متى تسدد أمريكا الدين لكوريا الشمالية؟

منشور الأحد 23 أبريل 2017

ماكس فيشر

ترجمة عن موقع ڤوكس

ربما لا يوجد بلد على وجه الأرض يسيء الأمريكيون فهمه بقدر كوريا الشمالية، وعلى الرغم من أن قادة البلاد يوصفون دائمًا بأنهم مهرجون وحمقى، إلا أنهم جادون في ممارستهم للقسوة، وكذلك لديهم مهارة في الاحتفاظ بالسلطة. وعلى الرغم من أن البلاد شيوعية على النمط السوفييتي، لكن في واقع الأمر نستطيع أن نفهمها باعتبارها من بقايا الفاشية اليابانية. 

وهناك اعتقاد خاطيء آخر، قد لا يريد الأمريكيون أن يعرفوه، ولكنه هام لفهم طريقة تفكير المملكة المعزولة، فرغم أن الكثير من مشاعر العداء الموجهة للولايات المتحدة تصاغ كأداة دعائية، وهي تستند في أغلبها إلى أكاذيب، إلا أن كلها ليست أكاذيب. فالولايات المتحدة قامت بالفعل بعمل فظيع، بل وشرير تجاه كوريا الشمالية، وعلى الرغم من أن الفعل لا يبرر العديد من الانتهاكات التي تقوم بها كوريا الشمالية، ولا يغفرها، فمن الضروري أن نتحدث عنه مع ذلك. 

في أوائل الخمسينيات (تحديدًا عام 1950)، أسقطت الولايات المتحدة أثناء الحرب الكورية قنابل على كوريا الشمالية أكثر مما أسقطت أثناء الحرب العالمية الثانية، هذا القصف الموسع، الذي تضمن 32 ألف طن من النابالم، عادة ما توجه بقصد إلى المدنيين، إلى جانب الأهداف العسكرية، هذا الذي دمر مواقع أكثر من الضرورية في الحرب. دُمرت مدن كاملة، وقُتل آلاف المدنيين الأبرياء، والكثير من الناس صاروا مشردين وجوعى. 

 

 

الطائرات الأمريكية تلقي القنابل الحارقة على كوريا الشمالية - الحرب الكورية

كتب الصحفي "بلين هاردن" عن هذا الهجوم بأنه " أكثر جزء منسيّ  في هذه الحرب المنسية "، على الرغم من كونه "جريمة حرب كبرى"، وهو الأمر شبه المؤكد. بالتالي يكتب بلين أن ذلك يظهر أن كراهية كوريا الشمالية لأمريكا ليست "مختلقة تمامًا... فهي مبنية على أساس سردية واقعية، وهي سردية تتذكرها كوريا الشمالية بشكل مهووس، في حين ترحب الولايات المتحدة بنسيانها". 

وكما يسرد هاردن في مقاله الذي كتبه في بداية العام، كانت الولايات المتحدة تعرف تمامًا ما تفعله: 

"(على مدار ثلاث سنوات، قتلنا ما يقرب من 20 في المائة من السكان). هكذا يقول جنرال القوات الجوية كورتيس لو ماي، رئيس القيادة الجوية الاستراتيجية خلال الحرب الكورية، وذلك لمكتب تاريخ القوات الجوية عام 1984. ويقول دين راسك، الذي دعم الحرب، والذي صار لاحقًا وزيرًا للخارجية، إن الولايات المتحدة (قصفت كل شيء يتحرك في كوريا الشمالية، وكل حجر قائم على حجر). وبعد الانتهاء من الأهداف الحضرية، دمرت طائرات الولايات المتحدة السدود الكهرومائية وسدود الري في المراحل اللاحقة من الحرب، مما عرّض الحقول للفيضانات، ذلك الذي دمر المحاصيل الزراعية".   

 

تدمير البنية التحتية في كوريا الشمالية - استهداف خطوط السكك الحديدية 

يتنازع المؤرخون حول مدى أهمية قصف الولايات المتحدة في تشكيل كوريا الشمالية التي نعرفها اليوم. يرى البعض أن القصف كان له دور أساسي في تشكيل تاريخ الدولة الشابة، وآخرون رأوا أن كوريا الشمالية كانت في طريقها بالفعل لتصير مملكة منعزلة، وأن زعماءها استغلوا القصف لبسط نفوذهم الديكتاتوري. 

ويؤكد الباحث المختص بشؤون كوريا الشمالية ر. مايرز في دراسة بعنون "العِرق الأنقى"، التي تعتبر دراسة شاملة عن نظرة الكوريون الشماليون للعالم، أن الدعاية المناهضة لأمريكا، وصلت لذروتها قبل القصف الأمريكي. منذ ذلك الوقت لم تركز الدعاية كثيرًا على القصف الأمريكي (الذي يعتبره مايرز، مثل معظم الباحثين، جريمة حرب):  "كما يمكن أن نتوقع، احتلت الحرب الكورية مكانًا مركزيًا في الدعاية المناهضة لأمريكا، ولكن (الدعاية) لم تنصب جل تركيزها على القصف الأمريكي الجوي الموسع (الذي يصعب أن يتوافق مع أسطورة الزعيم الحامي لشعبه) بالتالي ركزت بشكل أكبر على المذابح التي جرت في القرى، والانتهاكات المعزولة الأخرى". 

وحتى إذا افترضنا أن القصف لم يؤجج كراهية كوريا الشمالية لأمريكا والأمريكيين، فهو ساعد على التركيز عليها وإظهارها. شعر العالم كله تقريبًا بتأثيرات القصف، وتعتبر المعاناة التي أدت إليها من أبرز التجارب التي يتشاركها الكوريون الشماليون. وعلى خلاف الدعاية، التي اقتصرت على استدعاء جرائم أمريكية مفترضة، هنا كانت هناك جريمة أمريكية حقيقية، شهدها الجميع بأنفسهم، وأثرت عليهم شخصيًا. كيف لا يمكن اعتبار ذلك أمرًا محوريًا في تشكيل كوريا الشمالية حاليًا؟   

حتى نكون واضحين، فالقصف الأمريكي لم يحوّل كوريا الشمالية من بلد جميل إلى بلد سيء؛ إذ أن بذور الحكم الفاشي الممتد لأجيال كانت وُضعت بالفعل في بداية الخمسينيات، وفي الواقع يجدر بنا أن نتذكر أن كوريا الشمالية هي من شنت الحرب في البداية. ولكن القصف انتهي بأن ساهم، عن غير قصد، في تحقيق مشروع أسرة كيم بخلق دولة استبدادية تجمع بين جنون العظمة والتقلب والقمع. 

على سبيل المثال، يمكن أن تروا ذلك في بيونج يانج، عاصمة كوريا الشمالية، التي حولها القصف الأمريكي إلى ركام، كما يشير مايرز: "تدمير القصف الأمريكي للمدينة الأصلية سمح للنظام بإعادة تصميم المدينة من الصفر، واعتبرت الدعاية ذلك عملًا عظيمًا في ذاته".  

 

صورة توضح العاصمة بيونغ يانغ قبل القصف الأمريكي وبعده 

رمزية ذلك مثيرة للاهتمام: التدمير الساحق الذي تسببت فيه الولايات المتحدة، سهّل من قدرة زعماء كوريا الشمالية على إعادة بناء المدينة المحطمة، وتحويلها إلى تجسيد مادي لديستوبيا جورج أورويل. بالطبع نلقي اللوم في مشروع كوريا الشمالية كلية على زعمائها، الذين كانوا يعرفون بالضبط ما الذي يفعلونه. ولكنها تذكرة بأن الولايات المتحدة ساعدت هؤلاء الزعماء من تحويل أمتهم إلى مكان فاشي. 

في لحظات نادرة، عندما نتحدث عن القصف الأمريكي لكوريا الشمالية، يسهل أن نضل في المناقشة عن عواقبه السياسية طويلة المدى. ولكن القصف كان له أهمية رئيسية في هذا الوقت، وما زال مهمًا حتى اليوم، ليس بسبب كونه أدى لنتائج سلبية سياسيًا، ولكن لأنه كان مروعًا وظالمًا.  يمكن أن نلقى النظر على العواقب الإنسانية والسياسية في برقية دبلوماسية عاجلة أرسلها وزير الخارجية الكوري الشمالي إلى الأمم المتحدة، التي كانت تشرف ظاهريًا على جهود الحرب، وذلك في يناير/كانون الثاني عام 1951. نشر الباحث آدام كاثهارت البرقية منذ عدة أيام، هذا الذي جعلني أفكر مجددًا إذا كان قصف أمريكا قد نُسي تمامًا. هنا ننشر بعض أجزاء البرقية، ومن المثير للاهتمام أن نقرأه اليوم: 

"في 3 يناير الساعة 10:30 صباحًا، أطلق مجموعة تتكون من 82 طائرة حمولة الموت على مدينة بيونج يانج.

سقطت مئات الأطنان من القنابل والمواد الحارقة في وقت واحد في جميع أنحاء المدينة، وتسببت في حرائق مدمرة. ومن أجل منع إخماد الحرائق، قصف البرابرة الذين يعيشون على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي قنابل تتفجر متأخرًا وتحتوي على نسبة عالية من المواد المتفجرة، لتظل الحرائق مستمرة طوال اليوم، ويجعل من المستحيل على الناس أن يخرجوا إلى الشوارع. المدينة كلها تحترق الآن، وظلت ألسنة اللهب تتصاعد منها لمدة يومين. في اليوم الثاني احترقت منازل 7812 مدني. كل ذلك رغم أن الأمريكيين كانوا يعرفون جيدًا أنه لا توجد أهداف عسكرية متبقية في بيونج يانج... لا يمكن حصر عدد سكان بيونج يانج الذين قُتلوا من جراء قصف القنابل، وحرقوا أحياء، واختنقوا من الدخان، لأنه لا يمكن إجراء إحصاء لذلك. حوالي خمسين ألف تبقوا في المدينة، التي كان عدد سكانها قبل الحرب خمسمائة ألف".

وعلى الرغم من الترجمة عن اللغة الروسية التي كتبت بها البرقية، يسهل أن نرى بذور الخطابة الناقدة والتآمرية لكوريا الشمالية، هناك إشارة غريبة على أن "أسياد وول ستريت" هم من أججوا الحرب.

ولكن بينما تمتليء خطابة كوريا الشمالية المناهضة لأمريكا اليوم بالتشوهات الواضحة والأكاذيب التي يسهل تفنيدها، فهذه البرقية بما تضمه من خطابة مناهضة لأمريكا هي واقعية بشكل مؤسف. تدفعنا هذا البرقية أن نقرأ القضية في ما وراء المعاناة البشعة التي تصفها. إنها لحظة يصف فيها مسؤول بكوريا الشمالية أمريكا، وصفًا نعتبره اليوم هراء دعائي، في حين أنه يحمل الكثير من الحقيقة.