادة فى الدستور تلزم الدولة بحماية المرأة المعيلة، إلا أن هذا الالتزام الدستوري لا يُترجم على أرض الواقع، حتى مع تأزم الظروف الاقتصادية وارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات، ومع كون النساء العاملات لا تزيد نسبتهن عن 22.9% من النساء المصريات. بينما أغلب النساء المعيلات حُرمن من استكمال تعليمهن، وربما حرمن من التعليم في المجمل، ما يصعب من فرصهن في الحصول على فرصة عمل كريمة تلائم ظروفهن واحتياجهن لمصادر للدخل.

الشيخ أحمد محمود أحد شيوخ الأزهر يعلق على الأمر من الناحية الدينية قائلاً: جعل الإسلام الزواج سكنا ورحمة، وأمر أن تكون المعاشرة بالمعروف أو تسريح باحسان. وأحذِّر من يجعل زوجته تتنازل عن حقوقها عنوة وبالإكراه أن عذابه عند الله شديد كما يأمر ديننا الحنيف الرجل بالإنفاق على أولاده، بل وحدد الاسلام نفقة للمرأة تسمى نفقة الرضاعة إن كانت تُرضع أي من أولاده. ومن يحرم أم من أبنائها أو يرفض الإنفاق على أولاده فهو آثم وحسابه عند الله شديد. 

ويرى أحمد مطر وهو اخصائي اجتماعي بوزارة التربية و التعليم في محافظة الفيوم وله عدة دراسات حول حالات لطلاب كانوا ضحايا للتفكك والعنف الاسري، أن المجتمع المصري يمر بتغيرات شتى تترك أثرها على الأسرة المصرية ربما للظروف الاقتصادية الصعبة التي تكاد تفتك بالعديد من الناس، وربما لتأخر سن الزواج وخوف المرأة من خلع المجتمع عليها لقب عانس. هناك أسباب عدة أدت الى ظهور "ضل الراجل الذى لا نفع منه".

يواصل مطر: المرأة صارت تتحمل كافة مسؤوليات الأسرة من إنفاق وخدمة الأولاد والاهتمام بالمنزل، وحتى اقتصار دور الرجل على كسب المال الذي تحتاجه الأسرة؛ هو دور آخذ في التآكل، وصار بعض الرجال يطالبون النساء بالإنفاق عليهم هم أيضًا وليس على الأولاد فقط، وهي من الظواهر المجتمعية المسكوت عنها التي لم تنل نصيبها الكافي من البحث. 

 واللافت أننا نجد من النساء من تقبل بكل ذلك حفاظًا على ظل الرجل، وحتى لا تعاني من الوصم إذا ما أصرت على الانفصال، حيث ينظر لها المجتمع باعتبارها زوجة غير وفية تتخلي عن أبو أولادها في محنته واحتياجه إليها. ومنهن من تقاوم ذلك الوضع لتجد نفسها في دوامة لا تنقطع من القضايا على أمل استرداد شيء من حقوقها، أو الخلاص من عبء الزواج برجل غير مسؤول. ولكن يزداد الأمر صعوبة في حال تخلي أهلها عنها ورفضهم تحملها أو تحمل أبنائها، أو إجبارهم لها على الاستمرار في هذا الزواج الفاشل خوفًا من الطلاق و"كلام الناس". 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.