عن الذين قتلوا أنفسهم

منشور الخميس 9 مارس 2017

كنت أمشي فوق كوبري قصر النيل، دافنًا يديّ في جيوبي، مطرقًا قليلًا، أنتظر.

كانت ليلة من ليالي ثورة يناير، في فبراير/ شباط على وجه التحديد، قبل تنحي مبارك. كان يتوجب عليّ الرحيل من الميدان في كل ليلة، لأعود إلى بيتي حيث توجد رفيقة حياتي السابقة، لم استسغ فكرة أن أتركها وحيدة ليلاً في مثل هذه الظروف، فكنت أعود للمنزل حتى الصباح، ثم أقفل عائدًا للميدان. ولم تكن فكرة أن تبيت معي في الميدان واردة. عند إلحاحها جاءت معي للميدان يوم  29 يناير. هتفنا ومشينا مع الناس، جلسنا على الأرصفة، ثم جاء اليوم التالي وصورتي وصورتها تحتل ثلث صفحة في الأهرام، الفتاة الإنجليزية الشقراء تهتف بين الجموع.

ولأنني مصري، كنت أعلم ما يعنيه هذا، أخذت منها عهدًا أن تجلس في البيت بلا حراك، أو تكتفي بمنطقة بيتنا لا تتجاوزها.

هكذا كنت أرجع في كل ليلة، متجاوزا حلقات الثوار من علمانيين أو إخوان مسلمين، بعضهم كان ينصحني في كل ليلة بأن الميدان هو آمن مكان في القاهرة، وأنه من الأفضل أن أبقى هنا بدلا من مواجهة المجهول الحافل بالخطر. كنت أتجاوز عن هذا، وأتملص منهم بصعوبة، لا يسعني حكاية قصة حياتي لهم في كل يوم.

لكن ذلك اليوم كان مختلفًا.

قبل ساعات من العودة، كنت في مقر "ميريت"القديم بشارع قصر النيل، الذي كنت أعبر به يوميا في تلك الأيام، وإذا بابراهيم السيد—الصديق العزيز والشاعر المتميز—يخبرني عن رجل رآه يتهاوى إلى الأرض والدماء تنفجر من رأسه، فوق ذات الكوبري الذي كنت أخطو عليه الآن.

"أأنت متأكد؟!" هكذا سألته.

"لقد رأيته بعيني يا علاء" أجابني بحسم.

كان القناصة يشرفون على المنطقة كلها ويختارون طرائدهم من فوق الفندق المطل على ميداني عبد المنعم رياض والتحرير والشوارع المتفرعة عنهما ، هكذا أخبرني.

وهكذا مشيت، في طريق عرفته مصدرًا لبهجة طفولتي وأوائل شبابي، منتظرًا الموت في كل لحظة، في كل خطوة. كانت الأنوار معتمة، وكان البرد في الهواء، وكان المتحركين فوق بساط الأسفلت كأشباح قليلة العدد تبدو من بعيد، كنت أتحرك وحدي تقريبا. تذكرت الدماء التي رأيتها تسيل فوق نفس الكوبري قبل أيام قليلة، في يوم 28. أتذكر بوضوح جسد يقع ودماء تسيل، بينما نحن في هرج التقدم للأمام والتراجع للخلف في آن.

                               

متظاهرون يعتلون سيارات الأمن المركزي منتصف يوم 28 يناير 2011

.فكرت في الوجوه التي رأيتها معلقة في الميدان لأناس قضوا نحبهم فداء لما آمنوا به. كثيرهم من أبناء الطبقة المتوسطة الذين احتلت صورهم الميدان، وتذكرت هؤلاء البسطاء، أبناء الفلاحين والعمال والأفندية، الذين عُلِّقت صورهم في أحيائهم السكنية بفخر عقب التنحي، وتحتها أسماء لن يتذكرها أحد، وقد حملت صورة كل منهم بفخر ألقاب منها "شهيد اشتباكات الداخلية".

وبعد كل ما حدث، أتذكر مانشيت الأهرام في أبريل/ نيسان2011، وصورة عمر سليمان الذي يغادر مبنى ما، ومانشيتات عريضة تقر بأن القناصة كانوا من وحدة مكافحة الإرهاب بالداخلية -أو ربما هي جهة أخرى لا يستطيعون الإفصاح عنها؟- وأن مبارك كان يعلم بكل شيء عبر تقارير دورية كان يقدمها إليه وزيرا داخليته (العادلي وخليفته محمود وجدي).

ضابط

كانت هذه نتائج لجنة تقصي الحقائق التي ذهبت مثلما ذهبوا.

عبرنا بالكثير من المراحل، من كوبري قصر النيل إلى قاعة المحكمة التي برأت مبارك قبل أيام قليلة -نهائيًا- من تهمة قتل المتظاهرين.

بعض الناس جادلوا بحكمة بوذية، أو هي ميكيافيللية قائلين: دعوا الأمس للأمس، فلنفكر في المستقبل، دعونا نعقد صفقة ونتجاوز عن ما مضى، فيتجاوزا هم عن المستقبل. بدت هذه الفكرة مريحة للكثيرين، حتى بعد القبض الرسمي على مبارك، وحتى بعد إعلان الأحكام الأولى ضده، فكانت المجادلة أولا أن غضب الناس يجب أن يُمتص، وأن الرجل يستحق العقوبة في النهاية على أية حال، ولكن، وآه من لكن، فلو كانت هناك صيغة للتجاوز المطلق فلنفعلها. "دعك من المزايدين البلهاء"؛ هكذا يهمسون سرا، مقوسين شفاهم في إزدراء.

بعضهم صاغ العبارة بشكل أجمل، أو استخرجها من ثلاجات النضال القديم: "حق الشهيد حلمه". المهم حلم الشهيد وليس محاكمات ستُعقِّد أكثر مما ستحل. أليس كذلك. سأقول أنه كذلك، سأفكر في نيلسون مانديلا وتجربة جنوب أفريقيا. بلى، يبدو هذا عقلانيا. 

ولكن، من سيضمن أن تجاوزنا سيجر تجاوزهم؟ التجاوز يملكه الأقوياء، المتحكمين في عدد لا بأس به من المفاتيح، لا اقول كلها، ولكن عدد لا بأس به يجعل التجاوز براجماتية منطقية، وليس فقط مَعرضًا لنبل الإنسانية. ولكن، ما الذي تملكه كل هذه التحالفات الشبابية من مفاتيح؟ ما الذي كان يملكه الاخوان المسلمون حتى؟ وهم أبطال التسويات والصفقات "والشرطة كانت في القلب من ثورة يناير" وغير هذا من الضجيج بلا طحين؟

وبعيدًا عن النوايا الحسنة، فسنجد نوايا وكفى: إبراهيم عيسى الذي كان شاهدًا للنفي في ذات القضية، الثوري العظيم الذي أقر بأن الرجل لم يقتل احدًا. نعم، نحن من قتلناهم طبعا، أو بلطجية يعملون لهواهم الشخصي، أو هم زوار الفضاء، أم، مهلا يا رجل، ألا تتذكر عربة السفارة الأمريكية التي كانت تدهس في الثوار؟ نعم، هو الغرب الملعون من قتلهم. ويمكنك ساعتها، يا أيها الثوري العظيم، أن تقف على خشبة المسرح، والمصباح مسلط عليك في دائرة النور، لتغمض عينيك وتقول بفخامة "نعم! لقد كنت ومازلت من أشرس معارضيه، لكن الحق حق".

نعم، الحق حق.

عامة، أصبح مبارك الآن بريئًا من الدماء، بعد أن بدأنا نفكر "وكم من الشهداء قد ماتوا فعلا أصلا؟" وهكذا استمرت أركان نظام مبارك، موالاة ومعارضة في تبرئة النظام والدولة في أيام مبارك، لتكن مذبحة رابعة- وحدها- أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث، ومن يبدو أنه قد رعاها: العلمانيون. ومن سخر صحيفته للهجوم على أي حل سلمي، وللهجوم على البرادعي آنذاك؟ من صدرت صحيفته بمانشيتات "خطط الحل الوهمي لرابعة" والخ الخ؟ نعم، انت على حق: إبراهيم عيسى.

وهكذا قضت المحكمة بأن الرئيس لم يقتل احدًا، غالبا الموتى هم من قتلوا أنفسهم.

بوجهة نظر ما، فكل جيل يقوم بثورة يقتل نفسه حال نجاحها، لأنه يفتح الباب لكل جديد، ويصفده أمام كل قديم، وضمنه أبناء هذا الجيل أنفسهم. نعم قد يكون هذا حقيقيًا بمعنى من المعان، ولكن هذه الصدور العارية التي واجهت الرصاص لم تفعل هذا ليجلس الماريشال فوق عرش الرئاسة، لم تفعل هذا ليكون هناك عرش من الأساس. لم تواجه الموت ليطل علينا أحمد موسى ومصطفى بكري، وهي لم تحقق ثورتها بقتل الآلاف في ميدان في غضون ساعات. لم تخض نضالها كي يُعتقل الآلاف ويختفي الآلاف قسريا دونما أثر. لم تفعل هذا لننتهي لما انتهينا إليه، مؤقتا على الأقل.

والقادمون، القادمون لا ينبغي لهم أن يعروا صدورهم للرصاص من أجل محكمة تبرئ ساحة السيسي من قتل وتعذيب وحبس الناس.

قتلة وسفلة: هكذا سيبقى مبارك، وهكذا سيبقى مارشال رابعة، وهكذا ستبقى السلطة التي استعانت بالمجرمين في حماية الأقسام وقتما انتفض شباب يحلم بالأفضل، مهما كانت ألاعيب القضاء وأكروبات المتواطئين.

                                

متظاهرون يرفعون الأحذية في ميدان التحرير رفضًا لكلمة مبارك قبل ساعات من موقعة الجمل 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.