صورة أرشيفية

نعم .. كبرنا قبل الأوان

منشور الأحد 30 أبريل 2017

فجأة .. أنتبهت أنني سأتم عامي الثالث والثلاثين بعد أيام قليلة. صدمتني تلك الحقيقة البسيطة وجعلتني أتساءل بجدية: كيف سقطت الأعوام العشرة الأخيرة من حياتي؟

لا أتذكر من الماضي سوي أن حياتي البسيطة كانت تمضي بهدوء ورتابة، من طفولة سعيدة في بيت دافئ مفتوح للجميع، ومملوء بضحكات الأهل و الأقارب، إلى مراهقة صاخبة يملأها الأصدقاء، لا يشغلني فيها سوى الضحك والمرح، والحصول على اهتمام بعض الفتيات، ولا يقُض مضجعي سوى تفاهات المراهقة الجميلة. ثم مضيت إلى حياة جامعية أكثر روعة تنبئ بمستقبل مشرق، ثم حب رومانسي مع أغاني منير وفيروز تصدح في خلفية المشهد، ثم فجأة.. مشروع ارتباط وخطوبة وزواج وكائن صغير يحمل الكثير من ملامحي، ولا يكف عن البكاء ليل نهار.

أصحو من النوم وأتأمل المرآة لأجد شخصًا آخر يراقبني، شخصًا كان يحمل بعضًا من ملامحي إلى وقت قريب جدًا، بجانبي زوجة لا تكف عن التسوق طوال الوقت، وأطفال ذوي قائمة تمتد بالطلبات، وعمل مرهق مشاكله متجددة ومتزايدة، ليتحول اليوم برمته إلى قائمة طويلة من المهام، لا تكفي ساعات اليوم لإتمام نصفها على أفضل تقدير. أترقب المناسبات العائلية لرؤية الأهل و الأقارب، فأجد أطفالهم قد شبّوا، وعَلاَ وجوه الذكور منهم شارب المرحلة الإعدادية بلونه الأخضر المستفز، أما الإناث فقد ظهرت عليهن ملامح البلوغ المبكر، ينادوني جميعًا بلا استثناء: "ازيك يا أونكل؟" فلا أدرى متى تحولت أنا إلى ذلك "الاونكل"؟

تتناقص دعوات الزفاف رويدًا رويدًا، بعد أن كانت تلاحقني يوميًا دون القدرة على الوفاء بها جميعا لضيق الوقت، ويحل محلها أخبار مفجعة وحزينة عن رحيل بعض الأقارب والأهل بل والأصحاب أحيانًا، ويحل القلق محل الاطمئنان، ويهجر النوم العميق مضجعي ويحل محله القلق والاستغراق في التفكير والقلق، ويسكنني الخوف على أبنائي ومستقبلهم، وأسرتي وبيتي، وأبي وأمي وأهلي، واستقرار عملي.

 فجأة أصبحت أتلقى اللوم من هذا أو ذاك إن أغفلت بعض الواجبات الاجتماعية المقيتة، وأصبح الجميع يعاملني كإنسان ناضج بلا رحمة.

صارت الثلاثينيات هي فترة دفع فاتورة العشرينات الجميلة، وعليّ الوفاء بالدين مع فوائده المجحفة بلا أي فرصة للفكاك. أغمض عيني محاولاً تذكر تفاصيل الماضي، فأجد معظمها وقد صار ضبابيًا، أتلمس بلهفة العاشق أخبار أصحاب وأصدقاء الماضي، فربما حظيت بسبب مقنع يجعلني أهاتف أحدهم، فنتجاذب بعض الذكريات، أخط بيدين مرتعشتين كل ما تجود به ذاكرتي من ذكريات الماضي، خشية فقدان التفاصيل بفعل ضعف الذاكرة. أكتب بسرعة كلما تذكرت إحدى التفاصيل، فربما لا يسعني الوقت وأنساها. في السابق كانت فكرة البقاء في المنزل وعدم الخروج تخيفني كثيرًا. الآن أصبحت فكرة الخروج من المنزل ومحاولة التعايش السلمي مع تلك الكائنات التي تتربع على نواصي الشوارع  تخيفني أكثر. وأصبح التقوقع هوايتي الجديدة التي أمارسها بلا كلل.

 أصبحت أتحاشي النقاشات الجدلية التي كنت أعشقها في السابق، والسياسية منها على وجه التحديد. وحتى إن أجبرتني الظروف على للنقاش؛ لا أبذل أي جهد في سبيل إثبات وجهه نظري، حتى بالرغم من عدم منطقية ما يتفوه به الآخرون، و ما يصاحب حديثهم من غباء مستحكم.

 أصبحت استمتع بكذب الآخرين، وحتى مع إدراكي بفداحة كذبهم المبالغ فيه، أجد نفسي أترفع عن فضح كذبهم، بل وأتصنع الدهشة أحيانًا مسايرة للموقف. تخليت طواعية عن محاولاتي المستميتة لإصلاح الكون، وأيقنت أن المعتوه سيظل معتوهًا طوال عمره، وأن الغبي سيزداد عمقًا في غبائه، أصبحت أتغاضي عن الغضب، وأتجاهل من يتعمدون إغضابي عنوة، أصبحت الابتسامة الساخرة جزءًا مميزًا من ملامحي، أسخر طوال الوقت من المنافقين والمتلونين والمتصارعين على توافه الحياة. يقيني أن لا شيء سيظل على حاله، وأن السعادة كالحزن، لا يدوم أيهما لصاحبه.

في زيارتي الأخيرة لمصر بعد أعوام من الغربة، التقيت بمنَ تبقي من أصدقاء الماضي، وجدتني أتحدث مع أشخاص لا أعرفهم، الوجوه هي ذاتها التي كنت أعرفها في السابق، أما الروح فقد تبدلت وأختلفت وتغيرت كثيرًا. صاروا أُناَسًا أخرين غير الذين صادقتهم في السابق. صرت لا أفهم دعاباتهم ولا أتقبلها، ربما لأن الذين يهاجرون للخارج تتغير نظرتهم للحياة، وأفكارهم عن الرفاهية ومعني الراحة، ورائحة الهواء، وحتى عن الانتماء.

بمرور السنوات اكتشفت أنني قد تغيرت كثيرًا، صرت أحب ما كنت أكره، وصرت أكره ماكنت أحب. نسيت ما تعلقت به في السابق، وتعلقت بأشياء لم أكن لأتعلق بها أبدًا، صارت أقصى أُمنياتي هاتف مغلق، وانعزال عن الجميع، صمت، مشروب دافيء، هدوء عظيم، وذهن يخلو من أىّ شيء.

مضت الحياة لتجعل مني شخصًا لا يشبه قرينه السابق.. شخصًا لا يشبهني.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.