الطفل يوسف

على من يطلقون الرصاص؟

منشور الثلاثاء 30 مايو 2017

 

قُتِل ابن ناشطة برصاصة في الرأس، بينما هو واقف مع أصدقائه في ميدان الحصري بمدينة السادس من أكتوبر.

خبر مأساوي، وما يزيده حزنًا هو ما بدا حادثة عشوائية، بلا معنى ولا هدف ولا ثمن. قيل ساعتها أن رصاصة قد انطلقت من مسدس كاتم للصوت، تفصيلة قد تزرع بذورًا لشك، ولكن الميل التقليدي—الذي يصل لدرجة من الهيستريا—لمقاومة أي بادرة قد تبدو "بارانويدية" في مجتمع تحكمه فاشية عسكرية، يجعلنا ننفض الفكرة عن أدمغتنا فورًا، صحيح قد تتسكع في خلفية التفكير، مستدعية حكايات قديمة عن قتل ابنة البلتاجي انتقامًا مثلا، أو غيرها من الحكايات المعروفة ضمنا. لكنك تقول لنفسك أن هذا ممكن، ولكنه غير وارد. عبارة أنيقة نستعين بها على مواجهة ثُلة من المجانين تحكم هذا البلد.

بالطبع هو غير وارد، بالتأكيد هو غير وارد.

وبعدها بأيام، تتناثر الحكايات هنا وهناك عن عمليات قنص في نفس الميدان، وبذات الطريقة؛ مسدس كاتم للصوت. أربع عمليات، هذا ما يقولون.

لأيام عدة، لم يكن هناك تأكيد رسمي أو غير رسمي، قبل أن يصدر بيان الداخلية الذي يحدد الجناة، وينفي شائعات استهداف أربع حالات أخرى. يهدأ البعض، ويتمنى البعض صحة البيان، ويشك البعض، ولكنهم، ومرة أخرى، يحتفظون بهذا الشك لأنفسهم قدر استطاعتهم.

أفكر في ما يسمونه بـ "أساطير الحضر" في الغرب، ويعنون بها مثل هذه الحكايات، أو المفاهيم، غير الصحيحة التي تنتشر في المدن. مرحى بالحداثة في أرض أكتوبر. كنت أفكر أنها حداثة مصطبغة بالدماء، ولكن أي حداثة لم تصطبغ بالدماء؟ طمأنت نفسي بأنه إن لم تكن هناك حداثة حقيقية في مصر، فدماء الحالات الأربع غير حقيقية أيضًا. قياس أرسطي صوري أنيق.

ثم تذكرت يوسف، ثم تذكرت رابعة، ثم رجعت لتذكر الحداثة الخادعة، فوجدت دماء على اليدين وظلام في الدماغ. نفضت هذه الأفكار عن رأسي فورا، طبعًا.

في الأيام التي سبقت النفي الرسمي، كانت هناك تعليقات من أناس يبدو أنهم يعيشون في أكتوبر،  جعلتني أدرك أن الفزع قد بلغ مبلغه. هناك من توقفوا عن التعامل مع السوبر ماركت في الميدان (حيث أصيب يوسف)، أو يشترون بسرعة تليق بالعدائين الأوليمبيين. لا يهم إن لم تر شيئًا، هناك قناص يستقر في مكان ما، مشرف على الميدان، يحمل مسدسا كاتمًا للصوت ويقنص بعضهم كما يُقال. كيف يختارهم؟ هل تستفزه صلعة ما؟ طريقة مشي معينة؟ نهد بعيد عن المتناول؟ طفولة ما يزال أمامها مستقبل؟

للحظة، ساعتها، بدت المؤامرة مناجاة: لقد قنصوا يوسف انتقامًا من أمه، هناك سبب. هناك سبب لا يجعلنا عرضة لرصاصة طائشة. يمكن أن يسود بعض الهدوء، قبل أن يهتكه اتحاد غريب ما بين العقلانية والذعر: لا، لا مؤامرة، يقولون إنها رصاصات عشوائية. قد نموت بلا سبب وبلا داعي.

نخاف مما لا نراه بأكثر مما نخاف مما نراه.

أربعين شابا قد اعتقلوا، وخالد علي يحتجز ليوم بسبب أوهام، و25 موقعًا يحجبون، وبيانات مسربة من "جهات سيادية"تستشهد "بتجربة" كوريا الشمالية وإيران. كل هذا نراه ولا يفزعنا على بشاعته، بقدر ما تفزعنا شائعة لا نراها.

يُنسب للرفيق ستالين، بطريرك سفاحي الدولة أنه قال: "إن موت شخص واحد مأساة، ولكن موت مليون مجرد إحصائية". دماء الآلاف التي سالت في أربع سنين، تحت حكم ثلة من الكلاب المسعورة، لم تقلقنا قلق دماء طفل نعرف وجهه. ودماء يوسف التي نعرفها لم تفزعنا قدرما أفزعتنا دماء متخيلة في حكايات مُختَلَقَة. بضع وعشرون طفلاً قتلوا عند دير، وسننسى، كعادتنا.

نتمسك بالمنطق الذي يبدو عاقلا: يقتلونهم لأنهم كذا، وإن لم نكن كذا، فنحن بخير، وإن كنا كذا، فلا حتمية أبدا لأن نُقتل بسبب كذا.

نهدهد النفس، بينما الحريق يتسع، وبوابات السجن تنغلق، والرصاص يقتنص أطفالًا أبرياء، كانت الحياة ترتمي أمامهم ليشكلونها كما يريدون؛ بدلا من أن يقتنص كلابا مسعورة تجري بطول المدينة وعرضها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.