كيف نُقلّص دور الجيش في الحياة السياسية؟

منشور الأحد 12 مارس 2017

الجيش بحكم التعريف غير ديمقراطي. وعليه فإن الحديث عن الديمقراطية داخل الجيش معيب. إن العسكريين يتحركون بالأوامر سواء داخل الجيش الأمريكي أو الجيش البريطاني أو الحركة الشعبية لتحرير السودان. جون جارانج* زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان.

إن الطبيعة الأبوية للنظم العسكرية* تحول دون استقرار وتعزيز الثقافة الديمقراطية في المجتمع. فالجيش والسياسة لا يجتمعان، إذ يعتبر تدخل العسكريين في الحياة السياسية بوجه عام منافيًا للتقاليد والقيم الديمقراطية.

ويُعزى ذلك لجملة من العوامل أبرزها أن بنية وأسلوب عمل المؤسسة العسكرية، الذي يقوم على التدرج القيادي ومبدأ تنفيذ الأوامر دون نقاش، لا يتفقان مع روح النظام الديمقراطي.

 فما هي أنماط الخروج من دائرة أبوية الجيوش والعودة إلى مسارات التحول الديمقراطي؟

فصلُ الجيش عن الحياة السياسية

يسمى هذا النمط في العلوم السياسية بنظرية الانفصال (Separation Theory) لــ هارولد ترينكوناس، وتقوم هذه النظرية على فرضية رئيسية مفادها أن المؤسسة العسكرية يجب أن تبقى منفصلة ماديًا وأيديولوجيًا عن المؤسسات السياسية بالدولة، وهذا بناءً على الاعتقاد بأن فصل المؤسسة العسكرية المحترفة عن السياسة لا يترك لها أي سبب للتدخل في السياسات والمؤسسات المدنية، ويقتضي فرض هذا الانفصال وجود مجموعة من المؤسسات المدنية لديها القدرة على فرض السيطرة السياسية على القوات المسلحة للدولة.

يرى ترينكوناس أن السيطرة المدنية تتحقق حين تكون السلطة النهائية فيما يتعلق بالأنشطة العسكرية في أيدي مسؤولي الحكومة المدنية، وكلما امتد نشاط المؤسسة العسكرية إلى باقي دوائر صنع السياسات؛ زاد تسييسها وأصبح من المستعصي على السلطات المدنية فرض السيطرة عليها.

ففي الوقت الذي نجحت فيه نيجيريا  في إرساء دعائم الحكم المدني عبر برلمان منتخب في جمهوريتها الأولى (1960-1966) بعد انسحاب الاستعمار البريطاني من أراضيها، كانت المؤسسة العسكرية تخطط لانقلاب عسكري لإنهاء المباراة الصفرية في اللعبة السياسية التي لم تخلُ من العنف بين النخب المدنية في نيجيريا.

لم تنجح السيطرة المدنية في نيجيريا إلا بعد فصل المؤسسة العسكرية عن المعادلة السياسية بقوة الدستور، في صورة الرقابة البرلمانية على القوات المسلحة، وتعيين وزير دفاع مدني، وتأسيس لجنة دفاع داخل البرلمان. وليس ذلك فحسب بل أعطى دستور 1999 البرلمان الوطني النيجيري سلطة وضع التشريعات التي من شأنها الإشراف على إدارة عملية الإصلاح داخل الجيش، كما وضع إمرة الجيش تحت قيادة الرئيس المدني المنتخب. وبهذا أغلقت نيجيريا صفحة الانقلابات العسكرية.

 جزء من المعادلة السياسية

على الجانب الأخر من نظرية الانفصال (Separation Theory)، نجد نظرية التوافق (Concordance Theory) لــ ريبكيا شيف. وتفترض في تحليلها للعلاقات المدنية العسكرية؛ أن الأمر لا يتعلق بالنموذج المطبق للعلاقات المدنية العسكرية في الدولة (سواء أكان انفصالًا أو اندماجًا) وإنما بيت القصيد يكمن في قدرة الشركاء الثلاثة، وهم المؤسسة العسكرية، والنخب السياسية، والمواطنون (المجتمع) على التوافق وتحقيق علاقة تعاونية بينهم.

وتُنبّه إلى أن التجنيد القسري لا يؤدي إلى توافق بين المدنيين والعسكريين؛ لأن المواطنين يجبرون على الانضمام للخدمة العسكرية، بينما التجنيد بالإقناع من خلال تنمية إحساس المواطنين بقيمة التضحية المتمثلة في الخدمة العسكرية، يؤدي إلى توافق بين السلطة العسكرية، والنخب السياسية، والمواطنين.

في جنوب إفريقيا، وفي الوقت الذي سقط فيه نظام الفصل العنصري عام 1994، واجهت النخب السياسية تحديات هائلة في إصلاح قواتها العسكرية وإعادة صياغة العلاقات المدنية العسكرية على أسس ديمقراطية. حتى وصلت إلى فلسفة تعاونية بين المؤسسة العسكرية والنخب السياسية والمواطنين، قامت على ضرورة مواجهة آلام الماضي، لتجاوز مواريث الفصل العنصري والمؤسسي وعدم المساواة.

 

نيلسون مانديلا

وجاءت رؤية وزارة الدفاع تحت شعار "دفاع فعال من أجل جنوب إفريقيا ديمقراطية"، كما أصبح البرلمان هو صاحب السلطة العليا المسؤولة عن إقرار سياسة الدفاع، ونشر قوة الدفاع الوطني، وإقرار ميزانية الدفاع.

وفي مقابل اعتراف المؤسسة العسكرية بسيادة السلطات المدنية وخضوعها لها، وضعت القيادة العسكرية في جنوب إفريقيا عدة مواثيق يتعين على السلطات المدنية احترامها منها: الالتزام بعدم استخدام قوة الدفاع الوطني لأغراض حزبية أو قمعية، وعدم التدخل في سلسلة القيادة العسكرية، أو تطبيق قانون التأديب العسكري، والالتزام بتوفير ميزانية كافية لتمكين قوة الدفاع الوطني  من أداء مهامها بفاعلية وكفاء، إضافةً إلى ضمان مستوى معيشي لائق لمن هم بالخدمة داخل المؤسسة العسكرية.

وفقًا للأدبيات السياسية في العلاقات المدنية العسكرية، تجمع تلك النظرية بين الجانبين الوصفي والتوجيهي فهي تصف مقدار التوافق بين المؤسسة العسكرية والنخب السياسية والمواطنين، كما أنها توصي بالعمل على الوصول لمثل هذا التوافق باعتباره الرادع الأمثل للتدخلات العسكرية في الشأن السياسي كما هو في حالة جنوب إفريقيا.

التنافس المدني العسكري

تمثل تلك النظرية، الإسهام الرئيسي الثالث في مجال تحليل العلاقات المدنية العسكرية التي قدمها كل من أريل كرواسون وديفيد كوهين في عام 2010، حيث يذهب كل منهما إلى أن مقدار السيطرة المدنية يتوقف على نتيجة التنافس بين المدنيين والعسكريين في الدولة في خمسة مجالات لصنع القرار وهي تجنيد النخبة، صنع السياسة العامة، الأمن الداخل، الدفاع الوطني، وأخيرًا التنظيم العسكري.

وعليه فإن تراجع مستوى الدعم الشعبي للنظام المدني الحاكم، وتراجع نشاط المجتمع المدني، يساعد على التدخل العسكري ويجعل تكلفته منخفضة، بينما تزايد الدعم الشعبي للنظام المقترن بتوافق مدني حول المسار الديمقراطي، يجعل من التدخل العسكري أمرًا محفوفًا بالمخاطر، إضافةً إلى عِظم تكاليفه وسيكون من المستبعد أن تُقدم المؤسسة العسكرية عليه.

أما الفاعلون الخارجيون فيمكن أن يكون لهم دور إيجابي من خلال الضغط على الجيوش والحكومات لفرض السيطرة المدنية على الجيش، كما يمكن أن يكون لهم دور سلبي من خلال دعم الأنظمة العسكرية أو دعم التدخلات السياسية لبعض الجيوش في بعض البلدان، وبالتأكيد كلما زادت قوة الدولة أو المؤسسة الدولية المعنية كان تأثيرها أكثر قوة في الدول المستهدفة.

"هذا الشعب لا ينسى من خدمه أيها الجنرال".. كانت تلك الكلمات آخر ما قاله أول زعيم سياسي منتخب في تاريخ الجمهورية التركية عدنان مندريس للجنرال جمال جورسيل الذي الذي انقلب عليه عام 1960. لم يعش مندريس بعد مقولته تلك إلا بضع دقائق، ثم تم إعدامه، إلا أن مقولته ظلت راسخة في أذهان الأتراك، فكانت كلمة السر في إفشال محاولة الانقلاب على رجب طيب إردوجان في عام 2016.

هذه المحاولة الفاشلة أثبتت أن الشعوب هي الرادع الأوحد للتحديات الكبرى التي تواجهها الحكومات، حيث استطاع الشعب التركي أن يحطم فرضية الانقلابات العسكرية في النظم السياسية، كما أنه لم لم ينتظر ردود الفعل الدولية، وتحرك في الشوارع والمياديين لوقف الانقلاب.

يتضح من النظريات الثلاث السابق الإشارة إليها أن السيطرة المدنية أضحت أحد المتطلبات المسبقة للديمقراطية، فلو لم يسيطر المدنيون على مجالات صنع السياسات العامة، والأمن الداخلي، فلا مجال للحديث عن نظام ديمقراطي حقيقي.

 


  • *جون جارانج (23 يونيو/حزيران 1945 - 30 يوليو/تموز 2005) هو زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان والنائب الأول السابق لرئيس الجمهورية في السودان قبل الانفصال ورئيس حكومة جنوب السودان. ولد جارانج عام 1945 في جونقلي بالسودان لأسرة ميسورة من قبيلة الدينكا، وتوفى في 30 يوليوعام 2005، عندما تحطمت مروحيته عندما كان عائدًا من أوغندا.

    * الدولة الأبوية في شكلها المثالي كما حددها ماكس فيبر تعبر عن خمس خصائص هي: حكومة تقوم على الحكم الشخصي، وغياب الفصل بين الحياة العامة والحياة الخاصة للمسئولين في الدولة، والنظر للوظيفة العامة كوسيلة لتحقيق الثراء المادي، وأخيرًا يعمل النظام طبقًا لشبكة القائد والأتباع، وتستخدم السلطة لخدمة مصالح المسئولين والحكام.