التحرش الجنسي في بلادي.. الجريمة التي يشارك فيها الجميع

منشور الأربعاء 8 فبراير 2017

إحدى أصعب التجارب التي مرت عليّ في حياتي حدثت لي في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني الماضي حيث بداية الطقس شديدة البرودة الذي لا أستطيع أن أتحمله، في أمسية حزينة في الإسكندرية. أثناء سيري في الطريق كانت تتجه نحوي فتاة جميلة في مثل عمري، العشرينيات، ولكن كان يتابعها شخصان من محبي القبح، امتدت يد أحدهما على ظهرها. كانت تعلو وجهيهما ابتسامة خبيثة تمثل كل معاني الشر بالنسبة لي، واستمر الشخصان في سيرهما في حين ظلت الفتاة البريئة تحت تأثير الصدمة. 

واجهت المجرم القادم بابتسامته وبدأت في سؤاله لماذا فعل هذا؟ وزاد صوتي ارتفاعًا مع كل ثانية تمر عندها تجمع الناس الموجودون في المكان حولنا والذين اكتفى أغلبهم بمشاهدة ما حدث بدلًا من أن يساعدوني لنجدة هذه الفتاة حتى تأخذ حقها بالكامل. ثم بدأ بعضهم في تبرير ما حدث.

أتذكر بوضوح قول إحدى السيدات التي كانت في العِقد الخامس من عمرها تقريبًا "هتبهدلها معاك ليه بس". في حين لم يقف في صفي سوى سائق ميكروباص جَدَع". وقفت أتساءل: هل أنا فعلًا "هبهدلها معايا؟" أم أني على حق في زمن أصبحت فيه محاولة أخذ الحقوق درب من دروب الجنون. 

99.3 % هي نسبة التحرش بالسيدات والفتيات في أم الدنيا. رغم هذا الرقم الهائل الذي تتبناه هيئة الأمم المتحدة لشؤون المرأة، والذي لا يتغير كثيرًا إذا نظرنا لإحصائيات وأرقام صادرة عن منظمات أخرى، إلا أن المجتمع المصري - المحافظ بطبعه - ينكر تفشي هذا الفعل الإجرامي وغير الإنساني بل ويشارك المجتمع الشريف في هذه الجريمة بأساليب ومبررات عديدة. 

"لازم تمشي زي العسكري عشان محدش يقدر يكلمها".

هكذا حدثتني إحدى الأمهات المصريات وهي تنتمي إلى طبقة متوسطة وحاصلة على شهادة جامعية، أخبرتني أن على الفتاة أن تسير كما يسير العساكر، بالطريقة التي نشاهدها في حفلات تخرج طلبة الكليات الحربية. تقول الأم: "سيري مثلهم، تخلي عن ابتسامتك وعن مشاعرك، كوني كالآلة، كوني كالعسكري". 

"البنت المحترمة لو قنبلة انفجرت تفضل عنيها في الأرض".

أحد الأصدقاء الأصغر سنًا مني من أبناء المحروسة والذين درسوا في مدارسها منذ نعومة الأظافر  قال لي هذه المعلومة الغاية في الأهمية: "لكي لا يتعرض أحدهم لكِ انظري طوال الوقت في الأرض ومهما حصل ابقي عينيكِ في الأرض حتى لو قنبلة انفجرت".

هذا هو التصرف المنتظر من الفتاة المحترمة في مجتمعنا البائس. لا بد أن تكون الفتاة منكسرة ومغلوبة على أمرها ومسلوبة الإرادة أيضًا. 

"لبسهم مستفز ". 

عندما تستعدين للخروج من منزلِك يُرجى مراعاة ألا تكون ملابسِك مستفزة لأحد. ولكن ما هو الاستفزاز؟ و ما هي الملابس المستفزة؟

لا أحد يعرف تفاصيل ذلك، لكن المهم ألا تكوني مستفزة.

"وهي تخرج ليه من بيتها أصلًا".

الأسباب السابقة تصل بنا في النهاية إلى هذا "السبب" لوقوع جرائم التحرش. وغالبًا ما يستخدم هذه الحجة بعض رجال الدين الذين يرون أنه لا ينبغي للمرأة أن تخرج من بيتها لأي سبب إلا بصحبة رجل من محارمها حتى يحميها، ففي البلاد التي يؤمن أغلب سكانها بالدين الذي كَرَّم المرأة يُحَرِّم رجال الدين خروج المرأة من غير مِحرِم خوفًا عليها ويصل الأمر لتحريم الدراسة في الجامعات التي يُسمَح فيها بالاختلاط بين الجنسيين خوفًا من زملائها.

 "دول بينبسطوا".

في فيديوات "اعترافات" المتحرشين التي تسجلها معهم الصحف أو البرامج  يقف المتحرش مبتسمًا مروجًا لنفسه على أنه ناشر البهجة و تاجر السعادة الذي يلقي بتعليقاته ويتطاول بيده حتى يُشعِر الفتيات بالسعادة التي تغيب عنهن بغيابه. لا أعلم من المريض الذي خلق هذا المبرر، فلا أحد يشعر بالسعادة إذا تم انتهاك خصوصيته والتعليق بألفاظ وعبارات نابية على أعضاء جسده.

توجد في مصر مبررات لا حصر لها لجريمة التحرش الجنسي و إلقاء اللوم على الضحية و شرعنة الفعل للمعتدي. يتعامى المجتمع بأسره عن رؤية حجم المأساة التي نعيشها،  فالحياة في مصر بالنسبة للفتيات ليست إلا ماسأة تحدث نتيجة أعراف اجتماعية ودينية. تحكم أطراف كثيرة من المجتمع على الفتاة من ملابسها، فإذا كانت ترتدي ما لا يرونه مقبولًا يستبيحون الفعل الإجرامي، ولا يمكن أن نوضح لهم أن المرأة إنسان مثل الرجل، تشترك معه في كل الحقوق وعليها نفس الواجبات. 

 

التحرش.. فرض مجتمعي

تحول التحرش الجنسي في مجتمعنا إلى فرض، ومن أسباب ذلك أن شريحة كبيرة من الأمهات في بلدنا يربين بناتهن على أنهن أقل قيمة وأهمية من الذكور، فيُفرض عليهم خدمتهم وتظل الفتاة خاضعة ومكسورة، وأن حياتها قبل الزواج كلها تمهيد للحصول على زوج. ولا توضع الطفلة منذ صغرها على الطريق الذي يؤهلها لتحقيق نجاح على مستوى حياتها المهنية والتعليمية والشخصية. 

ويساهم بعض رجل الدين في ازدهار التحرش الجنسي في بلادنا من خلال نظرتهم للمرأة على أنها أداة جنسية فقط، باعتبارهن مجرد خادمات في منازل أبائهن وأزواجهن فيما بعد، ولا ينبغي أن يساهمن في شيء آخر. 

كل هذا لا يجعلنا نندهش من وجود أشخاص متعلمين وحاصلين على شهادات جامعية يبررون التحرش الجنسي، ويُضاف إلى ذلك تواطؤ السلطة بأشكالها ضد المعنفات جنسيًا. وكثيرًا ما نعرف أن محاضر التحرش لا تصل إلى شيء رغم أن الدولة سنّت قانونًا عام 2014 يجرّم التحرش. ومؤخرًا أحالت كلية العلوم بجامعة الإسكندرية طالبة إلى التحقيق لأنها كتبت مقالًا في أحد المواقع عن المعاناة التي تعانيها الطالبات مع بعض الأساتذة، بحجة أن ذلك يسيء إلى أعضاء هيئة التدريس. 

صار على السيدات والفتيات أن يتقبلن التعايش مع التحرش، لأنهن إذا رفعن أصواتهن سيتهمن بتشويه سمع البلد، وأنه لا ينبغي علينا أن نعتبر مجتمعنا غير آمن ومخيفًا، وهكذا بدلًا من أن نواجه واقعنا القبيح، علينا أن ندفن رؤوسنا ونتظاهر بعدم وجود رقم 99.3% من حياتنا. 

ما يعانيه الرجال

لا يؤثر التحرش الجنسي على المرأة فحسب، بل على الرجال أيضًا. رقم 99.3% يدل على أن هناك الملايين من السيدات والفتيات الخائفات اللواتي ينظرن للرجال باعتبارهم متهمين إلى أن يثبت العكس. بشكل شخصي وعندما لمست فداحة مظاهر التحرش التي تعاني منها الفتيات وأثاره بالغة السوء عليهم بات تعاملي مع الفتيات مُرهقًا لي. فأنت تسبق الفتاة في الشارع الخالي حتى لا تشعر منك بالتهديد، وتتنبه في المواصلات العامة ألا تلمس جسدها حتى لا تظن أنك تحاول التعدي عليها.

التحرش يخلق مجتمعًا عدائيًا، لا يسهل فيه أن تعبر عن إعجابك بمظهر زميلتك في العمل أو الجامعة لأنك تخشى أن تُفهَم خطأ، يصير الطرفان خائفين من بعضهما ويصعب البدء في علاقة عاطفية أو صداقة سليمة، حتى المحادثة بين صديق وصديقة في الجامعة صار يشوبها التخوف من إلقاء النكات والتردد من سوء التفاهم. 

لن يختفي رقم 99.3% من حياتنا إلا إذا ربينا الجنسين منذ الصغر على أنهم مكملين لبعضهما. تقل معدلات التحرش الجنسي إذا علمنا أن ملابس الفتيات والسيدات ليست إلا أشياء تخصهن ولا علاقة لنا بها، وعندما نعرف أن الفتيات لسن ملكًا لأحد، وأن لكل منهن شخصيتها المستلقة وطموحاتها وأحلامها.

في سنة 2014 خَطَت مصر خطوة جيدة إلى الأمام بوضع قانون يعاقب و يجرم التحرش الجنسي بشكل صريح. لكن ما ينقصنا فعليًا لمحاربة هذه الجريمة هو التعليم والتوعية من خلاله بأثر التحرش على الضحية وعلى المجتمع كله. وعلينا ألا ننكر وجود التحرش وتفشيه، وأن نختبيء تحت ستار المجتمع الإسلامي المحافظ أو حجة الحوادث الفردية.

لن ينتهي هذا الكابوس سوى بالاعتراف بوجوده والاستعداد لمواجهته بكافة الطرق، حتى يستطيع الرجال إلقاء التحية على النساء بدون أن يشعرن بالخوف وبدون أن نستشعر خوفهن.