السَحَرة الجدد

منشور الاثنين 10 أبريل 2017

(1)

تستيقظ من النوم، وقبل أن تتحرك من سريرك، قبل حتى أن تنفض عنك غطاءك، تقوم بفتح هاتفك الذكي، تضغط علامة الماسنجر، تفتح علامة صديقك الذي أضفته مؤخرًا:

"صباح الخير عزيزي، هل تريد أن أُعلمَك بآخر المستجدات؟"

تضغط على زر موافق، ويبدأ الصديق في إمدادك بالبيانات:

- لقد خسر فريقك بالأمس.

- ارتدِ ملابس ثقيلة اليوم، فالجو أكثر برودة من الأمس.

- تقدمت قوات المليشيات، وسيطرت على جنوب الدولة المجاورة.

- لا تنس أدويتك وتمارينك الصباحية.

- فرص عمل جديدة يمكنك التعرف عليها.

-"هل ترغب في سماع موسيقاك الصباحية؟"

تبدأ الموسيقى في العمل، يتصل الهاتف عن طريق البلوتوث بالسماعات، وتصدح الموسيقى في أرجاء منزلك.

هل يذكرك هذا المشهد بفيلم HER؟

حسنًا، لم تخطيء في الاستنتاج، فنحن الآن بدأنا الخطوات الأولى لتلك التقنية فعليًا.

أو ما أصبح متعارفًا عليه ببوت Bot المحادثات القصيرة.

(2)

شهدت بداية العقد الأول من الألفية انفجارًا تقنيًا هائلًا، لن أكون متجاوزًا إن وصفته أنه الحدث العلمي الأهم من بعد اختراع الإنترنت.

ذلك العقد، الذي شهد فرقعة بالون الإنترنت الأول، شَهَد أيضًا بزوغ نجم المدونات، وما صاحبها من حرية تداول المعرفة، لم يعد البشر ينتظرون وسائل الإعلام التقليدية كي تخبرهم بالمستجدات، كان يكفي المرور على عدد من المدونات كي تعرف المستجدات، وكان يمكن في تلك الفترة، بدلًا من المرور، أن تقوم بسحب ملقمات التغذية لتلك المدونات RSS Feed، وتضع تلك الروابط في برنامج جالب لتلك الملقمات، وتقوم بتصفح عشرات، بل مئات المدونات، خلال دقائق.

خلال تلك الفترة، أصبح هناك يوتيوب، ومن قبله اكتسح جوجل الساحة، ببريده الإلكتروني ذي المساحة التخزينية الضخمة في تلك الفترة، والذي كنا ننتظر الدعوة من أصدقاء حالفهم الحظ بإنشاء حساب كي نتمكن من خلق حساب نحن أيضًا.

ظهر تويتر، ومن بعده فيسبوك، وبدأ ترسيخ زمن الشبكات الاجتماعية، ومن ثم لم تعد دنيا التقنية كما كانت من قبل.

يمكن أن نؤرخ للعام 2007 على أنه نهاية حقبة من التاريخ الانساني، وبداية حقبة أخرى مختلفة كلية عن ما سبقها.

استفاد الجميع من الحقبة الجديدة، ومن سرعة إيصال وتداول المعلومات والتوثق منها، ظهرت ويكيبيديا التي صارت موسوعة للمعرفة. لقد تغير وجه الكرة الأرضية، وأصبح هناك مبشرون بهذا العصر "الجميل" الذي اعتقد كل محترفي التقنية أنهم سيصبحون أسيادًا له.

لكنهم لم يعلموا أنهم سيصبحون عبيد منزل للسادة الجدد. كم كانوا سذج، ومخطئين بشدة.

(3)

لا يمكن إنكار الخدمات المعلوماتية الجمة التي صَبَّت في صالح الإنسانية. تغير تعريف الإنسانية في حد ذاتها، لم يعد البشر كما هم. 

يمكنك أن ترى ذلك في المترو، ووسائل المواصلات، والمطارات، وأماكن الانتظار، والمطاعم، ودور التعبد الإبراهيمية منها وغير الإبراهيمية، أغلب الناس يتعاملون مع هاتفهم الذكي، سواء بتصفح الأخبار، أو بوضع سماعاته في آذانهم، أو استخدام التطبيقات المختلفة. 

نادرًا ما ستجد أحد يتحدث إلى أحد، وإن تحدثوا ستجد أن الهاتف على أطراف أصابعهم، يقلبونه بين كل سكتة والأخرى، ويبحثون عن الجديد، بغض النظر عن نوع هذا الجديد. 

إن أتينا بشخص ولد ومات في القرن 19، لن يدرك ولن يفهم أبدًا ماذا يحدث، ويمكن أن يعتبر التكنولوجيا سحرًا أسود، استحوذ على عقول البشر، ويسيطر عليهم من بعيد. أعتقد أن احدى الفرضيات التي سيفترضها عقله أن هناك سحرة-آلهة، يسيطرون على البشر بواسطة تلك القطع الحديد-زجاجية التي يحملونها بين أيديهم. لن يكون ذلك الشخص القادم من القرن البعيد، مخطئًا كثيرًا، بل سيكون على جانب كبير من الصواب.

ذلك الصواب الذي لا يراه الكثيرون الآن.

 

(4)

لم يعد مهمًا أن تنفق دولارًا كي تشتري سلعة، لم يعد البيع والشراء في سلم الاستهلاك هو الأعلى، سبقته سلعه أفضل وأجود، وأكثر ديمومة، تلك السلعة هي الفرد.

الفرد باهتماماته، وبياناته، وتفضيلاته، وميوله الجنسية، والفكرية، والسياسية، ورغباته الدفينة، التي لا يعرفها أحد سواه هو ومحرك البحث.

لقد أصبح جوجل أقرب إلينا من حبل الوريد، عندما تبحث عن مواد جنسية، سيكون هو الملجأ، وإن ولجت إلى موقع محدد، ذلك الموقع سيبيع بياناتك إلى جوجل، أينما كنت سيدركك جوجل، فهو الساحر الأكبر الآن، لا يوجد من هو أكثر قوة، ولا قدرة، ولا معرفة منه. 

جوجل يعرف ماذا تريد، قبل أن تضغط على الرابط الذي تريده، قبل أن تكمل جملة البحث التي تبغيها، بمجرد تجوالك بالماوس على سطح الموقع، يجمع جوجل بياناتك ويعطيك كل الترشيحات، إن لم يكن يسوقك إليها بشكل مباشر.

لكن هذا لم يُرضِ باقي السحرة، وعلى رأسهم فيسبوك، الذي يمتلك مع مستخدميه، وهُم بالمليارات، علاقة حميمية أكبر من جوجل.

لم يعد الماسنجر الخاص بفيسبوك كافيًا، تبوح عليه بأسرارك لأصدقائك، تأخذ مواعيدك، تضغط زر الإعجاب، تعلّق بالموافقة أو الرفض، تنشر صورك الخاصة والشخصية، تقوم بوسم أصدقائك في صورهم، وترفع صور أطفالك وأطفال أقربائك.

لقد أدخل فيسبوك صديقًا حميمًا وجديدًا، ودائمًا، لن تختلف مع هذا الصديق أبدًا، سيوافقك، ويصحح لك مع الوقت أخطاءك، سيرشدك إلى ما تود معرفته، وسيقترح عليك الموسيقى والأفلام والكتب التي تود الوصول إليها. ذلك الصديق هو بوت الماسنجر Messenger Bot، الذي أطلقه فيسبوك في أبريل/نيسان من العام الماضي، وأضاف له ميزة مهمة جدًا، وهي إمكانية التعلم، بناء على الخطأ والصواب، ومع الوقت سيتمكن البوت من مساعدة الأفراد بشكل كبير، في كل نواحي الحياة. 

بالتعلم من الأخطاء والتطور الذاتي، أصبح بوت فيسبوك يشارك في الميزة الأهم التي كانت تنفرد بها الثدييات الرئيسية عن ما عداها. 

تماما, كما تنبأ إسحاق عظيموف بالذكاء الإصطناعي، وقدرته على التفوق على البشر في وقت ما، وهي حقيقة نشهدها، لكن الفرق أن الذكاء الاصطناعي الحالي لا يملك القوانين الأخلاقية التي تنبأ بها عظيموف. 

(5)

يود السحرة خدمة البشرية، يريدون حياة أفضل لملايين البشر، يريدون تسهيل الحياة وربط البشر في تناغم وتكامل ومودة.. أن يكون العلم على بُعْد لمسة من إصبعك. 

يرسلون الأخبار إلى كل فرد بحسب ما يهواه، إذا كنت من محبي الرياضة، ستصلك أخبار رياضتك المفضلة، وإذا كنت تهوى السياسة، ستصلك آخر المستجدات، وكل حسب ما يشاء (أزياء، موسيقى، بورن، إلخ)، وكل حسب لغته، وموقعه الجغرافي، واستهلاكه، وكل حسب عرقه ودينه أو لا دينه. 

مقابل ذلك بسيط، سيعرفون عنك كل ما سبق لتسهيل حياتك، ولكن هل يحتاجون البوت بالفعل لمعرفة ما سبق؟ 

هم يمتلكون بالفعل كل البيانات. حسب التقرير الختامي لعام 2015، ادعت أحد أكبر شركات سمسرة في البيانات في العالم أنها تمتلك بالفعل بيانات 10% من سكان الكوكب. 

كان ذلك في العام 2015، ولشركة واحدة فقط، ما بالك ببقية الشركات؟ يتربع على عرش تلك التجارة ثلاث من أكبر الشركات في العالم، بالتالي نتوقع أن تقدر ثروتهم من البيانات بأكثر من ثلث سكان الكوكب.

و إن افترضنا أن 70% من الكوكب متصل بالانترنت، فهذا يعني وصولهم لبيانات عن أكثر من 40% أو يزيد من مستخدمي الانترنت، تذكر أن ذلك كان في العام 2015.

البوت مصمم كي يقتربون منك أكثر، أن يخلقوا معك علاقة حميمية افتراضية، ووهمية.

(6)

السلطة هي العدو الأول و الأهم للإرادة الفردية، كيف يمكن أن تمتلك شبه إرادة حرة و أنت مُحاصَر بكل تلك المعطيات؟ لكن الآن تشتد معركة جانبية، فالتقنية لا يمكن أن يملكها بشكل كامل مجموعة أفراد، إذ أن هناك في سلم السلطة ذوي القدرة المتوسطة من مواقع إخبارية وسياسية وترفيهية، تلك الموقع تود أيضًا أن يكون لها تأثير. 

هؤلاء أتت لهم فكرة "البوت" بحلول تُسَهِّل لهم السيطرة بشكل كبير.

تخيل معي مرة أخرى، موقع خبري تفاعلي، يمتلك بوت تفاعلي مع رواده، ذلك البوت يستطيع فعل التالي:

- خلق محادثة حية معهم، تلك المحادثة تتطور كل مرة عن طريق التعلم من الأخطاء.

-إن رغبت في الكتابة للموقع، يساعدك في اختيار الموضوعات التي تستطيع الكتابة فيها.

- تخبره بشكواك من الموقع، ويساعدك في حل تلك الشكوى.

- يستطيع معرفة مكانك الجغرافي، ويتنبأ بمجموعة من الأسئلة، عن وضعك الاجتماعي والطبقي والمعرفي.

- ترسل له أخبار منطقتك، أو مدينتك, أو دولتك، ويقوم بتحليل طريقة كتابتك، ليتعرف منها على جوانب شخصيتك.

- يمكنك تزجية الوقت معه في محادثات قصيرة، يعرف منها اهتماماتك، وتفضيلاتك.

ما سبق هو جزء من قدرة ذلك البرنامج، ذي الذكاء الاصطناعي، لكن ما الفائدة المرجوة منه على الموقع؟

الفائدة ضخمة جدًا، فأنت لم تعد كيلوبايتات وسط بيانات ضخمة من مئات الألاف من التيرابايتس، بل أصبحت جزءًا من قطاعات يقسمها محللو البيانات (والذين سينتهي دورهم قريبًا وستنقرض مهنتهم ويستعاض عنها بالذكاء الاصطناعي) حسب النوع والتفضيل والهوية والانتماء الفكري والجغرافي والنوعي. 

سيكون بإمكان الموقع عرض الأخبار التي يود أن تصلك فقط، تذكر أن فيسبوك يقوم بعمل ذلك منذ وقت طويل, بإظهار محتوى أصدقاء معينين دون البقية. سيقوم بكتابة الاخبار لكل قطاع بالطريقة التي تفضلها، تستخدم عدد من الوكالات والمواقع الأخبارية، منذ أكثر من عام، برامج تقوم بتحرير المحتوى الخبري، دون تدخل بشر، ذلك المحتوى المُحَرَّر إصطناعيًا، سيصل إلى 100% من المحتوى الخبري, قريبًا جدًا". 

لن يرى الجميع الصفحة الرئيسية للمواقع، كما هي، فكل قطاع سيراها بالصورة المهندسة كي يراها المنتمون لذلك القطاع.

هذا ما بات يُعرَف بالهندسة الاجتماعية، والتي هي فرع من فروع العلوم الاجتماعية-السياسية، تهدف إلى معرفة طرق التأثير في الأفراد والجماعات، ودفعهم لإختيارات معدة سلفًا، من أصحاب القرار.

أول استخدام واسع التأثير لذلك العلم، قبل اختراع الانترنت، حدث في أوائل القرن الماضي، مع صعود النازية إلى الحكم في ألمانيا، وأيضًا مع الدولة السوفيتية في نفس الفترة. وآخر تأثير واضح لذلك العلم بعد الإنترنت، حدث مع التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي, وأيضا مع حملة ترامب الرئاسية.

لذلك لا نستغرب أن تكون ردود أفعال الأفراد مع الاستخدامين، والفرق بينهما ناهز المائة عام، هو الاندهاش الكامل لكيف وصل بهم الحال إلى هنا. 

كيف حدث ذلك؟ 

 

(7)

السحرة الجدد، سواء المسيطرين منهم، أو من يودون السيطرة، لا يهدفون إلى الحصول على نقودك. إذ بعد وقت قريب لن تصير النقود كعملة متبادلة، مهمة كثيرًا. وكذلك لا يستهدفون قوتك العضلية أو البدنية، إنما هم يرغبون في إرادتك البشرية، يرونك كنقطة في بحر بيانات، يحركونها كما يريدون، ويفعلون بها ما يشاؤون، كي يصلوا إلى السيطرة الكاملة والسلطة المطلقة علينا كبشر، مع بعض الملطفات الصغيرة، التي تُشعرَك أن ما زال لديك إرادة، لكن حتى ملطفات الإرادات لن تتعدى حرية في اختيار البضاعة، حريتك في استهلاك المنتج. 

لكن في النهاية أنت من ستُستهلَك، ستُباع، ستُشترى، بدون اختيار، ستتحول إلى عبد منزل طائع، يتنعم في رفاهية كاذبة، يوفرها لك السيد الساحر، والذي تقع تمامًا تحت إرادته المطلقة. 

المستقبل ليس مظلمًا بسبب القادة السياسيين أو الدينيين، ليس مظلمًا بسبب الشعبوية أو الفاشية أو الطبقية أو العنصرية. المستقبل حالك الظلمة بسبب انتهاء الإرادة البشرية كما كنا نعرفها يومًا. نحن في عصور الظلام الجديدة، حتى لو هيأ لنا السادة السحرة بأننا نعيش في أوج عصور الحرية والتنوير. 

لقد خسرنا كل المعارك، وما نفعله الآن هو مجرد محاولة للاحتماء من الطوفان القادم، والذي لن يبقينا بشرًا كما كنا من قبل.