تعويم وبطالة وتقشف.. وداعًا طموحات الطبقة الوسطى

منشور الاثنين 17 يوليو 2017

من المفترض أن تشعر ياسمين ربيع، طالبة السنة الأولى بكلية الإعلام بالجامعة الكندية، بالحماس حيال مستقبلها بعد التخرج، لكنها على العكس من ذلك؛ تتحدث بيقين عن كونها لن تتمكن مستقبلا من إيجاد فرصة عمل تتصل بمجال دراستها: "أملي الوحيد أن يكون معدلي التراكمي في نهاية السنة الرابعة كافيًا لتقرر الكلية تعييني معيدة في الجامعة، الاختيارات الأخرى تنحصر في جلوسي بعد التخرج بلا عمل".

طموح ياسمين الشخصي لم يكن العمل الأكاديمي الذي صارت تأمل فيه كبديل وحيد للبطالة التي تتهددها،  إلا أن العمل الأكاديمي بالنسبة لها أفضل من مصير  شقيقها خريج هندسة البترول، الذي يمضي عامه الثاني بعد التخرج في المنزل بلا عمل، ليحتل موضعًا في قائمة تضم 3 ملايين ونصف مليون متعطّل من الحاصلين على الشهادات العليا، بحسب بيانات الجهاز  المركزي للتعبئة والإحصاء. 

البيانات نفسها تشهد أن 79.1% من المتعطلين هم من أبناء الفئة العمرية (15-29 سنة). لم يكن الأخ يتصور وهو يخطو إلى كليته التي تعد أرفع كليات الهندسة في مصر ،أن يكون مصيره هو ما آل إليه، خاصة وأن والده يعمل مديرًا عامًا لإحدى شركات البترول الخاصة، تقول ياسمين: "حتى الواسطة مش نافعة".

ماتخشاه ربيع، لايتعلق فقط بمستقبلها المهني، ولكنها - كباقي أبناء طبقتها- تخشى الانزلاق نحو الطبقة الأدنى، وأن تفقد أسلوب حياتها الذي اعتادته.

يبدو قلق ياسمين مبررًا عند النظر إلى التقارير الاقتصادية الدولية التي تقيس تأثير السياسات الاقتصادية على البنية الاجتماعية في مصر، ومنها تقرير  صادر في نهاية 2016 عن بنك كريدي سويس المتخصص في تقدير الثروات، يقول إن مصر تشهد أكبر تراجع للطبقة المتوسطة منذ بداية الألفية، لتتقلص إلى 5% فقط من الشعب المصري بأسره.

مسار والدها المهني كان واحدًا من خيارات أبناء الوسطى المضمونة للحفاظ على مستواهم الاقتصادي والترقي الاجتماعي، منذ صار القطاع الخاص بديلا مضمونًا للدخل المستقر الجيد، في الفترة التي تلت ما يسمى بالانفتاح الاقتصادي. 

لكن خيار أبيها والخيارات الموازية كالترقي في السلك الحكومي أو العمل بالخارج -بالخليج تحديدًا- أو العمل بالتجارة، لم يعد ضامنًا للحفاظ على المستوى الاجتماعي القائم، مع تسارع خطوات الحكومة في المسار الاقتصادي الحالي. ورغم أن ياسمين تعد نفسها محظوظة بين أقرانها؛ إلا أنها تقلق كثيراً حيال مستقبلها ووضع عائلتها والوضع الاقتصادي  العام: "بابا بيقول إن في مشاكل وتوقف كثير في التنقيب عن البترول، حتى وظائف البترول اللي تعتبر أحسن حاجة مابقتش زي الأول".

ورغم اختلاف مساراتهما، يشارك  أحمد طه ياسمين قلقها، وإن كان يتجاوزها في خشيته ألا يتمكن يومًا من "فتح بيت".

ورث أحمد مسار أبيه المهني كموظف بإحدى وزارات الدولة، ويحيا في القاهرة بعيدًا عن عائلته التي انتقلت إلى الوادي الجديد واستقرت هناك مع وصول والده لسن المعاش. يتوزع راتب أحمد بالكامل بين مصروفاته الشخصية ومصاريف الدراسات العليا التي أنجز منها رسالة الماجيستير. لكن الوظيفة الحكومية في نظره تبقى مسارًا آمنًا: "هي ضمان ألا أبقى بلا عمل أو أن يحدث معي كما الموظفين في الشركات الخاصة، فيتم فصلي تعسفيًا أو يتأخر راتبي، لكنها لا توفر أكثر من ذلك".

 

غرفة أحمد طه في الشقة التي يستأجرها في محافظة الجيزة

يزيد التعويم، الذي بدأ في نوفمبر/ تشرين ثان الماضي، من مصاعب طه الاقتصادية، وسط متطلبات ثابتة يجب عليه توفيرها لمعيشته في القاهرة، بداية من إيجار شقته في محافظة الجيزة وحتى متطلباته اليومية من مأكل ومشرب وملبس، خاصة وأن الوظيفة الحكومية، وإن كانت أكثر أماناً بالنسبة إليه، إلا أنها لم تكن حتى ترضي تطلعاته الاقتصادية قبل التعويم. 

وفقاً لبحث الدخل والإنفاق والاستهلاك، الذي نشره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في يوليو/ تموز 2016 -قبل التعويم- فإن 27.8% من مواطني مصر لم تكن لديهم القدرة على الوفاء باحتياجاتهم الأساسية في 2015، وهي النسبة التي زادت بعد قرار تحرير سعر صرف الجنيه وما تلاه من تبعات، الأمر الذي صار يهدد الأمان الاقتصادي الذي رجاه طه من وظيفته الحكومية، خاصة مع قفزات الأسعار ومعدّل التضخّم الذي وصل أبريل الماضي إلى 31.5%.

كملايين الشباب المصريين يفكر طه في السفر لتحقيق طموحاته، ولكن حتى السفر ليس سهلاً ولا يعد بتلبية الطموح: "أخي يعمل رئيساً لقسم التخطيط المدني بإحدى الشركات في السعودية ويشتكي من الوضع في السنوات الأخيرة، خاصة مع المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها الخليج حالياً، هو يفكّر في  الرجوع".

ينتمي كل من ياسمين وأحمد إلى الطبقة المتوسطة، التي انحدر منها ما يقرب من الـ10% إلى الفقر بحسب صحيفة تايمز التي قالت في تقرير نشرته في 8 نوفمبر الماضي -أي بعد قرار التعويم بخمسة أيًام- إن مصريون عاملون بالسياحة، يعيشون على المساعدات الغذائية (التموين)، وهي مساعدات من المفترض توجيهها لمحدودي الدخل.

                                     

مظاهرة لحملة الماجستير أمام مجلس النواب يوليو 2016

 

حلم الأرقام

 

تركز المجموعة الاقتصادية للحكومات المصرية المتعاقبة على رفع معدلات النمو إلى المستوى الذي كان عليه في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، من خلال جذب الاستثمارات أجنبية واحتواء عجز الموازنة وتحول السياسة النقدية نحو التعويم الكامل للجنيه بالإضافة لمحاولات السيطرة على التضخم، وهو ما يسميه الباحث الاقتصادي عمرو العادلي في مقاله على موقع مركز كارينغي للشرق الأوسط في 2014، بالتعافي الاقتصادي على المدى القصير، دون النظر إلى أهمية إعادة النظر في الأركان التي يقوم عليها النموذج الاقتصادي- الاجتماعي المصري.

اقرأ أيضًا: عند الحكومة.. 1+1=3

تظهر رؤية العادلي جلية في توجهات الحكومة المصرية منذ قرار التعويم وحتى الآن، من خلال الاحتفاء المستمر بسد عجز الموازنة مقابل رفع الدعم عن الكهرباء والمياه والغاز والمحروقات، والتركيز على زيادة الاحتياطي الدولاري، مقابل انخفاض كبير لسعر الجنيه المصري أمام الدولار.

كلّفت قرارات الحكومة الاقتصادية والد ياسمين، وأحمد وآخرين من أبناء الطبقة الوسطى، ارتفاعات متتالية لأسعار المواد الغذائية، والكهرباء والمياه والغاز وحتى المواد البترولية التي أضرت بياسمين ووالدها في تكاليف بنزين سيارتهما، وأحمد في تكاليف مواصلاته وحياته عمومًا.

اقرأ أيضًا: هل كان هناك مبرر فعلي لرفع أسعار الوقود؟ 

ياسمين لاتعلم ما حلّ المشكلة الاقتصادية التي تقلق من تأثيرها عليها في السنوات القادمة: "أظن أن على الدولة توفير وظائف، أعلم صعوبة الأمر لكن كيف للناس أن تحاول حتى سد احتياجاتها دون فرص عمل؟"

 

شاب يتظاهر رفضًا للفقر والبطالة والتعذيب - 25 يناير 2011

في مقاله الذي سبقت الإشارة إليه، لا يبتعد الباحث المتخصص عمرو العادلي عما تطرحه ياسمين فهو يرى ان الدولة المصرية عليها أن تعيد النظر في دورها في الاقتصاد، من خلال التفكير في علاقتها بنموذج التنمية في مصر وما يتضمنه من ارتفاع في معدلات البطالة، مع التأكد من قدرة الوظائف على تحسين مستوى المعيشة للأفراد، والنظر للعامل السياسي المرتبط باقتناع الناس بمدى انحياز سياسات الدولة الاقتصادية لهم.

ربما تكون "أمينة موسى" مثالاً جيدًا على ما يقصده العادلي في مقاله بخصوص مدى قدرة الوظائف على تحسين المستوى المعيشي لأفرادها، فعلى الرغم من كونها معيدة بإحدى الجامعات الخاصة؛ إلا أنها صارت تقضي الأيام الأخيرة في كل شهر بكثير من التقشف لتستطيع مواجهة موجة ارتفاعات الأسعار الأخيرة: "الأمر لا يخصني وحدي، الأساتذة الجامعيون الذين يتقاضون أضعاف مرتبي يعانون من الأزمة الاقتصادية وغلاء الأسعار".

بعكس أمينة التي تعيش في القاهرة، فإن والدها المقيم في المنوفية ترك دراسته منذ  المرحلة الابتدائية مؤمنًا أن المستقبل في التجارة، ليقوم على إدارة أرض امتلكها والده، واستطاع تكوين تجارة جيدة من نتاج عمله، لكن آثار السياسات الاقتصادية والنقدية للدولة طاله أيضًا، فبحسب أمينة، تعاني تجارة والدها في المنتجات الزراعية من ركود أثّر على دخله.

تفكّر أمينة بالاستفادة من تجربة والدها وخوض التجارة، بجانب إكمالها الدراست العليا: "أعرف زميلات لي يقومون بشراء ملابس جاهزة وبيعها، أفكر في تجربة مماثلة لتنويع مصادر دخلي والحفاظ على المستوى الذي كنت أعيشه قبل التعويم".

تعتقد أمينة أن مسارها الأكاديمي لن يحميها -مهما بلغ منصبها وراتبها- من أية تقلبات اقتصادية، مستشهدة بما تواجهه حاليًا من صعوبات معيشية منذ نوفمبر الماضي: "ماحدث علّمني أن تنويع مصادر دخلي ضرورة لأستطيع العيش".

خليج الكفاف

                                

في تقرير نشره موقع "ساسة بوست" عن وضع الطبقة المتوسطة بعد التعويم، تقول سامية خضر، أستاذة في علم الاجتماع، جامعة عين شمس، أن كثير من أبناء الطبقة المتوسطة يعيشون في الخليج، وهو ما يوفر لهم جماية من التقلبات الاقتصادية في مصر. لكن لتقوى محمد رأي آخر.

اقرأ أيضًا: خطة السعودية 2030 تربك حسابات المصريين 

تقوى محمد، شابة في منتصف العشرينات، عُقِد قرانها قبل شهر على مهندس يعمل في  قطر، وهي نفس الدولة التي عمل بها والدها طبيبًا حتى انتهائها من شهادة الثانوية العامة. تقول تقوى إن قدرة العمل في الخليج على توفير حماية اقتصادية لأصحاب فرص العمل فيه تضاءلت مقارنة بالوضع قبل سنوات، حين كان والدها يعمل هناك:"صارت المسألة تعتمد على نوع الوظيفة التي يمارسها العامل هناك، الوظائف المتوسطة والصغيرة لم تعد مجزية كما يتصور الكثيرون".

تضيف تقوى: "ربنا تمنح هذه الوظائف عوائد أفضل مما تمنحه في مصر، لكن ما تستطيع إدخاره أو [استخدامه في] شراء أي حاجيات خارجة عن نطاق المصروفات الشخصية واليومية  يعتبر منعدمًا تقريبًا".

على الرغم من أن دول في الخليج تنتهج سياسات تقشفية تقلل من فرص بقاء غير الخليجيين للعمل، خاصة في بلدان كالسعودية والكويت، لكن تقوى لا تزال ترى أن وجود فرصة للعمل في الخليج تعد أفضل من العمل في مصر، نظراً لقلة التقلبات الاقتصادية التي يشهدها الوضع هناك، ذلك أن العائد من العمل هناك يضمن جودة أفضل في الحياة.

تتفق بيانات موقع Numbeo، وهو أكبر قاعدة بيانات لجودة الحياة في مدن العالم كما تصفه مجلة فوربس الأمريكية، مع وصف تقوى لجودة الحياة في مصر. فعلى الرغم من أن تكلفةالمعيشة في المدن لمصرية تعتبر قليلة مقارنة بغيرها؛ إلا أن القوة الشرائية للمواطنين بها أيضًا منخفضة. وفي دراسة مسحية لـ InterNations، أكبر شبكة للعاملين المغتربين، صُنّفت مصر كرابع أسوأ دولة من حيث جودة الحياة، كما نقلت صحيفة Business Insider.

تقول تقوى: "لن نستطيع الإدخار كوالدي، لكننا سنستطيع توفير مستوى معيشي أفضل مما يمكننا توفيره في مصر، حتى لو تقاضينا نفس العائد. هنا جودة الحياة والمأكل والملبس أفضل، يمكنني توفير الكثير مما أحتاجه بشكل أفضل وأقل صعوبة من مصر، حتى لو بنفس المقابل".