إنسان سِنّار.. هل ينقذ اللغة النوبية؟

منشور الخميس 23 فبراير 2017

كان آخر عهد اللغة النوبية بالكتابة والتدوين هو منتصف القرن السادس عشر، تحولت اللغة بعد ذلك إلى لغة شفاهية، تُنقَل بالتواتر من جيل إلى جيل حتى يومنا هذا. وظلت مسألة اختيار أبجدية مناسبة لإعادة الكتابة باللغة النوبية أمرًا يثير الحيرة ويختلف عليه النوبيون في مصر والسودان.

أثناء إنهائه إجراءات دخول الأراضى الألمانية، فَقَد مختار كبارة كل الوثائق النادرة والمخطوطات الخاصة بأبحاثه عن اللغة النوبية التي جمعها طوال سنوات. تخيل لوهلة أن الأمر  انتهى، وأن حلمه أفضى إلى سراب. لكنه تخلي سريعًا عن ظنونه، وقرر أن يعاود من جديد، من نقطة الصفر، إذ طالما اعتبر البحث في اللغة النوبية مهمته المقدسة التي يحيا لأجلها.   

كان آخر عهد اللغة النوبية بالكتابة والتدوين هو منتصف القرن السادس عشر، تحولت اللغة بعد ذلك إلى لغة شفاهية، تُنقَل بالتواتر من جيل إلى جيل حتى يومنا هذا. وظلت مسألة اختيار أبجدية مناسبة لإعادة الكتابة باللغة النوبية أمرًا يثير الحيرة ويختلف عليه النوبيون في مصر والسودان، حتى استقر الأمر وحُسِم الخلاف، باعتماد آخر حرف كُتبَت به اللغة النوبية، وهو الحرف المأخوذ عن اليونانية القديمة، وذلك طبقًا لمخطوط يعود تاريخه إلى القرن الثامن الميلادي، وكان عبارة عن مراسلة باللغة النوبية بين ملك النوبة والبطريرك القبطي في مصر. 

تنتمي اللغة النوبية لعائلات اللغات الحامية الكوشية النيلوصحراوية، وتنقسم إلى عدة لهجات أبرزها:   

1 - لهجة (النوبيين) المنتشرة فى الوسط النوبى، فى مناطق الفاديجكا والمحس بين الشلال الاول والثالث.  2 - لهجة (الأوشكرين) المنتشرة على الأطراف النوبية, شمالًا فى مناطق الماتوكية جنوب الشلال الأول.  وجنوبًا عند دنقلا نهاية الشلال الرابع للنيل النوبى.

ويزعم الكثير من الباحثين أن اللغة النوبية كُتبَت فى البداية بالخط الهيروغليفي المصرى. 

لكن إمبراطورية مروي العظمى (900 ق. م - 350 م) استطاعت  تخليق وتطوير خط خاص بها عُرف تاريخيًا باسم الخط المروي.

وبعد سقوط مروي، تأسست ثلاث ممالك نوبية مسيحية، استخدمت حرفاً مغايرًا، هو الخط الإغريقى المعدل نوبيًا، وجدير بالإشارة هنا دور الكنيسة النوبية وإهمالها المتعمد للخط المروي، وانحيازها لخط السلطة الدينية الجديدة. واكب ذلك تحول الكنيسة المصرية أيضا لكتابة لغتها باستخدام نفس الحرف اليوناني القديم. وهو الحرف الذى ما زال يُستخدم حتى اليوم فى كتابة اللغة القبطية، وهو أشبه بما يحدث حاليًا من محاولات لكتابة اللغة النوبية بالحرف العربي، بضغوط من مؤسسات ذات طابع عقائدي.

وهذا مُبرر  ومفهوم فالمؤسسات الدينية لن تدعم لغات أو خطوط مخالفة لقوميتها وثقافتها.

 يخبرنا دكتور محمد جلال هاشم البروفسير والباحث القدير فى علم النوبيات فى دراسة له نشرت بجامعة بورتسموث عام 2004: " .. المنطقي أن آخر مرحلة من تاريخ الكتابة النوبية في الماضي. هى التي ينبغي أن تُبعث في الحاضر وبهذا حُسم الأمر. ولا يبدو أن هناك أي خلاف حول استخدام الأبجدية القديمة".

 

 

 

مقطع من اغنية مكتوبة بالنوبية الحديثة ومترجمة للعربية 

مهمة مقدسة

فى منتصف الثمانينيات أنهى البروفيسور النوبى المصرى د. مختار خليل كبارة (1952 –1997) بعثته العلمية فى ألمانيا وعاد للقاهرة حاملًا درجة الدكتوراه فى علم المصريات من جامعة بون، وتفرغ لمشروع عمره، تحقيق الحرف النوبى القديم، هذا المشروع الذي تعرض فيه للعديد من الصعوبات منها فقدان الوثائق التي جمعها أثناء سَفَره إلى ألمانيا.

يتذكر الشاعر النوبي محمد سليمان جدكاب رئيس جمعية التراث النوبي بشغف لقائه بخليل كبارة قائلًا: " .. كنا على علم بأبحاثه ودراساته عن اللغة النوبية وتاريخها قبل وأثناء بعثته ف ألمانيا. حتى جاء يوم ودخل علينا د.كبارة بقائمة من الحروف, قائلًا: (أخيرًا، ها هى حروف لغتكم القديمة).  وأخبرنا بالصوت النوبى لكل حرف. وتركنا نتأمل فى الحروف, التي توقف أجدادنا عن تدوينها منذ 1300 عام".

ويُكمِل جدكاب: "انزويت جانبًا، ثم كتبت بيتين من أشعاري النوبية مستخدمًا تلك الحروف. ولما انتهيت طلبت من د. مختار قراءتها. وقرأها بنجاح تام، دون تلعثم أو خطأ واحد. نظرنا إلى بعض في ذهول، لقد بُعثَت حروفنا من جديد، كانت لحظة لا أنساها ما حييت".  

 انتهى كبارة من وضع اللمسات النهائية على منجزه الضخم، والعمدة في كتابة اللغة النوبية، باستخدام الإبجدية النوبية القديمة، وهو كتاب "اللغة النوبية كيف نكتبها؟      ?ηοπιηFā ςικκιρ φαιωα".   

وفي مساء يوم 16 أبريل/نيسان عام 1997 سلّم د. مختار كبارة مخطوطه إلى المسؤولين عن مركز الدراسات النوبية والتوثيق، في خطوة أخيرة لإعداده للنشر، منهيًا مهمته المقدسة. وبعدها بـ 24 ساعة فقط أسلّم روحه لبارئها.

 

د.  مختار خليل كبارة 

إنسان سنّار في القاهرة

توقف التدوين بالنوبية كان أحد المآلات الجيوسياسية لهزيمة النوبيين أمام تحالف العرب والفونج، وسقوط سوبا عاصمة مملكة علوة أخر ممالك النوبة المسيحية في القرن السادس عشر. قامت على أنقاض علوة دولة الفونج الاسلامية وعاصمتها سنار. وأضحت العربية لغة السلطة والمال والدين. وتَشَكَّل إنسان جديد في المنطقة ذو ثقافة مغايرة. اصُطُلِح على تسميته بـ "إنسان سنّار"؛ المؤسس للأيدولوجية الإسلاموعروبية في العمق الكوشي.

ارتقت العربية، لغة الدين الجديد والحكام الجدد، لتكون لغة الكتابة الرسمية في البلاد. وسُجنت النوبية داخل أفواه النوبيين. قبل أن يعاود المرحوم د. كبارة بعثها من جديد فى تسعينيات القرن العشرين. ويبدو أن البعث الجديد للحروف النوبية أتاح لتلك اللغة العتيقة مقومات النهوض والتأثير في محيط عربي خالص. ما دَفَع أحفاد إنسان سنّار لمحاولة تدارك الأمر. 

بشّرت جامعة أفريقيا العالمية كل المهتمين بدعمها ورعايتها لمشاريع كتابة اللغات الأفريقية بالحرف العربي، وفي مقدمتهم بالطبع اللغة النوبية، في تجاهل تام لجهود عديد من الباحثين في مجال اللغة النوبية بدأت عام 1906 وتُوجَت فى نهاية القرن بكتاب د. كبارة. جامعة أفريقيا العالمية جامعة سودانية خاصة. وبحسب التصنيف العالمي للجامعات الأفريقية الصادر في يناير/كانون الثاني عام 2017، تحتل الجامعة المركز 218 على مستوى أفريقيا.

 

 

جامعة افريقيا العالمية - المصدر جريدة لوموند الفرنسية

بزيارة سريعة للصفحة الرسمية للجامعة على شبكة الإنترنت، نكتشف بوضوح توجهها العقائدي العروبي، حيث تشير أهدافها الرئيسية إلى نشر العلوم الاسلامية واللغة العربية. ومن المعروف أن جامعة أفريقيا العالمية هي أحد الأذرع الهوياتية للنظام الإسلامي الحاكم في السودان الساعي بقوة لطمس الهويات غير العربية. والتضييق على الألسن المختلفة لمصلحة اللسان العربي.

 الأمر لا يقف عند هذا الحد..  

تشير جريدة لوموند الفرنسية في تقرير نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015،  بعنوان "الخرطوم تؤسلم أفريقيا" لدور جامعة أفريقيا العالمية في نشر التعريب داخل القارة، كما وصفتها بأنها مقر لتعليم الشباب الفكر الإسلامي الراديكالي.

بالعودة إلى القاهرة، وفي بداية هذا الشهر، وعلى منصة إحدى الدور الثقافية في وسط القاهرة، رأيت أمامي نموذجًا بليغًا لإنسان سنّار، شيخًا أفريقيًا في العِقد السابع، أسود، ذا لسان مستعرب، قدَّم نفسه قائلًا: "د. آدم طه حسين، متخصص في اللسانيات بمركز يوسف الخليفة لكتابة اللغة النوبية بالحرف العربي التابع لجامعة أفريقيا العالمية".

وبدأ حديثه بأهمية وفضل التمسك بالهوية العربية الإسلامية، ورَفْض الانبطاح أمام الثقافات الوافدة بشكل عام وخصوصًا ثقافة الغرب، ونبَّه لحتمية مقاومة الهزيمة الحضارية التي نعيشها، وذَكَر حرفيًا أن اللغة الإنجليزية لغة المستعمر هي لغة متخلفة، وأن انتشارها لهو من قبيل عقدة الخواجة. ثم بدأ الترويج لمشروعه قائلًا إن الحرف العربى هو الأنسب للتعامل مع اللغة النوبية، وإن أعين النوبيين اعتادت على الحرف العربي، بحكم ثقافتهم الإسلامية.

وبعد أن عَرَض مشروعه عاد لينبه الحضور أنها مسألة حرية شخصية، وأنهم لا يجبرون أحدًا على اختيار حرف بعينه ولكن عند الاختيار يجب الاحتكام إلى معايير منطقية وواضحة، لا مجال للمعايير العاطفية.

ولكن في رأينا أن الاحتكام للمعيار المنطقي ينقض هذا المشروع، فمعيار  التأصيل يدفع النوبيين للاشتغال على الحرف المروي وفك ألغازه وتطوير رسمه بحُكم أنه الحرف النوبي الخالص اسمًا ونسبًا ورسمًا، والمنتوج الأهم للحضارة النوبية في لحظة توهج فريدة. 

أما معيار التحديث ومراعاة السياق الزمني سيؤدي بديهيًا للاعتماد على الحرف اللاتيني للغة الإنجليزية، لغة العلوم والمعارف الحديثة، واللغة الأولى العالمية من حيث الانتشار والتداول. وليس سرًا أن اللغة العربية ذاتها تواجه خطر زحف اللغة الإنجليزية على مفرداتها ومصطلحاتها، بحكم احتكارها لإنتاج العلوم الحديثة، وبحكم توقف الأمة العربية عن إنتاج أي معارف منذ قرون. وما انتشار لغة الفرانكو بين الشباب إلا عارض بسيط للأخطار التي تواجه لغة العرب.

ومعيار الضرورة والإجماع يقضي بضرورة منح الفرصة كاملة لمشروع د. كبارة. فهو مشروع قائم بالفعل. ويدرسه مئات النوبيين منذ عِقد وبضع سنوات. والأهم أنه يملك صك الإجماع، ومتفق عليه بين كل النوبيين، شمال الوادى وجنوبه. كما أن الظرف الاجتماعي والزمنى الحَرِج الذي تواجهه اللغة النوبية لا يسمح بالبدء مرة أخرى من نقطة الصفر، أو تشتيت الجهود في ترف الاختيار بين حرف عربي ونوبي.

أما إذا احتكم النوبيون للمعيار الماضوي المنادي برفض الانبطاح أمام الثقافات الوافدة، ومقاومة الهزيمة الحضارية، لن نرى النوبية تُكتب بحرف عربي أبدًا. ومن المعلوم أن اللغة العربية الوافدة، تحت جناحي السلطة والدين، كانت سببًا مباشرًا في توقف التدوين بالنوبية، والعلاقة بين العربية والنوبية علاقة تضاد. ويستحيل تخيل أن اللغة والثقافة التي زاحمت وصَرَعَت النوبية على أرضها تأتي الآن لتمنحها قبلة الحياة.

ذَكَر الشيخ  في نهاية حديثه أن الهدف الأسمى لمشروع الكتابة بالحرف العربي هو خدمة اللغة النوبية في الأساس، وتقديمها في ثوب مناسب كي يَسهُل على النوبيين تعلمها وكتابتها.  

في أول نوفمبر عام 1924 أصدر كمال اتاتورك مؤسس الجمهورية التركية حزمة من القرارات الإصلاحية، كان أهمها وقف كتابة اللغة التركية بالحرف العربي، واستبداله بالحرف اللاتيني.

 

 

 

اتاتورك يقدم الابجدية الجديدة إلى شعبه

 

وعن ذلك يخبرنا عصمت إينونو (1884 - 1973)  الرئيس الثانى للجمهورية التركية وخليفة أتاتورك: " .. تغيير الأبجدية والحروف لم يكن الهدف منه تسهيل تعلم القراءة والكتابة، بل كان الهدف قطع علاقة الأجيال الجديدة بالعالم العربي والإسلامي. وبالتالي لن تتمكن تلك الأجيال القادمة من تعلم اللغة العثمانية، أو قراءة الكتب القديمة".

 

 

مصادر وإحالات

1 - النوبية كيف نكتبها؟ -  مختار خليل كبارة 1997 2 - تعلم النوبية -  مجموعة مركز الدراسات النوبية والتوثيق 1999 3 - نحو منهج لإحياء التراث السوداني - الثقافة النوبية كحالة دراسية - دراسة للدكتور محمد جلال هاشم نشرت فى دورية جامعة بورتسموث عام 2004 4 - موسوعة مصر القديمة 10 تاريخ السودان المقارن إلى عهد بعانخى - سليم حسن 5 - صفحة ابو سمبل الفنانة على فايسبوك 6 - صفحة عصمت إينونو على ويكيبيديا 7 - تقرير جريدة لوموند بعنوان الخرطوم تؤسلم افريقيا نوفمبر 2015 http://www.lemonde.fr/afrique/article/2015/11/20/quand-khartoum-eduque-et-islamise-l-afrique_4814347_3212.html

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.