الصورة لـ David Evers

نساء | في الظلال المُغَبَّرة للعاصمة

منشور الأربعاء 8 مارس 2017

ملحوظة قبل القراءة: في هذه السلسلة – إن استمرت – سيتم تغيير أسماء الشخصيات وبعض الأماكن، كي لا تتسبب هذه النصوص في أي ضرر يقع على النساء المذكورات في السلسلة. أما تفاصيل الحواديت والشهادات، فلن يتم التعديل عليها.

اعتادت منال أن تخفي عمرها الحقيقي. فهذا الإخفاء هو جزء من قواعد اللعبة الاجتماعية المحيطة، واللحظة المحددة لقصتها تدعم هذه الحالة بالتهويم علي السن. هي لحظة 30 يونيو تحديدًا، سلطة تسقط وسلطة جديدة تُدَشَّن كسلطة مؤقتة ستفتح الباب الواسع فيما بعد أمام العسكريين. لكن هذه التطورات غير واردة في ذهن أي منّا وقتها.

الوارد فقط في حالة منال، التي ربما لم تتجاوز عمر الخامسة عشر، والتي برغم أنها تعيش بعيدًا عن العاصمة وعن وسط البلد وعن التحرير، وتتوه وترتبك إن زارت هذه الأماكن، هو أنها ستنزل لإسقاط مرسي. تخاطب جدتها المدافعة عن حكم الإخوان قائلة "إنشالله يلهفه أتوبيس". مؤكدة وضاحكة "تحيا مصر"، رافعة يديها إلى أعلى.

النساء وحقوقهن يشغلن حيزًا كبيرًا من "الصراع المجتمعي والسياسي" السائد وقتها، ما بين دستور الإخوان الذي تجاهل إقرار الحد الأدنى العمري للزواج رغم مطالبات قطاعات واسعة من المجتمع المدني بذلك وقتها، وبعض مَن يُطلق عليهم شيوخ ويؤكدون على المنابر أن البنت في البلاد الحارة "ممكن يبقى عندها سبع سنين وتحيض"، وصولًا لدعايات العسكر المحافظين وبقايا نظام مبارك، المبطنة، بأن حياة النساء ستكون أفضل بعد إسقاط الإخوان الفاشلين في حل مشاكل اجتماعية مزمنة. وإن تحدثنا عن مصالح منال المباشرة فإنها – رغم كرهها للدينيين – غالبًا مع ألّا يتم وضع أي حدود عمرية للزواج، فحين يظهر العريس ينبغي اقتناصه، والفرار إن أمكن، لكنها تعلم أيضا بحكم واقعها بأن الدستور لا يلعب دورًا كبيرًا في حياتهن. فالسن القانوني، المحدد بثمانية عشر عامًا فيما سُمي بـ"قانون سوزان"، لم يكن عائقًا أبدًا، فمن المتاح دائمًا تمزيق شهادة الميلاد والتسنين من جديد مقابل أموال قليلة.

هي من قرية من هذه القري التي تضخمت في زمن عبد الناصر، فتتحول إلى مدينة صغيرة، ثم تتضخم مع الهجرة الخليجية، والغزو السياحي الخليجي العكسي، في الثمانينيات والتسعينيات. تتضخم لدرجة أن المسافات بينها وبين المتروبوليس – العاصمة البعيدة نسبيًا – انمحت تقريبًا. اختفت الرُقَع الخضراء، ولم يعد بإمكانك أن ترى مجرد بقع متناثرة لبنايات الطوب الأحمر، أو الرمادية والصفراء الباهتة، مثلما كان الواقع البصري من قبل. بل ستجد في الطريق مجرد بقع متناثرة من الأخضر، لبعض القاطنين القليلين المصرين علي كونهم فلاحين في ظلال المتروبوليس.

والقرية/المدينة لم تتوسع فقط بفضل المشروع التنموي الناصري في الخمسينيات، أو بفضل الأموال المُرسلة من العُمَّال المُهَجّرين لبلاد النفط، وإنما توسعت بفضل تحولها لواحدة من أسواق بيع بناتها في سوق الزيجات السريعة للسياح والزائرين من الخليج وبعض البلدان العربية الأخري، في وجه بحري وفي أول طريق الصعيد.

سوق الزيجات السريعة، التي تستمر بعضها لبضعة ليال فحسب، تَراجَع بتأثير تدهور الوضع الأمني، وتراجُع السياحة مع ثورة يناير. والزيارات القليلة المتناثرة للزبائن لا تؤكد سوي الكساد، وانتقال السوق إلي الشوارع المحيطة ببعض فنادق وسط البلد، مع تغير طبيعته. ووالد منال ،أيًا كان الوضع، سواء انتعش السوق أو لم ينتعش، غائب عن قائمة المستفيدين المحتملين. على عكس سماسرة الزيجات والمحامين الذين عَمّروُا بيوتًا ضخمة أشبه بالفَلَل والقصور.

 

***

"أبويا اتجوِّز تلاتة. أمي هي اللي على ذمته، وعنده عيال من التانيين. بيذلّ إخواتي على العيش اللي بيجيبهولهم. كل ما يكلم أمي يقولّها كفاية أني بأكّلكُم. أنا مش عايزة أمي تتذل تاني... بيقعد يشتمها ويضربها، وقبل كدا رمالنا هدومنا في الشارع وطردنا، وقالّنا اطلعوا برا مش عايزكم، وكنا في رمضان. رمضان دا بيعدي علي الناس كلها شهر مفترج، بس بيعدي علينا كله نكد".

والد منال لا يملك إلا بعض الألعاب المحطمة والتي بهتت ألوانها، التي ينصبها عند تقاطع شارعين بأرضية ترابية، أمام بيتهم المبني من الطوب النيء، والمُعَرَّش ببعض الأخشاب، وبشكل غير مكتمل. ومن المشكوك فيه أن هذه الألعاب المتهالكة قادرة علي لفت أنظار الأطفال، لكنها مصدر دخله الوحيد. أما البيت الطيني غير المكتمل فهم يعيشون به بناء علي رغبة أحد الأقرباء، كي يكون مأهولًا، وللدفاع عنه والتصدي للخصوم في نزاع متعلق بالميراث. وإن حُسِم النزاع قضائيًا فربما تُطرَد منه العائلة متعددة الأطفال.

في مواجهة سخرية واحدة من الجارات، تنفعل منال وتقول بحسم: "أيوا.. لو اتجوِّزت من برا هعالج ضهر أمي وأشيلها من ع الأرض شيل". هي تعلم بأن أسعار الزيجات انخفضت كثيرًا عن الماضي نظرًا لكثرة المعروض وقلة الطلب، وغالبًا ما يتم دفع مبلغ يتراوح ما بين خمسة آلاف وعشرة آلاف جنيه. لكنها تطمح في أن تحتل مكانها بين صفوف الاستثناءات القليلة، الفتيات اللواتي تَمَكنّ بشطارتهن من الحصول علي مبلغ 100 ألف جنيه.

"بقالي أكتر من أربع سنين أبويا ده ما بيصرفشي عليا. ولا عمره جابلي جلابية. بحس أنه ما بيحبنيش. هو الحقيقة ما بيحبنيش، قالهالي كذا مرة. أنا دلوقتي ما بقعدش معاه ع الأكل... آه بيضربني... مِعَلِّم جسمي... وصحابِك ما يجوش هنا، وما تروحيش عند حد، وما تخرجيش. كل حاجة لأ.. ألبس دا لأ، أروح فرح لأ... كل حاجة لأ. لدرجة إن أنا عشان ما باخدش منه فلوس كنت بروح أخدم في البيوت، من غير ما أمي تعرف". تصمت قليلًا لتتابع: "عشان كدا يا أستاذ باسل أنا عايزة اتجوز من برا".

***

"قبل كدا خَرَجْت من غير ما أقولُّه، خَد معاه سكينة، وخَدني في توك توك عشان يقتلني، ع الطريق دا.. عشان يقتلني.. وكان بالليل. واللي جُم حاشوه عمامي. قلتله سيبني، مالكش دعوة بيا، ما تقتلنيش وسيبني مالكش دعوة بيا. كل دا عشان خرجت مع صحابي من غير ما أقولّه".

بالرغم من رعب منال المزمن من أبيها، لكنها تتمرد وتغامر من حين لآخر. فتصحب بعض جاراتها الأكبر سنًا للكوافير، وهو مكان لا يتلاءم مع القرية/المدينة المُغَبَّرة، ألوان فاقعة وأجهزة كثيرة، بعضها لتبييض البشرة، مَرايا ضخمة على كل الجدران، وصور لنساء بملامح أوروبية يلبسن أحجبة "سيكسي" وملابس ضيقة تُبرِز أجسادهن حسنة التغذية.

تخلع حجابها كي يقمن بـ "تظبيط" شعرها قليلًا. شعرها طويل وناعم، تتفاخر به أمام الأخريات، لكنها تعود وتغطيه بثلاثة إيشاربات برغم الحَرّ. ثلاثة أقمشة بألوان مختلفة، البرتقالي أولًا، ثم الأحمر، وأخيرًا الشال الأسود الثقيل الختامي. فتتلون جبهتها بخطوط الألوان. تخرج إلي الشارع لتواجه عاصفة ترابية صيفية.

تعي منال جيدًا، ولدرجة اليقين، بأن الزيجة في نفس القرية/المدينة، من أحد أبنائها، بقيمها المحافظة والدينية، المختلطة بقيم المدينة المشوهة، والتي خَلقَت منظومة أخلاقية غريبة ومُهَجَّنة، لن تحقق لها غالبًا حلم الخلاص، أو حلم الهروب. تعي بأن من سيتزوجها هنا سيكون فقيرًا مثلها، وتكره مجرد خاطر أن ليلة عُرسَها سوف يتم عرض جهازها الفقير والمحدود أمام الجيران. هي متيقنة بأن أهل الزوج، الفقراء مثلها، سيفعلون مثلما تفعل هي أحيانًا، أن "تعيب" على الآخرين: "هيقولولها ياللي أمك ما جابتلكيش حاجة. وهيعايروها ويشتموها ويبهدلوها".  وتضيف بوعي: "أنا بعيب على اللي جهازها مش حلو. مش هقولّك ما بعيبش".

***

تجلس علي الأرض، تُلاعِب أختها الرضيعة التي تمص سائلًا أصفر من كيس بلاستيك طويل وضيق. ولكن منال، بحُكْم أنها فعليًا طفلة، غير قادرة علي الاستقرار في مكان واحد، "تَنُطّ" لتترك أختها، مبتهجة من فكرة أن تُحضِر الصور التي اُلتقطت لها قبل أيام. تَدّعي أنها كانت في حفل زواج، لكن الصور مُلتَقَطة في واحد من الاستوديوهات، وتبدو الصور، بسبب نوع التنسيق والمونتاج، أشبه بما يُعرَف بالـ "فوتوبوك" photobook، الذي كان يستخدمه من قبل الممثلون. تقف في الصور ملتوية ببنطال ضيق، وبلوفر أضيق بلون أخضر، متشبهة بالأوروبيات المعلقات صورهن علي جدران الكوافير، لكن بفقر واضح ومن دون ملامح أوروبية. تشير أمها بضيق: "بس عيب الوقفة دي". أما الجارة الضاحكة فتؤكد أن الوقفة "عشان تِبَيِّن الإمكانيات". أما كاتب هذه السطور فيسألها مندهشًا: "عاملة زي صور الممثلات، صح؟". فتجيبه بسعادة "أيوا". "طب وليه كدا؟" فلا تكتم ضحكها وطموحها: "عشان همّا مش أحسن مننا في حاجة".

"أبويا خَدني من قيمة كام يوم وودّاني عند سمسار كان عنده عريس. دخلت وقعدت. العريس طَلَّع أبويا والناس اللي كانوا قاعدين، وطَلَّع السمسار. وقعدنا أنا وهو. قالّي اقلعي الحجاب. قلت له مش هقلع الحجاب. طب اوصفيلي نفسك. قلتله إزاي يعني أوصفلك نفسي؟ فقام قالّي طب أنا هجيبلك مَهْر كويس جدًا، بس أعرف صدرك قد إيه. قلتله لأ طبعًا، ما ينفعش أوريك حاجة من دي... العريس كان كبير كدا، كبير قوي، وتخييين، ودَقنُه دي كبيرة، ولابس نضارة. قالّي خلاص أنا هصلّي واردّ ع السمسار".

العريس مثلما تؤكد منال من المملكة العربية السعودية وعمره يناهز السبعين عامًا.

***

"كل الناس كدابين". هي الحقيقة التي تعرفها منال، تكررها باستسلام دون أن تفارقها ابتسامتها. "عايزة ألبس وأعيش حياتي زي أي بنت. آه، كنت عايزة 100 ألف جنيه عَشان أعيِّش أمي وأعيِّش إخواتي. مش لازم 100 ألف جنيه، بس يجيب لي بيت.. يجيب لنا بيت يعيشوا فيه.. أهلي يعيشوا فيه. ولو هتمرمط معاه هناك، خليهم هم يعيشوا فيه".

جملتها الأخيرة تقولها بينما تبكي بصمت "أنا زهقت". تتبعها بعدها بدقيقة "بس. هو دا كل اللي عندي".

سَقَط مرسي، وتلا السيسي بيانه الشهير. علي التلفزيون مشاهد لمحتجين دينيين يُلقون بشابين من فوق سطح واحد من بيوت الإسكندرية. تنهض منال لتخرج إلى نفس الشارع، المُغَبَّر مثل بيتها.