السيدة زينب والحسين

المولد في مصر.. الباحثون عن الحرية في ساحات الله

منشور الأربعاء 8 مارس 2017

كلمات تعالت بها أصوات الزائرين والجالسين في مسجد السيدة نفيسة بنت حسن الأنوار، المعطر بروائح البخور الطيبة، والروحانيات التي تجلب السكينة، وبينما تمايلت رؤوس بعض النساء، وهن يرددن: "الله الله الله"، ضمت سيدة مسنة طفلة تبكي إلى حضنها، فهدأت واستكانت بعد بدء الحضرة.

المولد، إحدى ساحات الله في أرض مصر، تـُحيى فيه ذكرى أحد المنحدرين من نسل النبي، أو ولي من أولياء الله، ويـَشدُ الكثيرون الرحال إليهِمُ؛ تختلف أعمار زوار ساحات الله، فتجد الشاب والشيخ؛ الفتاة والسيدة، وتتنوع ملابسهم؛ ترى المحجبة وغير المحجبة، الجلباب البلدي والشال الصعيدي وبدلة الأرستقراطي، تلتقط عيناك الفلاحة الأصيلة، والأجنبي المندهش، وحامل الكاميرا الباحث عن لقطة مميزة، تتنوع أهدافهم بتنوع ثقافاتهم، وتجتمع قلوبُهم على المحبة، وبهجة الاحتفال غير الهادفة، لتكون الفرحة للفرحة.

وفي مجتمع دهسته آلة العولمة الجبارة، فلن يكون من السهل عليه تقبل معنى فرحة غير هادفة، ولسوء الفهم تُثار الإشكاليات، ويتحدث إصلاحيو المجتمع المدني وبعض من يتصورون أنهم حراس العقيدة وحماة البلاد من الفوضى عن "مخاطر الفرح". 

 

حكايات المولد

وسط المولد تجد الكثير من الحكايات، فهناك العديد من النساء، خاصة كبيرات السن منهن، اللواتي يروين لك الحواديت، في مولد السيدة نفيسة تحكي سيدة في الأربعين من عمرها: "كنت عقيمة وندرت ندر، وتحقق حلمي، ومن وقتها وأنا باجي". وتقول أخري إنها لم تتزوج فأصبحت عانسًا، ومع زياراتها المتكررة "رَزَقَها الله بابن الحلال"، وحكايات أخرى كثيرة اختلف مضمونها، واتفقت على أن "الله لا يخذل من سأله عند مقام الست نفيسة".

يقول عم سيد، البالغ من العمر 70 عامًا، والمقيم في رحاب ساحة السيدة نفيسة منذ 13 عامًا، "الناس بتيجي هنا تتبارك بالمكان؛ الفقير بيجي عشان ربنا يديله؛ والغني بيجي عشان البركة، اللي بيموت بيجي هنا، واللي بيتجوز بيجي هنا، كل يوم أكتر من عشر جنازات وزيهم أفراح".

سألناه عن سبب استقراره على باب الست نفيسة، فأخبرنا: "أنا عايش هنا علي بركتها، ربنا بيرزقني عشان أنا على بابها"، هكذا يعتقد الرجل السبعيني ولا ملامة على ما يقوله، فربما "من ذاق عرف" تــُنهي أمر نقاش قد يطول، دون جدوى.

 

مسجد السيدة نفيسة - من فيديو عن المولد

ولكن على جانب آخر، تجد عند باب السيدات أحد الشيوخ، ذا وجه أبيض تكسوه حمرة، يرتدي جلبابًا أبيض وصديري أخضر، وطاقية مطرزة، تتوافد عليه السيدات ليقرأ على رؤوسهن ما تيسر  من القرآن بهدف الاستشفاء، ويأخد منهن "اللي فيه النصيب"، ولكنه يختار ضحاياه بمكر وذكاء.

سألنا إحدى السيدات اللاتي دار بينها وبينه حوار، ولفت نظرنا طول الوقت الذي قضاه معها مقارنة بسيدات أخريات، أخبرتنا السيدة الثلاثينية، دون خجل، أن الشيخ حاول إقناعها بأن علاجها لا يمكن هنا بين هذا الجمع الذي يلتف حوله بانتظار الدور.

قالت السيدة إنه طلب أن تذهب إليه في عنوان ليس ببعيد "عشان نقدر نفك العمل". ولكنها أخبرتنا أنها لن تذهب لأن صديقة أخبرتها بسمعة الشيخ السيئة، وأن يطلب من النساء التعري بدعوى رسم نقوش طاردة للشياطين على أجسامهن. وبينما أخبرتنا أن صديقتها لم تقبل ذلك تضيف أن هناك من يستجبن لطلبات الشيخ أملًا في العلاج. 

ورغم وجود استثناءات، يظل المولد متنفسًا روحيًا، قادرًا على منح الفرحة، وإن تلوث ببعض الدخلاء، فهو العالم الكبير الذي يجمع أكثر من حياة بين الخيم المزروعة في شوارع وحارات ساحة الولي.

حياة كاملة

"لا أريد رسم صورة مثالية ولا خادعة، فالمولد عالم فيه كل شيء، ستجد التاجر والبائع والمتحرش وربما اللص والنشال، لكن كل هذه السلبيات لا تعدل شيئًا مقابل جمال الساحة وتنوعها".

هكذا يقول أيمن عامر، وهو كاتب مصري في الأربعين من عمره، قضى منا 15 عامًا يتنقل بين الموالد في الشوارع والحارات والدروب.

يضيف عامر: "ساحة المولد عالم شديد الثراء والتنوع، حياة كاملة وفق نمط خاص، ما أن تقترب منه حتى يتكشف لك شيئًا فشيئًا، لترى فيما وراء هذا الزحام والضوضاء والأضواء المبهرة وأصوات الباعة عالمًا آخر يسوده الود والمحبة".

المولد في مصر تراث قديم لا يرجع فقط للعصر الإسلامي، يقول عامر: "هنا في الساحة، ترى صورًا من ماض عتيق تتداخل مع مشاهد عصرية شديدة الحداثة، تتلمس روحك مع أنفاس الـرُّوحانيات المحيطة بساحة الولي، والصادرة من كرم نفوس الأتباع والمريدين، نبضات تاريخ ما زال حيًا ومتوارثًا منذ كان المصريون يحيون ذكرى مقدسهم أوزير، أو وهم يترنمون وينشدون مع أنغام الهارب أهازيجهم وابتهالاتهم وأشواقهم للربة حتحور".

يترجل بنا بين دروب أهل الله، ويضيف: "تأخذك قدماك لشوارع وحارات جانبية حيث خيام الزوار القادمين من أعماق الصعيد وآخر بلاد الله، فيناديك الواقف على باب الخدمة عازمًا عليك: ألا دخلت وتفضلت بتناول الطعام، بقلب منشرح، وكأنهم الآخذون وأنت العاطي المتفضل".

لم يمل الرجل طوال 15 عامًا من التردد على ساحات الموالد المتعددة: "حضرت عددًا من الموالد في بعض القرى والأقاليم، وأول مولد كبير حضرته كان في السيدة زينب عام 2001".

عن سبب تردده على المواد طوال هذا العمر الطويل، أخبرنا أن سادة المديح وراء دوام حضوره: "هنا في المولد، وهنا فقط، أحب سماع الذكر والإنشاد، حيث أسمع نوعًا مختلفًا وأصيلًا من الغناء والموسيقى، تسمع ألحانًا  تألفها نفسك، مقتبسة من تراثنا الغنائي؛ (أم كلثوم وحليم وفايزة ونجاة وغيرهم)، بنَفَس صوفي، وألحانًا تألفها روحك، وإن كنت لا تعرفها جيدًا، هذه الألحان القديمة المنحدرة من معابد مصر القديمة وكنائسها، بل من نبض شوارعها وأسواقها وعذابات أهلها وأفراحهم، وما إن ينكسر حاجز الغربة بينك وبين هذا العالم حتى لا تعدِلُ به شيئًا".

يضيف: "في ساحة مولد الحسين مثلًا سيدهشك عدد المنشدين (ما يزيد على 1200 منشد يحيون أسبوع الاحتفال)، من منشدي الدلتا وبحري، إلى منشدي الصعيد، إلى منشدي إسنا بطابعهم الخاص، ونايهم المعدني المميز، الذي يصدح بأنغام من أعماق التاريخ المصري الموغل في القدم.. حتى (الذِكْر أو التفقير) نفسه شكله مختلف عندهم، هو فن وتدريب قاسٍ يحتاج رؤية وشرحًا مفصلًا، والغريب أن كل هذا بلا أكاديميات ولا دروس بالمعنى الشائع المفهوم".

 

من فيديو لمولد السيدة زينب

يرسم عامر خريطة أقطاب الموالد الكبرى في مصر: "يأتي مولد الحسين في الثلاثاء الأخير من ربيع الثاني، بعده مولد السيدة زينب في الثلاثاء الأخير من رجب، والسيدة نفيسة في الثامن من مارس، وفي الجنوب يأتي مولد الحسن الشاذلي على جبل حميثرة في وقفة عيد الأضحي، وعبد الرحيم القناوي وأبو الحجاج في الأقصر، وفي الدلتا ستجد المولدين العظيمين السيد البدوي وسيدي إبراهيم الدسوقي والمرسي أبو العباس في الإسكندرية".

ينهي الرجل حديثه قائلًا: "ماذا تريد أكثر جمالًا ومحبة وإبهارًا من أن تلقى في مساحة معينة العديد من الخدمات التي تقدم الأكل والشرب للناس، أناس يسعدهم ويفرحهم أن تتفضل بالأكل عندهم كأنك تعطيهم ولا تأخذ منهم.. وماذا تريد أكثر تسامحًا من مكان كهذا".

الحب دين المتصوفة

"المصريون بطبيعتهم مبدعون، يضيفون من روحهم الصافية على طقوسهم، إنهم يمزجون الدين بالفن، لأنهم يتحرون الجمال فلسفةً تصوغ وجدانهم في أي شيء يؤمنون به، وأي طقس يعبر عنهم". هكذا يقول الشاعر المصري أشرف الجمّال الذي قضى وقتًا طويلًا في دراسة الصوفية. 

ويضيف الجمّال إن "الصوفي  يؤمن بالحب منهجًا ومعراجًا للوصول إلى معية الله ومعرفته والسلوك إليه، وأول شروط الحب التواضع والألفة، والنظر بعين الرحمة إلى الخلق،  وتذويب الفروق الطبقية والتعلق بأهل الصلاح واستئناس الخلائق، والاجتماع على زاد المحبة، بلا غاية دنيوية أو سواها، وكل تلك المعاني يستحضرها المريد، أو المحب في المولد تحت خيمة الأنس بالولي".

يؤكد الرجل، صاحب التجربة الصوفية أيضا، أنه عادة لا يَفهم فلسفة المتصوفة إلا المتصوفة، أو من أحبهم ومن ذاقوا مواجيد العرفان،  وكما يقولون (من ذاق عرف)، لذا تجد أهل الحَرف والظاهريين من أهل الشريعة يـُنكر ون على المتصوفة أحوالهم وحضراتهم، دون دراية منهم بأحوال الصوفي ومقاماته".

ينهى الباحث حديثه فيقول: "الصوفية لا يعنيهم سوى القلب والحقيقة، لا ظواهر الأشياء، وليس لهم مقصود إلا الله؛ فإن زاروا وليًا فلأنه عبد انصلح حاله مع الله، وإن حضروا حضرة فلذكر الله، وإن احتفلوا بمولد فلأنهم يفرحون بالله ويأنسون بمن ائتنس بالله".

مخاطر الفرح

 

يبدأ عالم الأنثروبولوجي الاجتماعي والثقافي صامولي شيلكه من حيث انتهينا، ويكشف فـي كتابه المهم: "مخاطر الفرح"، عن مخاوف السلفيين الراديكاليين، والمجتمع المدني، وتحفظات السلطة من هذه التجمعات، ويتفاعل جدلًا وتنظيرًا مع هذا الثالوث ليـزيح الستار  عن اعتناق المترددين على الموالد مذهب الحرية شِرعةً ومنهاجًا، وربما يكمن هذا في سر العداء غير المبرر تجاه المولد ومرتاديه، وفقًا للرجل.

"مخاطر الفرح"، ثمرة مشروع "شيلكه" في الماجيستير والدكتوراه عن الموالد المصرية، وهو منشور بالإنجليزية عن جامعة سيراكيوز في نيويورك عام 2012، في قطع متوسط بلغ 258 صفحة، عبر  8 فصول ومقدمة.

غلاف كتاب

يروي شيلكه أنه جاء إلى مصر عام 1997 لدراسة اللغة العربية، وذهب مع أصدقاء له مولد السيدة زينب، فاستغرب ضيق واستياء بعض المصريين من المولد، رغم أنه رأى فيه أجواء من البهجة، فقرر أن يكون مشروع الماجيستير عن الموالد، وبدأت الرحلة، لتُستكمل بأطروحة دكتوراه في 2005.

حينما قرر طباعة كتاب "مخاطر الفرح" دمج الدراستين فيه، وغيَّر المنهج المنطقي الذى اتبعه إلى التجريبي، فقد رأي أنه غير ذات جدوى في سياق المولد ذي الطبيعة القائمة على الواقعية الاجتماعية، وعكف على رصد الظاهرة ودلالاتها، والاكتفاء بتسجيل ومناقشة الرؤى المختلفة للمولد بين الراديكاليين والمجتمع المدني والسلطة.

يروى شيلكه أنه أثناء زيارة له في مولد السيد البدوي بطنطا عام 2002، شهد نقاشًا حادًا بين مؤيد ومعارض ومتعاطف ومُكَفِّر ، بشأن المولد والزحام الذي يسببه، يطرح بعدها شيلكه بعض الأسئلة: "السينما وكرة القدم ومعرض الكتاب أنشطة مُختَلَف عليها، بها من التجمعات ما بها،  فلماذا تجمع المولد فقط هو من يربك البعض، في حين أن موقفهم هذا يختلف مع جمهور كرة القدم على سبيل المثال؟".

يجيب الرجل: " الموالد مسألة شائكة دائمًا تثير الجدل في المجتمع المصري مرة، وبين الراديكاليين مرة، بل وفي كواليس المجتمع المدني وأمام حاملى راية الحداثة، فماذا يضير الإسلام أو الحداثة أو المجتمع من فكرة المولد؟ ولماذا لا يثار هذا الخلاف حول أنشطة أخرى، ولماذا يخاف العالم من فكرة الاحتفال والمهرجانات حول العالم، أوروبا أيضًا وأمريكا اللاتينية تحديدًا، فتجد تأمينات على قدر عالٍ من التأهب"، رغم أن أي تجمع قد يسبب مخاوف منها على سبيل المثال (التجمعات الحزبية، بل وأحيانًا الأسرية)، فلماذا الخوف من المولد؟

يرصد شيلكه مخاوف وتفاصيل كل فصيل مما ذكر، فعلى سبيل المثال يرى أنصار المجتمع المدني أن المولد بطقوسه يهدد ثقافة الحداثة والدولة المدنية، لخلوه من الهدف، فالاحتفال هناك للاحتفال، والفرحة للفرحة، ولعلهم يرون في هذا تهديدًا لمشروعهم الإصلاحي، إن وجد، فالمولد أقرب إلى المثالية، وهو استثناء شاذ، إذ يهب مزيدًا من الحرية وبراح الروح، في مواجهة تناقض العالم ونفعيته، وفى مجتمع لا يُقَدِّر ثقافة الاختلاف والآخر  يظل هذا الاستثناء مخيفًا مهما كان مثاليًا".

ويظل الاختلاف على المولد قائمًا، وتبقى الحقيقة المجردة أن ما يحدث في هذه الموالد لا يتعدى كونه متعة بالمديح والإنشاد والتجلي، وصحبة الطيبين الذين تخلوا عن الدنيا لأهل الدنيا، لا يستهدفون سوى الونس وحرية وبراح أرواحهم، ليروا تجليات الله فى نسمات معبقة بذكره، بعيدًا عن أعين مجتمع دهسته الآلة والمنفعة وتعارض المصالح، ولم يعد يفهم معنى الاختلاف أو الاستثناء، فيقرر "الحرب للحرب" في مواجهة "الفرحة للفرحة"، وإن لم يخل المولد من بعض التجاوزات الإنسانية، والتي تكون استثناء وسط الجموع المحتشدة ولها مبرراتها، فنحن أمام أكثر من حياة، بل ألف حياة وحياة.