نهاية دولة يوليو

منشور الخميس 22 يونيو 2017

في 2014، عادت دولة يوليو في ثوب جديد، مزيحة من أمامها حكم الإخوان القصير، والحراك الشعبي الطويل الممتد من 2011 إلى 2014. ليجد هذا الجيل الذي كان يسعي لإنتاج شرعية جديدة قائمة على "حركة الشعب"، وليس "حركة الضباط" أنفسهم، أمام "حركة جنرالات"، يتم الترويج لها باعتبارها امتدادًا لدولة يوليو. فماذا بقي من ميراث يوليو؟ وكيف أجهز النظام الحالي عليه؟

محاور دولة يوليو الثلاث

إذا أردنا اختزال ثوابت دولة يوليو في الذاكرة الجمعية للمصريين، فيمكن أن نحددها في ثلاثة محاور أساسية. الأول؛ هو الاستقلال الوطني، والثاني؛ دور الدولة في الحماية الاجتماعية، والثالث هو انتماء الرئيس للطائفة العسكرية وقدراته الخطابية.

هذه المكونات الثلاثة للعقد الاجتماعي لدولة يوليو لم يفرضها الشعب عليها، ولكن محركي هذه الدولة هم من فرضوها على أنفسهم. كما أن الواقع والمرحلة التاريخية لما بعد الاستقلال لعبت دورًا في ذلك. ويبدو لي أنه ثَمّ توافق حول هذه المحاور الثلاثة لدولة يوليو، على الأقل بين الكثيرين من الجيل الذي عاصر ميلاد هذه الدولة من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة، التي استفادت من توسيع دور الدولة، وإعادة توزيع الأرض الزراعية، وتمدد التعليم والبناء البيروقراطي للدولة.

ومع ذلك فهذا العقد الاجتماعي لم يظل ثابتًا، فقد تغير مع تغيُّر الرؤساء، وتبدل المتغيرات المحلية والإقليمية، لكنه كان دائمًا موجودًا وقائمًا لتبرير استمرار وبقاء دولة يوليو. لذلك يمكن اعتبار فترات الرؤساء ناصر والسادات ومبارك، كتفسيرات متعددة لهذا العقد الاجتماعي المثلث الأبعاد.

من التحرر الوطني الي تحرير الاقتصاد

                                             

يمكن تعريف المرحلة الأولي لدولة يوليو بمرحلة البناء والتشييد. في زمن ناصر، كان الاستقلال الوطني قد تأطَّر عبر قرارات التأميم والخطاب السياسي الناصري، ومجموعة عدم الانحياز ودعم حركات التحرر الوطني في الجنوب. في حين تبلور دور الثورة عبر إجراءات اقتصادية واجتماعية كالتأميم وقوانين الإصلاح الزراعي ومجانية التعليم والتأمين الصحي وقوانين المعاشات. استطاعت الشخصية الكاريزيمية لعبد الناصر -بالإضافة لأجهزته المعاونة بدون شك- من تجاوز أكبر تحدي لدولة يوليو، وهي هزيمة 67 أو النكسة الأولي، لكن إحدى النتائج كانت انحسار المشروع الناصري، وتراجعه عن كونه مشروع تحرري إقليمي، ليصير مشروعًا داخليًا يسعي جاهدا لاستعادة الأرض المحتلة، وتحقيق الاستقلال الوطني.

وقد نعتبر فترة السادات مرحلة إعادة تعريف لـ"الاستقلال الوطني" ودور الدولة، مرتكزًا على انتصار أكتوبر 73 الذي منح شخص رئيس الدولة؛ رأس مال رمزي، مكَّنه من تحوير الميثاق غير المكتوب، وغير التوافقي بين الشعب ونظام يوليو.

فبدأ السادات يزحزح الدولة عن دورها في الحماية الاجتماعية عبر قوانين الانفتاح الاقتصادي ودعم كبار الملاك الزراعيين، ويروِّج لمفهوم جديد للاستقلال الوطني مبني على ثنائية الحرب والسلام. ورغم تململ الكثير من المصريين من اتفاقية كامب ديفيد، وعدم قبول جموع المصريين السلام مع العدو الصهيوني والتطبيع معه؛ إلا أن ورقة أكتوبر 1975 للانفتاح الاقتصادي الأول، وقرارات زيادة أسعار السلع الأساسية في يناير 1977 هي من حركت الشارع وأحدثت انتفاضة الخبز الأولى، التي شهدتها القاهرة وباقي المحافظات.

ظلت شرعية يوليو معلقة أو لنقل ملقاة على الأرض إلىأن التقطها مبارك خلف السادات، حيث حاول أن يعيد صياغتها مرة أخرى عبر إعادة الاعتبار للخبز كـ"خط أحمر".

نلاحظ هنا تضييق مفهوم الحماية الاجتماعية، لحزمة متقلصة من السلع الغذائية سيئة الجودة، وإحداث تدهور تراكمي للخدمات الاجتماعية. يتم ذلك في ظل خطاب سياسي عن "اللا مساس بمحدودي الدخل" والعلاوة وزيادة الدعم ووصول الدعم لمستحقيه.

في حين استعاد مبارك علاقات عربية كثيرة فقدتها مصر خلال فترة السادات. كانت المنطقة تعيش مرحلة جديدة: مرحلة أوسلو والمفاوضات من جهة، والاجتياح النيوليبرالي من جهة أخرى. أسس مبارك استراتيجيته على استرداد طابا عبر التفاوض، والمشاركة في حرب الخليج والاستفادة من إسقاط الديون للاستمرار في دعم السلع الأساسية.

ومن الجدير بالذكر أن مبارك حاول استغلال نمو الجماعات الإسلامية المسلحة وقتلهم السادات كي يُدخل  "حماية الدولة في مواجهة تيارات التشدد الاسلامي والإسلام السياسي" كمكون في العقد الاجتماعي لدولة يوليو. لكن هذه الرسائل كانت مجدية أكثر مع "الشركاء الغربيين"، وكانت تُستخدم كفزاعة يخرجها النظام في وجه المعارضة الليبرالية، لكنها لم تترسخ -على ما أتصور- في أذهان الجموع أو الوعي الجمعي -إن صح التعبير- كركن أساسي من أركان دولة يوليو.

كانت شخصية مبارك باهتة. يصفه كريم عمر في مقالة بديعة بالدكتاتور الميديوكر. لكنه كان محاطا بحزمة من القانونيين وأشباه المثقفين تضمن بقاء إمكانياته المتواضعة كظل باهت يتخفي خلف زيه العسكري و"أول طلعة جوية"، في مقابل شخصيتي ناصر والسادات البارزتين.

واعتبر البعض توغل مجموعة جمال مبارك وسياساتهم النيوليبرالية المتوحشة، بالإضافة إلى مشروع توريث الحكم خارج الطائفة الحاكمة (طائفة العسكر)، خرقًا لذلك العقد الاجتماعي الذي فرضته دولة يوليو. وشهدت مؤسسات عديدة رفضًا تجاه التحولات التي شهدتها العشر سنوات الأخيرة من حكم مبارك.

الثورة تنقذ يوليو؟

لم تكن 25 يناير مجرد هزة خفيفة مثل انتفاضة الخبز، لكنها كانت زلزالاً قويًا، ومحاولة لفرض عقد اجتماعي جديد.

ومع ذلك لم تكن دولة يوليو– على الأقل في إحدى إرهاصاتها- مُستبعدة تماما من العقد الاجتماعي الذي تسعى إليه يناير. فقد كان الوجه الاجتماعي الناصري ظاهرًا؛ ويمكن تفسير حصول التيار الناصري ممثلا في حمدين صباحي على أكثر من 4 مليون صوت في أول انتخابات حقيقية؛ تصويتًا على الشكل الأكثر اجتماعية لدولة يوليو.

من جهة أخرى، وبمجرد انطلاق الثورة المصرية، اجتمع المجلس العسكري للنظر في الأمر معلنًا إنهاء عصر مبارك. وحاول جاهدًا إدارة المرحلة الانتقالية، وسلم السلطة إلى الإخوان في بداية النفق، ثم استعادها منهم عند آخره بعدما أحكم إغلاق منافذ النفق باستلامه السلطة من جديد من حلفائه السابقين، ليتركهم يموتون غيظًا أو قتلاً أو حبسًا.

استطاعت دولة يوليو في شكلها الأكثر دكتاتورية والأقل في المصالحة الاجتماعية، أن تخرج منتصرة ببراعة تحسد عليها، وفي الوقت الذي بدا أن يناير هي انتفاضة ضد يوليو - أو بالأحرى ضد الأوجه الدكتاتورية ليوليو- إذا بها تنقذها من جمال مبارك، وتعيد للمؤسسة العسكرية موقع رئاسة الجمهورية بعملية تشبه عمليات شد الجلد، لوجه لشخص تجاوز الستين من عمره.  

وجه يوليو الجديد

 

رغم افتراض البعض أن عبدالفتاح السيسي يعبر عن مرحلة مختلفة، إلا أن حكمه قائم بالأساس استنادًا على شرعية يوليو على وجه التحديد. فقد كان السيسي عضوًا بالمجلس العسكري، ورئيسًا للمخابرات الحربية، وهو يعتبر نفسه ويقدمه أنصاره باعتباره امتدادًا لقادة يوليو.

                                        

 وحاولت الحالة الإعلامية تصويره على أنه ناصر الجديد، وتم طباعة صور تجمع بينه وبين ناصر وتوزيعها على أيدي المتظاهرين الذين خرجوا لإسقاط الإخوان المسلمين في 30 يونيو/ حزيران 2013. أي أن جميع رموز دولة يوليو، شاخصة في مخيلة الرجل والمحيطين به والمروجين له.

نظام يوليو "يأكل نفسه"

مستندا إلى الحركة الشعبية التي سهلت وصوله للحكم، بالإضافة إلى ثلاث سنوات من الاضطرابات التي تحمل أعباءها الاقتصادية بشكل أساسي العاملين في القطاعات غير الرسمية، والأكثر فقرًا من طبقات المجتمع المصري.

حاول السيسي أن يعيد كتابة العقد الاجتماعي ليوليو على خلفية "الحماية من الإسلام السياسي"، لكنه ظل يرتكز على صورة نظام يوليو، ويستمد شرعيته منه، رغم أنه أخذ على هذا النظام عدم المضي في طريق "الإصلاح الاقتصادي" النيوليبرالي.

ففي خطاب بثه التلفزيون المصري أثناء افتتاح مصنع للبتروكيماويات في الإسكندرية بتاريخ 12 أغسطس/ آب 2016، قال السيسي إن: "المحاولة الأولى لإجراء إصلاح حقيقي كانت في 1977". وتابع :"بعد رد فعل الناس تراجعت الدولة وظلت تؤجل هذا الإصلاح حتى الآن"، في إشارة إلى انتفاضة الخبز عام 77. ثم أضاف: " كل القرارات الصعبة التي تردد كثيرون على مدى سنوات طويلة [في اتخاذها] والناس خافت أن تتخذها؛ لن أتردد ثانية في اتخاذها".

هكذا أعلن السيسي سياسات الانفتاح الثاني، في التزام صريح بنموذج النيوليبرالية المسيطر، الذي يجرف ملايين البشر في طريقه نحو النمو الاقتصادي الموعود وسراب التساقط.

بعد اشهر قليلة من هذا التصريح، وفي نهاية نوفمبر/ تشرين ثان 2016، بدأت إجراءات اقتصادية هي الأشد وطأة على القطاعات الفقيرة في مصر نتيجة، أنتجت ارتفاعًا في معدلات الغلاء وزيادة التضخم وانخفاض القيمة الاقتصادية للعملة المصرية. وكأننا هنا أمام إنهاء لما تبقَّى من امتياز نسبي للفئات الفقيرة، والتي التزم بها نظام يوليو ولو على مستوى الخطاب الرسمي، والحد الأدني من النفاذ (القدرة على الحصول) للسلع الغذائية الأساسية.

لم يفق المصريين من صدمة القرارت الاقتصادية وموجة الغلاء الحادة التي ضربت البلاد، إلا وجاء قرار عرض "اتفاقية بيع تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية"، والذي اعتبره الكثيرين نكسة جديدة أشد وطأة، لأنها هذه المرة بيد وإرادة النظام الحاكم؛ وليست من صنع اعدائه.

لا يمكن قراءة التنازل عن السيادة الوطنية بمعزل عن التضحية بالفئات الأكثر فقرا. وتبقى شخصية الزعيم التي تحولت إلى شخصية كاريكاتورية نتيجة لخطابه العاطفي، وتعبيراته غير المتزنة، وترافقها مع التطور التكنولوجي ودمقرطة وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت انتاج الكاريكاتير والفيديو والرسائل الساخرة التي تنزع القدسية عن أي شخصية عامة.

خلال عامين استطاع السيسي أن يجمع بين كل عيوب وجوه يوليو الثلاثة (ناصر والسادات ومبارك)، ليهدم مكونات العقد الاجتماعي الذي نسجه نظام يوليو، وقام بترقيعه خلفاء هذا النظام عدة مرات دون أن يمزقوه.

يجمع السيسي بين نكسة أشد كسرًا من نكسة ناصر 1967 عبر تمريره اتفاقية تسليم تيران وصنافير للملكة العربية السعودية دون حق ودون حرب أيضًا، وانفتاح أشد فتكًا بالفقراء من انفتاح السادات، مع رفع أسعار الخدمات العامة وتقليص الإنفاق الاجتماعي وتقويض دور الدولة، ووصول التضخم لمعدلات قياسية، وزيادة الفقر والتهميش، مع بهت شخصية وركاكة الخطاب السياسي، يغالب ركاكة عهد مبارك.

اجتماع هذه المقومات يجعل العقد الاجتماعي ليوليو باطلاً. ويجعل قطاعات كبيرة ممن آمنوا بدولة يوليو يكفرون بها. يبدو أن السيسي ينجح في فعل ما لم تستطع انتفاضة 1977، أو ثورة 2011 فعله مع دولة يوليو العتيدة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.