لقطات لقصف بيت في مدينة بطائرة حربية إسرائيلية بعد ظهر يوم 19 يوليو 2014

من ذاكرة حرب تمّوز 2014 على غزة.. الجزء الثاني: خلف خطوط العدو (شهادة)

منشور السبت 8 يوليو 2017

السابع عشر من تمّوز

على وقع الصواريخ الفلسطينية التي أمطرت مُدن الداخل الإسرائيلي، بدأت تل أبيب مساء السابع عشر من تمّوز (يوليو) استدعاء آلاف جنود الاحتياط قبيل الإعلان رسميًا عن إطلاق عملية برية في قطاع غزة، صباح اليوم التالي. 

مع توغل العدو لداخل الحدود بدأ الخوف على أسرتي التي تقطن على الحدود الشرقية لخان يونس، فكنت عندما أهاتف والدتي لأطمئن عليها وعلى أخوتي تدّعي أن الأمور على ما يرام وأن القوات البرية الإسرائيلية لم تتقدم في منطقتها، ولكن تلك لم تكن الحقيقة. 

كان العدو قد توغل إلى تلك المنطقة وهدم منزلنا بالفعل واشتبك مع عدد من المواطنين في هذه البقعة الريفية الزراعية. 

ومثلما أخفت والدتي أنباء التوغل الإسرائيلي، والاشتباكات، وهدم المنزل، أخفت كذلك أنباء ارتقاء ابني عمي سلمان حامد العمور وثائر العمور خلال معركة لأيام في منطقتنا، كذلك أخفت مصير ابن عمي الأقرب إبراهيم سعيد العمور وصديق الدراسة باسل أبو النجا، لاحقاً علمنا أن العدو اختطف جثمانيهما لمساومة المقاومة، أو ربما انتقامًا. 

عدت إلى المنزل متأخرًا، سرت وحدي في الطريق للمنزل وكأن المدينة التي تعج بالحياة باتت مهجورة.

اقرأ أيضًا: من ذاكرة حرب تمّوز 2014 على غزة.. الجزء الأول: أمطار المقاومة (شهادة)

فجر العشرين من تموز (يوليو)، تنقلب الدنيا رأسًا على عقب مع تحليق المقاتلات الإسرائيلية على مسافة قريبة جدًا، وإطلاقها قنابل اهتز لها البنيان والأبدان. مثل ليلة القيامة، في الصباح كانت عائلات فلسطينية تفر من حي الشجاعية الذي تعرض لقصف طوال الليل، حفاة، يحملون أطفالهم بين أذرعهم ويفرون كالفارين من أشباح، كان صباحًا مؤلمًا لا تصفه بضع كلمات.

كانت جثث المدنيين في الطرقات بينما النساء تصرخن "أنقذوا أطفالي". أما الطواقم الصحفية، فلم تملك سوى الدموع، كان شعور بالخذلان والوحدة. إن المصاب جلل.

كان السؤال عالقًا، عن السبب الذي أدى بإسرائيل إلى القيام بهذه الضربة الموجعة التي لا تأتي مثلها إلا انتقامًا من ضربات موجعة للمقاومة؟ 

مع ساعات ظهر اليوم نفسه بدأ العدو يعترف بمقتل عدد من جنوده في معارك ضروس مع رجال القسّام حتى وصل عدد قتلاه في تلك المعركة أكثر من 14 قتيلا وإصابة العشرات، ولكن هذا لم يكن كلَّ شيء. 

في المساء وبعد قليل من انطلاق مدفع الإفطار، توالت الأنباء عن خطابٍ هام مرتقب بعد قليل لمسؤول في لكتائب عز الدين القسام (الجناح العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية حماس)، وبالفعل، لم يمر وقت طويل حتى ظهر المسؤول المُكنّى "أبو عبيدة"، ملثمًا وخلفه قبضة تمسك بجندي إسرائيلي، وألقى خطابًا جاء فيه "الذي لم يعترف به العدو اليوم هو فقده لأحد جنوده". 

وما أن أعلن أبو عبيدة ما أعلنه، حتى انقلب الحزن فرحًا، خَرَجَتْ كل غزة عن بكرة أبيها فرحة بنبأ أسر الجندي الإسرائيلي، من كان يبكي حزنًا في الصباح، بكى في المساء فرحًا.

التاسع والعشرين من تموز، كتائب القسام تنفذ عملية إنزال جديدة خلف خطوط العدو، لكن هذه المرّة كانت تختلف عن كل العلميات السابقة التي نفذت خلالها المقاومة عمليات إنزال، لذا لن ينسى الفلسطيني عملية "إنزال ناحل عوز" لما شعر فيها من فخر وعزة.

في الليلة التالية انقلب حال المواطن الفلسطيني من الحزن على الشهداء، إلى الفخر والعزة، بعد أن بدأت الأنباء تتواتر عن خطاب هام للقائد العام لكتائب القسام محمد ضيف، ذلك الرجل الذي لا نعرف إلا صوته، وصور قديمة له عمرها عشرات السنين. 

ترقبنا الخطاب ونحن على يقين أن محمد ضيف لا يخرّج إلا لهام. 

تجمعنا حول شاشات التلفزة في مكتبنا نتابع الخطاب، وبدأ خلاله القائد يسرد حديثه حتى انتهى وجاءت المفاجأة، مقطع فيديو مصور لعملية إنزال رجال القسام خلف خطوط العدو وقتلهم لجنود من مسافة صفر، وهي المرة الأولى خلال الصراع العربي الإسرائيلي الذي توثق فيها عدسة الكاميرا فلسطينيًا يبطش بجنود الاحتلال. 

يومها احتفل المئات في الشوارع. 

 

عقب العملية التي نفذتها كتائب القسام سعى الاحتلال للانتقام من المواطن الفلسطيني المدني بعد فشله في صد صولات المقاومة وجولاتها، أكثر من 140 مدنيًا كانوا ضحية الثأر الاسرائيلي. 

كنت في هذه الأثناء استطعت الاطمئنان على والدتي ورؤيتها للمرة الأولى منذ بدء الحرب. 

في الأول من أغسطس/آب توجهت الطواقم الصحفية وكنت معها لتغطية انسحاب قوات الاحتلال من منطقة خزاعة. ولكن على أثر انسحابنا من خزاعة عقب تجدد القصف المدفعي سلكنا طريقنا نحو مدينة رفح لتجنب الإستهداف المباشر ، كانت المرة الأولى التي أشعر بها أننا قد بتنا قاب قوسين أو أدنى من الموت، كان هدفنا في بداية خروجنا من المكتب تغطية مذبحة "خزاعة"، توقعنا مع الزميل بلال سالم أن نكون نحن الضحايا قبل عودتنا.

تملّك العجز مِنّا ونحن نرى أشلاء الأطفال والنساء في الطرقات، أذكر تمامًا تلك الأسرة التي كانت تفر على عربة يجرها حمار، ويحاولون قطع الطريق سريعًا، أقدر العدد بعشرة من الأطفال والنساء والرجال، قبل أن تغدر بهم طائرات الاحتلال.

بعد هدوء حدة القصف الاسرائيلية على الطرقات سعينا للإقتراب من المنطقة التي تسُكنها أسرتي "الفخاري" ومن على إحدى التلال المجاورة رصدنا تلك المنطقة التي كنت أحفظها شبراً شبر وقد غير الاحتلال ملامحها وجرف معظم بيوت تل المنطقة وعلى أنقاض تلك المنازل وقفت عدداً من المدرعات الاسرائيلية.

للحظات سيطر شعور الصدمة عليّ حين لمحت منزل أسرتي أعمامي وقد تحول إلى ركام تعتليه دبابات الاحتلال، ولكن لم يكن هناك وقت للاستسلام للصدمة، إذ كان لزامًا علينا أن نغادر مسرعين قبل أن ترصدنا الدبابات. 

مرت علينا عدة أحداث مؤلمة جدا عقب مذبحة رفح ومنها عملية اغتيال قيادة رفح العسكرية في كتائب القسام واغتيال زوجة وابن القائد العام للقسام، إلى أن انتهت الحرب بصمود الشعب وإبداع رجال المقاومة وخذلان الحكومات.