مُتَرْجَم| دمٌ.. رشوة وجزيرتان.. حدوتة مصرية

منشور الخميس 12 يناير 2017

نشر المقال بالإنجليزية في صحيفة ميدل إيست آي

هذه الحكاية عن قتل محتمل، وفرضية رشوة وتسليم مصر جزيرتين لقوة أجنبية؛ يمكنها أن تتحول بسهولة إلى سيناريو لفيلم هوليودي. ولكنها في واقع الأمر؛ صراع عمالقة بين القضاء والسلطة التنفيذية.

   كي تخطو إلى غرفة مجلس الدولة المظلمة، ستحتاج إلى مصدر ضوء، خبير، سنبقي اسمه مجهولاً لأسباب تتعلق بأمنه الشخصي، فهو من المتنفذين العارفين ببواطن وتفاصيل ما يتصل بالجهة القضائية المهمة، ما يخوله أن يضيء لنا الطريق.

يشرح مصدرنا: "أي شخص أو جهة ترغب في في اتخاذ تحرك قضائي ضد أي جهة في الحكومة، سيجد ملجأه في مجلس الدولة". هذا الدور الذي نصت عليه المادة 190 من التعديلات الدستورية التي أُقرت في 2014. الأهداف الأولية لمجلس الدولة تتضمن تفسير القانون وفقًا لمرجعية الدستور.  

في إبريل/ نيسان 2016، وبلا أي حوار سياسي، قرر الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يسلم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، التي تمثل داعمًا رئيسًا سياسيًا واقتصاديًا لنظامه. كان نطاق اتساع الغضب كبيرًا، ونُظمت في يوم 15 من الشهر نفسه أكبر مظاهرة شهدتها البلاد منذ تسلُّم السيسي للحكم. ثم مظاهرة أخرى ألقي القبض خلالها وقبلها –احترازيًا- على المئات بعد عشرة أيام من تلك المظاهرة الأولى، وبالتزامن مع عيد تحرير سيناء.

 

السيسي وسلمان بن عبد العزيز خلال الزيارة التي وقعت فيها الاتفاقية

بعد تلك المظاهرات بأسابيع أبطلت المحكمة الإدارية (جزء من مجلس الدولة) توقيع المسؤول التنفيذي (رئيس مجلس الوزراء) على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، استنادًا للدستور الذي يحظر التنازل عن أراضي الدولة.

"القضاء المصري مستقل" قالها السيسي في مناسبات متعددة. لكن الوقائع التي نراها، تشهد بعدم دقة تلك المقولة التي يحلو للرئيس ترديدها: خذ مثلاً القضية المعروفة إعلاميًا بخلية الماريوت التي احتجز على إثرها الصحفي الاسترالي بيتر جريستي والمصري الكندي محمد فهمي.

في السادس عشر من يناير/كانون ثان، يصدر الحكم النهائي لمجلس الدولة في الطعن المقدم من الحكومة على حكم الدرجة الأولى، بإبطال توقيع رئيس الوزراء على الاتفاقية. التاريخ يقترب بسرعة وصار من الواضح لأي مراقب أن النظام يمارس ضغوطًا هائلة على المجلس. ومن هنا تأخذ القصة منحًا سينمائيًا: رشوة وإقامة غامضة في فندق ثم "قتل؟"

اقرأ أيضًا: طعن ورد واستشكالات.. دليلك لفهم"قضايا" تيران وصنافير

 بعد الكريسماس (25 ديسمبر/ كانون أول) بثلاثة أيام، لم يكن بابا نويل هو الطارق على باب أحمد جمال اللبان مدير المشتريات بمجلس الدولة، ولكن الرقابة الإدارية. زعمت التحقيقات التي أعلنت للصحف، أنه وُجد في بيت هذا الرجل 4 ملايين دولار، 24 مليون جنيه مصري، 2 مليون يورو ومليون ريال سعودي. بالإضافة لعقود ملكية لعقارات وسيارات، ومشغولات ذهبية.

وعوضًا عن نقل الخبر مجردًا، لجأت وسائل الإعلام الموالية للحكومة لنقل البيانات التي كتبتها الجهات الحكومية، والتي راعت فيها وصم الجهة القضائية التي ينتمي إليها اللبان.

رفع المراقبون القريبون من الموقف كفوفهم إلي السماء في حيرة، متسائلين عن التوقيت والطبيعة الدعائية لقضية "الرشوة" تلك. ببعض التدقيق في التحقيقات، كانت سلطات الرقابة الإدارية ستجد أن موظفي مجلس الدولة يعرفون بشراكة اللبان في أحد مكاتب الصرافة. ووفقًا لمصدرنا في مجلس الدولة، فإن العديد من موظفي مجلس المعارين للخارج كانوا يقومون بتغيير العملات التي يرسلونها لأسرهم عن طريق اللبان نفسه. ودون التأكد من براءة أو إدانة المتهم؛ كان على وسائل الإعلام أن تذكِّر بحقيقة أن كثير من العاملين في مجال الصرافة وتبديل العملات يحملون العملات من المكتب إلى البيت، وهي ممارسة شائعة.   

                       

الأموال التي عثر عليها في بيت مدير المشتريات بمجلس الدولة

يؤكد مصدرنا: "الدولة بدأت جهدًا منظمًا لتدمير سمعة مجلس الدولة". عندما نقل الإعلام الخبر، لم يصف الضبطية باعتبارها كشفًا عن جريمة فردية، تورط فيها موظف إداري رفيع؛ وإنما نُقِلَت باعتبارها "فسادًا في مجلس الدولة". المؤسسة- لا الفرد كانت هي المقصودة.

كان هذا مجرد فصلاً أول

الكثيرين في مجلس الدولة أصيبوا بالقلق من أثر تلك الفضيحة المتنامية على القضاة. ولكن بصدق؛ فالسؤال المركزي هو: هل يعد النظام لهجمة كبيرة؟ هل يمكن أن يكون نظام السيسي يسعى لليّ ذراع أقوى المجالس في هذه الدولة، لفرض مقايضة مفادها: سنتخلى عن مواصلة هذه القضية إذا حكمتم بما يتوافق معنا في قضية الجزيرتين؟ في "جمهوريات الطعمية" مثل هذه الأسئلة لابد وأن تطاح فيها رؤوس.. حرفيًا.

رغم تعهدات الرقابة الإدارية بعدم الزج بقضاة مجلس الدولة في تلك القضية، سرعان ما صدر قرار نيابة أمن الدولة بالقبض على أمين العام لمجلس الدولة وائل شلبي. لو كانت هناك شكوك بتسييس التحقيقات في تلك القضية؛ فبهذا التحرك صارت تلك الشكوك أقوى. فبحسب مصدرنا: "شلبي كان شديد القرب من دوائر الحكم والسلطة. كان هو السبب المباشر في الزيادات التي تلقتها رواتب القضاة". ويضيف المصدر: "بسبب علاقته القوية -بحكم منصبه- بالرئيس عبد الفتاح السيسي، زادت مكاتب مجلس الدولة من 7 إلى 21". فوجوده في هذا المنصب الحساس سيفٌ ذو حدين: فمن جانب؛ هو صندوق أسود من الأسرار، وعلى جانب آخر؛ فتلك الأسرار أسلحة قوة بالنسبة للقلة التي تجول بحرية في أروقة السلطة "لقد كان رجلاً للنظام".. حتى تخلى النظام عنه.   

 

صورة تجمع بين الرئيس السيسي وأعضاء المجلس الخاص لمجلس الدولة وبينهم المستشار وائل شلبي 

المجلس الخاص بمجلس الدولة يتكون من القضاة السبعة الأكبر سنًا – وبالتالي الأعلى سلطة- يؤكد مصدرنا الذي استمع إلى المكالمة التليفونية التي ورد فيها ذكر "جرائم"، قام بها الأمين العام وائل شلبي، دون أي تأكيد لتلك الجرائم المزعومة. تلك المكالمة – بحسب مصدرنا- هي التي "مورست ضغوط" بعدها على شلبي ليستقيل. وبمجرد تقدمه بالاستقالة؛ تسارعت وتيرة الأمور. في الكواليس؛ طالب مجلس الدولة بصدور قرار بحظر النشر، ورُفض طلبه. جاء الرد على طلب المجلس: "حظر النشر قرار سياسي وليس قانوني".

بحلول منتصف ليل ذاك اليوم، فقد شلبي حصانته التي يخولها له موقعه كقاضِ. لم يتوجه لمنزله، ولكن؛ شد الرحال إلى "الماسة"، ذلك الفندق الفخم الذي تملكه وتديره القوات المسلحة. لماذا توجه القاضي المستقيل إلى عرين الأسد بإرادته؟ لا أحد، ولا حتى مصدرنا الذي كان على معرفة وثيقة بشلبي، يمكنه أن يقطع بما دار في ذاك الفندق.

ولكن تحليلاً عقلانيًا سيقودنا لاستنتاج أن مفاوضات ما لا بد وأنها جرت هناك. ولا بد أنها كانت مع ممثل جهة سيادية ذات طبيعة خاصة. قد تكون تلك المفاوضات قد بدأت بمبادرة من شلبي أو من شخص قريب منه في القوات المسلحة، بحكم المعروف في الدوائر القضائية عن علاقات شلبي. كثير من هذه الصفقات عُقدت في أماكن شبيهة خلال السنوات الأربعة الأخيرة.

أيًا كان ما جرى في الماسة، فالمفاوضات فيما يبدو لم تمض على نحو جيد. لكن الرقابة الإدارية كانت تعتزم إلقاء القبض على شلبي في وقت مبكر، ومنعتها حصانته القضائية. في الثانية صباحًا صدر قرار ضبط وإحضار لشلبي "كما تعلم هناك صوت واحد في هذا البلد، وأي صوت مغاير يصعب التنبؤ بمصيره". يقول مصدرنا إن عائلة شلبي تلقت منه اتصالاً في تلك الليلة طمأنهم فيه قائلاً: "متقلقوش عليا، الموضوع هينتهي خلال يوم أو اتنين". لكن تقديراته كانت خاطئة.

 

المستشار وائل شلبي امين عام مجلس الدولة المستقيل

   بعد تحقيقات استمرت 40 ساعة، شاركت فيها الرقابة الإدارية ووكلاء النائب العام، مات القاضي. قال محاميه للصحافة "موكلي قتل نفسه شنقًا بالكوفية التي كان يرتديها". تسربت الأخبار بسرعة، ومع السمعة السيئة لقوات الشرطة في مصر فيما يتعلق بموت السجناء خلال الاحتجاز، انتشر الهمس بنظريات مخالفة للرواية الرسمية. بينما لم يقل مصدرنا بوضوح أن شلبي قد قُتل؛ إلا أنه يرجح: "انتحار وائل شلبي، ورغم كل التساؤلات المحيطة به، لا يمكن أن يصدقه أي عقل. لو كان لديهم دليل حقيقي على انتحاره لأعلنوه للعامة".. تنقصنا هنا عبارة "إني أتهم".

شخص واحد باقٍ في السجن هو اللبان، والآخر ميت (القاضي شلبي) ولدينا كذلك مجلسًا قضائيًا هامًا تحاصره اتهامات الفساد: "لمجلس الدولة نصيبه من الفساد كأي مؤسسة من الدولة"، دون تردد أكد لنا المصدر. الجميع يذكر تقرير هشام جنينة، الرئيس الأسبق للجهاز المركزي للمحاسبات، الذي تحدث عن عمق واتساع انتشار الفساد في مؤسسات الدولة، والذي وجد نفسه بعده محاطًا باتهامات تم التسويق لها إعلاميًا على نطاق واسع، ليصبح القاضي محكومًا عليه بالسجن في قضية جنائية، هي في حقيقة الأمر كما وصفها: سياسية.

اقرأ أيضًا: تسلسل زمني: جنينة في مواجهة الدولة

في ذلك التقرير الذي قاد لإقصائه من منصبه ثم إدانته، طرح الجهاز المركزي للمحاسبات برئاسة جنينة أن حجم الفساد في الدولة وصل لإهدار مئات المليارات، حتى في بعض الجهات السيادية. وتوجد دلائل قوية على دقة ما جاء بالتقرير. لكن عندما يقرر النظام مهاجمة أحد أعدائه، فهو يستخدم الاتهامات ذاتها (الفساد) كي يضمن الحط من شأن من يراه عدوًا من المؤسسات والأفراد.

من اللافت أيضًا أن مجلس الدولة سيحكم في نهاية الشهر الجاري في القضية التي رفعها جنينة للمطالبة بالعودة لمنصبه، الذي أقصي منه وفقًا لقانون مخالف لنصوص الدستور، الذي يمنع السلطة التنفيذية ورأسها (رئيس الجمهور) من الإطاحة برؤساء الأجهزة الرقابية.

قضيتي تيران وصنافير وجنينة في جوهرهما: "إحراج" للحكومة. فهل الرشوة والانتحار عقابين كافيين لاستقلال القضاء، الذي يراه الرئيس والمقربين منه تهديدًا؟ أم أنها محاولات لتقليم أظافر آخر حصن لديه استقلالية نسبية داخل النظام القضائي المصري؟

عقب 2013 سيطرة القوات المسلحة على البلاد في 2013، اجتمع 75 قاضيًا في مركب نيلي ونادوا بعدوة الديموقراطية. بعد ثلاث سنوات حوالي نصف هؤلاء القضاة أقصوا من مناصبهم. يشرح مصدرنا: "القضاء مختطف في اتجاه مناقض للاستقلال. لا دليل على ذلك أقوى من التخلص من القضاة"..

 

مظاهرات الاحتجاج على التنازل عن تيران وصنافير

 الخوف يهدد الاستقلال

لو كنت قاضيًا فهل ستحكم بحرية وعدل، لو شعرت بأن مطرقة الدولة على بعد بوصات قليلة، تنتظر لتهوي فوق رأسك، لو أصدرت حكمًا بعينه؟

في الطرقات الخاوية لمجلس الدولة، تسعى الحكومة لنثر بذور الخوف

الأمر لم يعد يتعلق بالجزيرتين. لقد تعمد من خطا تلك الخطوة أن يفسد موظفًا، ويخلف وراءه جسدًا ميتًا. إن جوهر الأمر؛ هو أن هناك نظام يستعرض ضخامة عضلات قمعه وتسلطه، مقابل كيان قضائي يصارع من أجل استقلاله؛ في الحقيقة هو يصارع من أجل بقائه. 

في التركيز على قضية الجزيرتين ينشغل الجميع بقضية تبدو كالشجرة الوارفة، تلهب عواطفهم، ناسين أن هناك غابة مُهددة: وهي استقلال القضاء.