صقر النور - المنصة
عربة فاكهة خالية بأحد شوارع القاهرة

تحيا مصر .. في "كراتين" التصحر الغذائي

منشور الثلاثاء 30 مايو 2017

أثناء مروري في سوق بمدينة قنا، سمعت سيدة أربعينية تسأل بائع خضروات دون أن تتوقف "في لمون (ليمون) بجنيه؟"، رد الرجل "لا"، وواصلت السيدة سيرها بحثًا عن توليفة لوجبة تناسب ما تحمله من نقود. واصلت سيري بالسوق فإذ بسيدة تقول لأخرى لاعنة زوجها "الفقري محرَّم علينا طبيخ الطماطم، كل يوم ملوخية ورُز (أرز)".

في القاهرة، وأمام عربة فول، طلب رجل أربعيني من بائع الفول "بـ 2 جنيه فول وبنص (بنصف) جنيه سلطة"، رد البائع "مفيش سلطة بنُص جنيه"، ليستسلم الرجل: "طيب خليهم بـ 2.5 فول". غالبا سيكتفي الرجل وأسرته بالخبز الذي بيده والفول الذي يشتريه، وسيستغني عن السلاطة لحين إشعار آخر.

وصلت أسوان في يوم السوق الأسبوعية للقرية التي أقمت فيها. وهناك، عرفت أن سعر الطماطم وصل إلى 15 جنيهًا للكيلو في ذلك اليوم (28 أبريل/ نيسان 2017)، وقالت لي إحدى السيدات "لم أشتر طماطم اليوم"، بينما حكت أخرى "البائع قال لي إن الأسعار ستزيد أكثر في رمضان. لن نأكل سلاطة في رمضان". واتفقت السيدة الأخرى مع قرار زميلتها الاضطراري "لن نأكل طماطم في رمضان".

صحاري غذائية أم تصحر غذائي

يشير مفهوم الصحاري الغذائية إلى مناطق جغرافية يصعب فيها الحصول على الغذاء الصحي، وخاصة الخضر والفاكهة، بسبب عدم توافرها، أو عدم قدرة السكان على تحمل تكاليف شرائها أو نتيجة لبُعد الأسواق.

عادة ما توجد هذه الصحاري الغذائية في المناطق الفقيرة، لكن ارتفاع أسعار الخضروات والفاكهة خلال الأشهر الستة الأخيرة، وسَّع من الشرائح الاجتماعية المُعرّضة للوقوع داخل هذه الصحاري. لم تكن أسعار الليمون والطماطم تصل إلى هذا الحد من قبل (40 جنيهًا و15 جنيهًا على التوالي).

في أصعب اللحظات التاريخية، كانت غالبية الأسر قادرة على شراء الليمون والبصل والجرجير والطماطم في أغلب فترات السنة.

ويبدو أن مشكلة النفاذ إلى المواد الغذائية الطازجة ليست قاصرة على الحالات التي طرحتها أعلاه، فالمشاهدات اليومية والبيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تشير جميعها إلى ارتفاع الأسعار القياسية (متوسط الأسعار) لكثير من المواد الغذائية الرئيسية بما فيها الخضروات والفاكهة.

الغلاء إذن يسبب تغيرات جذرية في النظام الغذائي للأسر الأقل قدرة على النفاذ للغذاء. نحن هنا أمام ظاهرة مركبة، فمن ناحية؛ لدينا بقع جغرافية بلا نفاذ للغذاء الصحي والسليم، وأسر تضطر للتواؤم مع قلة المعروض أو غلاء الأسعار، بتقليص كمية وجودة الغذاء، ما يخلق تصحرًا لنظامها الغذائي الذي كان أكثر ثراءً وتنوعًا قبل الارتفاعات الأخيرة للأسعار. هذا التصحر الغذائي تزداد مساحته الاجتماعية واتساعه الجغرافي بشكل متسارع. 

هذا بدوره يلغي العديد من مكونات الوجبات، ويضر بالنواحي الغذائية لأفراد الأسرة، خاصة الأفراد الأكثر هشاشة كالأطفال والنساء الحوامل، وكبار السن من الذكور والنساء.

الصحة في طبق

تحتوي الفواكه والخضر على قيمة غذائية عالية يحتاج إليها الإنسان بشكل يومي، وينصح البرنامج القومي للغذاء الصحي (بفرنسا) بتناول 5 أنواع مختلفة من الخضر والفاكهة يوميا، بمتوسط 80-100 جرام. من المعروف أن الفواكه والخضر غنية بفيتامينات متعددة، وبالمواد المضادة للأكسدة، والمعادن، والألياف.

 

الفوائد الغذائية من الخضروات والفاكهة

وتقلّل النظم الغذائية الغنية بالخضروات والفواكه الطازجة من نسب الإصابة بالعديد من الأمراض، كأمراض القلب، والقدم السكري، واضطرابات ضغط الدم، والسرطان، وحصى الكلى، وأمراض الأعصاب. وبفضل احتوائها على الألياف؛ فهي تُحسِّن عملية الهضم وتعالج الإمساك. كما أنها تحتوي على كمية من السوائل التي تمدّ الجسم بما يحتاجه من الماء وتزيد من نشاطه، وعلى عنصر الحديد الذي يعالج فقر الدم والأنيميا.

الخضر والفواكه غنية كذلك بالماغنيسيوم الذي يزيل الإرهاق والقلق، والكالسيوم والبوتاسيوم اللذان يساعدان على محاربة هشاشة العظام. كما أنها تؤخر ظهور التجاعيد وتساعد في تجديد الخلايا التالفة. ويحتوي العديد منها على أحماض أمينية تساعد على خلق التوازن الحمضي القاعدي، وهو علامة أساسية لضمان صحة جيدة للجسم.

وتعمل الفيتامينات التي تحويها الخضر والفواكه على تقوية جهاز المناعة ووقاية الجسم من الإصابة بالأمراض. حيث تساعد فيتامينات (C) و(D) على علاج نزلات البرد والأنفلونزا، وتقوية العظام والأسنان. أما حمض الفوليك (فيتامين B₉) فيحمي الجنين من العيوب الخلقية.

من هنا؛ فإن اختفاء الخضروات والفواكه من النظام الغذائي يؤدي للافتقار إلى العديد من الفيتامينات والألياف والمعادن الضرورية، ما يجعل الشخص دائم الإرهاق وعرضة لكثير من الأمراض مثل نزلات البرد، والتهاب اللوزتين، والتهاب البلعوم. كذلك فإن نقص المواد المضادة للأكسدة، تجعل الشخص أقل حماية ضد أمراض القلب والأوعية الدموية، وأمراض التغذية وأمراض السرطان.

كراتين التصحر الغذائي

هناك بُعد آخر من أبعاد التصحر الغذائي، وهو نتاج لسياسات الدولة وأشكال المساعدات، التي تأخذ شكل الوجبات الجافة الخالية تمامًا من المكونات الطازجة. فالإعانات الغذائية تساعد على تصحر النظام الغذائي للفئات الأكثر فقرًا، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن هذه المكونات، كانت تُستَعمَل كمجرد مكون مساعد، وقت أن كانت أسعار الخضر والفاكهة رخيصة، بينما تحولت الآن إلى مكون أساسي وربما وحيد لوجبة الفقراء.

زيادة اعتماد الفقراء على كراتين الإعانة يقلص علاقتهم بالخضروات والفواكه. تخترق المعلبات الغذائية حياتهم وتستبدل الطماطم لتحل محلها علب الصلصة المركزة، وتتراجع معظم المكونات الخضراء والطازجة من مكونات وجباتهم.

وبخلاف شهر رمضان لا يُقدم للفقراء وجبات طازجة أو سلة خضروات وفاكهة دورية مثلا، سواء من قِبل المحسنين أو من قِبل الدولة.                                            

كرتونة رمضان من القوات المسلحة

يُحدِث الاعتماد بصورة دائمة على المعلبات آثارًا خطيرة على الصحة العامة، لاحتوائها ‏على مواد حافظة ومواد ملونة بقصد إطالة عمر الأغذية لفترة ‏أطول، ما يسبب مشكلات صحية عديدة. كما قد تحوي عبواتها على مواد غير مرغوب فيها كالمعادن الثقيلة الداخلة في لحام العبوات كالرصاص مثلا، هذه المواد تتسرب إلى المكونات الغذائية كمعجون الطماطم "الصلصة" ما يؤدي لتسمم الرصاص على المدى القصير أو البعيد.

أيضا يشكل ثنائي الفينول الكيميائية، المعروفة باسم BPA الذي يدخل في صناعة العديد من العبوات مصدر قلق، لكونه يسبب مشكلات خاصة للأطفال الصغار والنساء الحوامل. كما أن دراسات حديثة ربطت بين هذه المادة وأمراض القلب. وفي حالة الطماطم، غالبية العبوات التي تُعبأ فيها الصلصة المركزة تحتوي علي مادة BPA.

في مارس 2012، أصدرت إدارة الاغذية والعقاقير الأمريكية FDA قرارًا بحظر استخدام عبوات بها مادة BPA في تعبئة وتغليف الأطعمة والمشروبات. هذه العبوات التي تحمل السم، يستعيض بها فقراء مصر عن الطماطم الطازجة التي ارتفعت أسعارها وتمر بموجات من الندرة في الأسواق.

هناك محاولات لإقناعنا بأن جوهر الأزمة هو "جشع التجار" ومكمن الحل عبر "سيارات الجيش" و"كراتين المحسنين". لكن هذه الرؤية تمثل تسكين للمرض، كما أنها تقوم بتسطيح أزمة عميقة ومتفاقمة في قدرة المواطنين على الوصول للغذاء؛ تجتاح مصر كزلزال صامت، قد لا يحدث "ثورة جياع"؛ ولكنه بدون شك يهدم قوى المصريين والمصريات الذين تتآكل أجسادهم من الجوع وفقر المحتوى الغذائي.

كراتين الأغذية المجففة وضعيفة القيمة الغذائية لن تحل المشكلة، يتطلب الأمر سياسة غذائية وزراعية بديلة، تأخذ على عاتقها إيجاد حلولًا جذرية للتعاطي مع الحق في الغذاء الذي نصت عليه المادة 79 من الدستور المصري لسنة 2014 "لكل مواطن الحق فى غذاء صحي وكاف، وماء نظيف، وتلتزم الدولة بتأمين الموارد الغذائية للمواطنين كافة...".