وصول النازحين الأقباط من العريش للكنيسة الإنجيلية بالإسماعيلية- موقع عرب 48

مثلث الرعب في سيناء.. والهجوم علي مسيحيي مصر

منشور الأربعاء 1 مارس 2017

نُشر المقال بالإنجليزية في صحيفة ميدل إيست آي

بينما صافحت صور السيدات القبطيات المذعورات أعين المصريين في نشرات الأخبار المذاعة صباح الجمعة، بعدما أجبرن على النزوح من بيوتهن في شمال سيناء، هربًا من هجمات منسوبة لتنظيم الدولة الإسلامية؛ كان الرئيس عبد الفتاح السيسي في الوقت نفسه يتنزه بدراجته في وسط القاهرة.

وبعد قليل من إنهاء جولته مع طلاب أكاديمية الشرطة، قال السيسي للجمع المتحلق حوله: "محدش هيقدر يمس هيبة الدولة". كان يقول هذا في اللحظة التي يتوالي فيها نزوح 100 أسرة قبطية من العريش خوفًا على حياة أبنائهم.

 

هذا جزء من الفوضى التي تواصل مراكمة الغضب، تجاه الخلل الذي يصم أداء الجيش في أعين العامة، فيما يتعلق بمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في شمال سيناء. فـ"تنظيم ولاية سيناء" أعلن حربًا على المسيحيين في فيديو نشره التنظيم في وقت مبكر من هذا الشهر (فبراير/ شباط 2017).   

يقول تنظيم ولاية سيناء في الفيديو: إن المسيحيين هم "الصيد المفضل" لدى الجماعة المتشددة. ووفقًا لتقارير منشورة، فقد أعلن التنظيم قوائم اغتيالات تضم أسماء 40 مسيحيًا على الأقل، عشرة -على الأقل- من هؤلاء المُهَدَّدِين قُتلوا خلال الشهر المنقضي. 

ولكن عوضًا عن تناول هذه القضية، اختارت الحكومة تجميل ما يحدث في سيناء، حيث يُملي "الإرهابيون" شروطهم التدميرية ويفرضونها بشكل لا تحتمل الحكومة الاعتراف به. هذه ليست معركة بسيطة بين المسلحين المتشددين والمسيحيين، لسوء حظ الحكومة.  

فمجتمع المسيحيين المصريين يواجه مثلث إرهاب أول أضلعه ذلك القتال الشائه في سيناء، وثانيها نظام الدولة الجائر، وثالثها جيش من الجهلة المقموعين المسلحين، الذين يمتلكون قدرة أكبر على الاختراق والحركة، تجعل هزيمتهم بالصواريخ والبنادق وحدها أمرًا مستحيلاً.

التعتيم في سيناء

الحكومة المصرية لديها الكثير لتخفيه في سيناء. كل يوم تقريبًا هناك عمليات تفخيخ هجومية، حيث يزرع المسلحون متفجراتهم في طريق المركبات الشرطية والتابعة للجيش، لتتسبب في قتل أفرادها أو جرحهم والتسبب في إعاقتهم.

هناك قناصة يرقدون في انتظار وترقب كي يصطادوا المجندين ضعيفو التسليح والحماية، بالإضافة لتفخيخ السيارات الذي يتسبب في عمليات قتل لا تمييز فيها بين الضحايا.

                                        

سيارة تابعة للجيش المصري تعرضت للتفخيخ على يد مسلحي تنظيم

وعوضًا عن استدعاء جنود مقاتلين متخصصين من أبناء المنطقة، يتمتعون بالتحصين وأدوات الحماية المناسبة لقتال تنظيم الدولة الإسلامية، ما يجعلهم يتمتعون بمزية معرفة الأرض في حرب العصابات الدائرة؛ يستمر الجيش في الإلقاء بمجندين قليلي التجهيز وفقيري التدريب في قلب الأزمة. ارتفاع الخسائر في الأرواح يمثل هدية سخية للآلة الدعائية لتنظيم الدولة الإسلامية.   

وعلى هذه الخلفية، لا يُعد من قبيل المفاجأة أن الجيش يلقي صواريخه الانتقامية بعشوائية مذعورة، على المناطق المدنية في سيناء. 

في نفس اليوم الذي غادر فيه عشرات الأقباط مدينة العريش، كان هناك تقريرين محليين عن مصرع طفل عمره 10 سنوات، وإصابة رجل يبلغ 26 عامًا برصاص الجيش. بالإضافة لهذا؛ قُتل رجل من السكان المحليين بعد ساعات من تعرضه للاختطاف على يد الميليشيات في العريش، وقَتل قناص أحد المجندين في رفح.

تمييز ممنهج

في بلد يغلب عليها المسلمون السنة، وارتفع عدد سكانها لما يفوق الاثنين وتسعين مليونًا، فإن عدد المسيحيين يعد سؤالا مهما في حد ذاته.

إذا ما تحدثت إلى مسؤولي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ستسمع أن المسيحيين يشكلون 10% من تعداد الشعب المصري (9.12 مليونًا). لكن في 2011 وجدت مؤسسة بيو البحثية أن تعداد المسيحيين ارتفع إلى اقصاه إلى نسبة 8% من المصريين في عام 1927، لكنه تراجع إلى 5%وفقًا لآخر البيانات المتاحة والتي يعود تاريخها لعام 2008.

لكن من الصعب أن نعرف أي رقم نصدق. فالبيانات الدقيقة تخضع لحراسة لصيقة من الأنظمة المتعاقبة، التي تجد أن حساسية القضية ودرجة الظلم التي ستكشف عنها، تستحق اعتبار عدد المسيحيين الحقيقي "قضية أمن قومي".

الحقيقة أن أسطورة وحدة الملسمين والمسيحيين هذه بكاملها صنيعة الدولة. فلكي يبدو للعالم أن مصر موحدة غير طائفية؛ تنتحل السلطة قناع دولة تُعلي من قيم المساواة. والأهم؛ تدعي أنها ليست بحاجة إلى التغيير، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة.

من الحقائق الثابتة أن المسيحيين والمسلمين قدموا الحماية لبعضهم البعض عندما كانوا يُصلّون في التحرير خلا الـ18 يومًا العظيمة في الثورة المصرية؛ إلا أن هذه اللقطات هي الاستثناءات.. لا القاعدة. 

                                               

فجر 3 فبراير 2011- مسيحيون يحمون المصلين المسلمين قبل ساعات قليلة من انتهاء هجوم البلطجية على المعتصمين بميدان التحرير خلال موقعة الجمل

ضع قدمك في سيارة أجرة مصرية، وسيكون واحد من أوائل الأسئلة الموجهة إليك "مسلم ولا مسيحي؟" ورغم أن هناك ممارسات تمييزية شائعة؛ إلا أن الحديث عنها لا يتم إلا في الغرف المغلقة فقط، فممارسة مثل رفض المسلمين لتشغيل المسيحيين في أعمالهم والعكس، هي ممارسة شائعة ومؤكدة. 

في أغسطس/ آب الماضي، مرر البرلمان قانونًا وجدته منظمة هيومان رايتس ووتش ينطوي على تمييز، ويجعل توسعة المباني الكنسية أمرًا مستحيلاً.

اقرا ايضًا: كيف مرر البرلمان قانون الكنائس

ومن المعروف أن أكثر المناصب المصرية حساسية في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وكذلك الأكاديمية، والجيش والشرطة، كلها عصية على المسيحيين. فبنيويًا؛ تمت هندسة النظام كي يكون في صالح الأغلبية المسلمة.

على الرغم من الصورة التي ترغب الدولة ومعها الأزهر والكنيسة في تقديمها للغرب، وما تحاول القيادات الدينية في مصر الالتفاف عليه؛ فإن السيسي قال في اليوم الذي نفّذ فيه انقلابه إن الحكم في مصر مقسم، لكنه غير متوازن.

الحائط الخفي

في جذور هذه الأمة؛ فإن العوامل التي تعزز الانقسام أكثر من تلك التي تعزز الوحدة. ممارسات المساجد ومدارس الأحد لا تتوافق مع مقاصد الكتب المقدسة. وغالبًا ما ينطلق الخلاف من النقاشات في دوائر تنعقد عقب انتهاء العظة/الخطبة.

 تغيير هذا الوضع لا يستلزم "تجديد الخطاب الديني" كما ألمح السيسي ونظامه، ولكنه يتطلب نقض ذاك الحائط الخفي بين المسيحيين والمسلمين، فهذا الحائط في النهاية لا يتعلق بالدين على الإطلاق.

كما صرح لي مينا ثابت مدير برنامج الأقليات والحريات الدينية في المفوضية المصرية للحقوق والحريات؛ فإن الانقسام بالنسبة للمسحيين ليس نابعًا عن توجيهات تنص عليها شرائعهم الدينية، لكنه ناجم عن عزلة فرضوها على أنفسهم لحمايتها بعد تكرار الخبرات السلبية التي تعرضوا لها في هذا المجتمع.

اقرأ أيضًا: في الذكرى الخامسة لمذبحة ماسبيرو.. لنتعلم الدرس

وبينما يوجد الملايين والملايين من المسلمين ذوي النوايا الطيبة، فهناك – وبنفس القدر- شك بسيط في أن العديد من المسلمين الذين يتبنون، في السر والعلن، موقفًا انفصاليًا بعيدًا جدًا عما تحمله تعليمات القرآن. 

                                         

أمام ماسبيرو خلال مذبحة 9 أكتوبر 2011 التي ارتكبتها القوات المسلحة في حق مسيحيين مصريين- من أرشيف المخرج بسام مرتضى 

ورغم أن السيسي قال في كلمته التي ألقاها عقب تفجير البطرسية في ديسمبر/ كانون أول الماضي؛ إن أحدًا لن يستطيع تفريق المصريين، فإن الحقائق على الأرض تستمر في تكذيب قوله. بعض المسيحيين شعروا في البداية أن السيسي "مبعوث من السماء" لكن الحقيقة أقرب للجحيم.  

الرصاصة الأولى إذن سيطلقها هذا المجتمع

منذ سنوات، وبعدما فشل ابن عمومة بعيد في الحصول على الدرجات المطلوبة في مدرسته الثانوية ذات المستوى الاجتماعي الرفيع؛ وقف ليدخن سيجارة في شرفة غرفته بعيدًا عن أعين والديه، ويفكر في أن المسيحيين هم السبب في فشله "يقومون بالمذاكرة سويًا في مجموعات. وهذا يساعدهم على تحصيل درجات أعلى، يدفعون بها أمثالي إلى خارج دوائر القمة".

سألته: "من تقصد؟"

نظر إلى الأرض بامتعاض ورسم علامة الصليب على رسغه. وبامتعاض أكبر؛ ابتعدت أنا. كانت هذه آخر مرة أراه فيها لسنوات.

"ولّاعة" سيناء

التفسير الحرفي للقرآن، مُختلطًا بالدرجات العالية من الجهل والغضب تجاه الدولة وما يرونه حلفاء أقوياء لها "المسيحيين" يجعل من "تنظيم الدولة الإسلامية" ضلعًا ثالثًا في مثلث الإرهاب.

بالطبع لا يصدق عاقل أن هؤلاء الذين يحاولون التمثُّل بصورة الدولة الإسلامية في منطقة شمال سيناء، والذين عُرفوا سابقًا باسم "ولاية سيناء"؛ هم من المسلمين. فالإسلام لا يحرض على قتل الأبرياء من أي دين.

ولكن بالنظر إلى الاستراتيجية الأمنية الهزلية المتبعة في سيناء؛ فإن العلاقة الخطية بين القمع وتفجُّر الإرهاب وغياب الحلول الاقتصادية الناجعة؛ جعلت الوضع بالنسبة لمسيحيى شمال سيناء؛ كالبرميل المهيأ للانفجار.

                                 

النازحون الأقباط من العريش يصلون الإسماعيلية

إنها أبسط الاستراتيجيات: الفرص الاقتصادية الصفرية لأبناء المنطقة يُلام عليها المسيحيين، إن التشويه والتفرقة هو اسم اللعبة بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية. 

يقول مينا ثابت: حتى الأصدقاء القدامى لعائلات مسيحية بدأوا قبل عامين يوجهون إليهم النصيحة بمغادرة العريش. ولاحقًا اكتشف هؤلاء المسيحيين أن أصدقاءهم تحولوا إلى أعضاء في تنظيم الدولة الإسلامية.   

الرصاص لن يحل المشكلة

بعدما كتبت كثيرًا عن سيناء، قلت أن العصا لا يمكن أن تكون الحل الوحيد للقضاء على "تنظيم الدولة" في سيناء. بعد لقائه بالأسر القبطية الهشة التي اضطرت للنزوح القسري من العريش للاسماعيلية كتب مينا ثابت: " للمرة الألف، مكافحة الإرهاب ليست بالبندقية والمدفع والطائرة".

يعتقد مينا ثابت أن هناك العديد من الأمور الجوهرية التي يجب توفيرها: حل أمني قوي يعتمد على قوات تم تدريبها خصيصًا، وإنهاء الانقسام السياسي، والسماح للباحثين بدراسة الظواهر عن قرب.

لديه كل الحق، ولكن هناك شيء يجب الإصرار عليه على وجه التحديد؛ أن يكون هناك حل اقتصادي ممول جيدًا لشمال سيناء بالذات، يترافق مع التعليم والعدالة. الفشل في تحقيق ذلك سيعمق من الانقسام الطائفي، تمامًا كما يحدث في جنوب البلاد. 

اقرأ أيضًا: تفجير البطرسية.. وقائع يوم دام: صلوات وهتاف.. وصورة المتظاهرين بلا صوت

كفي تفرقة وكذبًا إذن: لو أن القاهرة لا تريد ان ترى تكرارًا للتفجير المروع للكنيسة البطرسية الذي وقع قبل شهرين؛ فعليها أن تكف عن الاكتفاء بوضع لاصق طبي على الثقب الذي أحدثته الرصاصة في القلب. 

لو كان السيسي لا يرغب في التحول 180 درجة عن موقفه من قضية سيناء على وجه العموم، وموقفه من المعضلة القبطية تحديدًا، فلن يعاني المصريون فقط؛ لكنه كذلك قد لا يكون رئيسًا لوقت كاف يُمكِّنه من محاولة تفكيك مثلث الإرهاب.