ضحايا قصف "الزيدية".. من السجن لحافة الموت

منشور الأربعاء 28 ديسمبر 2016

منال قايد-الحديدة، هدى جعفر-صنعاء

في يوم السبت 26 أكتوبر/تشرين أول 2016، قصف طيران التحالف العربي مديرية أمن الزيدية التابعة لمدينة الحديدة (226 كلم جنوب صنعاء) في اليمن بثلاثة صواريخ متتابعة، استهدفت مباشرة ثلاثة عنابر مكتظة بالمساجين، تنوعت تهمهم ما بين "الشجار، والديون، تأخر في دفع الإيجار، حشيش، شرب الخمر". غير أنه من المحتمل أن هذه السجون كانت تحوي أيضًا مخفيين قسريًا، اختطفتهم السلطات الحوثية كما تفعل في كل المحافظات التي تحت سيطرتها، وقد صرح أحد المسئولين الأمنيين بأنّ كل الذين قُتلوا في القصف، كانوا من الموقوفين أو ذوي الأحكام البسيطة.

قصف سجن الزيدية راح ضحيته حوالي 120 سجينًا، وهو الحالة الوحيدة تقريبًا التي لم يستغلها الحوثيون كالعادة للتنديد بجرائم التحالف ضد العزل، ولكن الشهادات التي تم جمعها من هناك تحمل الأجوبة بداخلها.

                                     

ضحايا قصف سجن الزيدية 

هذه السجون مظلمة أساسا كطقوس اعتيادية يراعى اتباعها في الزنازين العربية، وتتبعها السلطات في اليمن لانعدام تواجد الكهرباء.

خمسة من الناجين في قسم الحروق بمستشفى الثورة، كانوا جميعهم في نفس الزنزانة ربما لم يتسن لأحدٍ منهم أن يرى وجهه المحروق، لكنه لا بد أنه كل منهم تتكون لديه صورة عما أصابه، حين يمعن النظر باتجاه زميله.

هم خمسة لا تزال تفاصيلهم تنتظر خروجًا آمنا لوجه الحياة مرة أخرى.

حين نجحتُ في الدخول إليهم، لم يمر الكثير من الوقت حتى اكتشف أفراد من الأمن التابعين للحوثيين، من يُعرفون بأنصار الله، وجودي وأتوا للتحقق من ماهية الأسئلة التي سنطرحها على أؤلئك الناجين.

تعهدتُ على مضض بعدم طرح أسئلة تشجع على الكذب، سأكتفي بطلبي منهم رواية ما يتذكرونه في يوم الحادث المشؤوم.

                                     

الناجي الأول (أ.خ – 45 سنة)، مُصاب بحروق من الدرجتين الثانية والثالثة بنسبة تقارب 70% من جسده. عندما سألته، رد بنظرة استغراب وحيدة، بذل لأجلها تقريبا ثلاث دقائق، ثم استغرق ثلاثًا مثلها كي يتمكن من معاودة النظر إلى جهة أخرى في الغرفة وقال: "لا أتذكر الوقت بل لم أكن أدركه، سمعنا فقط صوت ارتطام الصاروخ الأول وتدافعنا باتجاه البوابة، حاولنا أن نخلع الباب، استنجدنا بالحراس لكنهم لم يستجيبوا لنا. لم يكن هناك وقت، فقد سقط الصاروخ الثاني واحترقنا جميعا حراسا ومساجين". همست له بحذر بعد أن نظرت جيدا حولي عن التهمة التي جاءت به الى السجن، تمتم بوجع بغيض "القاضي.. القاضي".

بذل في لفظ ما سبق ما يبذله ميت يحتضر ويرى وفاته ماثلة أمامه، لذا كان يردد كلماته تلك وكأنها الأخيرة، ولذا أيضا كان هناك طابور طويل من الدموع الحبيسة في عينيه، يطبق عليها الحراسة.

غادرته مودعة بدون أن أتمكن من إشعاره بتضامني معه، فلا جلد آمن بإمكاني التربيت عليه، لا شيء سوى اللحم المحروق.

 أشار لي الممرض نحو سجين في السرير المقابل (ع-ع-ق 35سنة) يردد كلمات غير مفهومة، ويرتجف جسده بقوة كمن اتصل بماسٍ كهربائي. حاولت أن أتشبت بكلماته كي أتمكن من فهم ما يود قوله، لكن الممرض نبهني لفقدان الرجل حاسة السمع وأضاف "هو يهذي منذ مجيئه وينادي شخصا ما".

تطوع الضحية الثالث (م.ش.س – 17 سنة) للشرح: "هو يهذي منذ أول يوم له في الزنزانة، لم يتغير شيء بالنسبة إليه". (م.ش) هو الوحيد من الخمسة الذي نجا بوجهه من الحريق، لكن الحروق الجسيمة عوضت غيابها عن وجهه بتشويه جسده وأطرافه.

واصل: "مات جميع من كانوا في الزنزانة ونجونا نحن بمعجزة، لم تترك الصواريخ لنا وقتا كي نتمكن الهرب، كانت متتابعة وتقصد موتنا جميعا، جميعنا دون استثناء".

هناك 24 جثة مجهولة، لم تجد مكانا لها في ثلاجات مستشفيات الحديدة لازدحامها تماما. محافظة الحديدة التي عانت مطوّلاً من تهميش سياسي واجتماعي وثقافي، هي واحدة من المدن التي تجتاحها أوضاع كارثية، فقوات التحالف تحاصر ميناءها الذي كان يورد 70% من بضائع البلاد، وما يصل إلى الميناء من مساعدات يستولى عليه الحوثيون.

 

آثار القصف السعودي لميناء الحديدة 

  تجدر الإشارة هنا إلى معاناة بعض مديريات المحافظة الواقعة على الشريط الساحلي من مجاعة حقيقية، تناولت تفاصيلها عدة وسائل إعلامية دولية. ونجمت تلك المجاعة في الأساس عن توقف سكان الشريط الساحلي عن ممارسة الصيد، الذي يُعتبر مدخل الرزق الأوحد لأغلبهم. إما بسبب اختفاء الصيادين أو قتلهم. بالإضافة إلى أنّ الحرب نفسها تسحب البلاد إلى قعر الهاوية كل يوم. 

أمام المستشفى، لم يكن هناك حل سريع لكارثة الجثث المجهولة، سوى أن يستأجر المستشفى العسكري شاحنة تبريد من أحد تجار المواد الغذائية، توضع بها جثث الموتى حتى يتمكن الأهالي من القدوم للتعرف على ذويهم.

هذه الجثث قضت ما يقرب من 12 ساعة على الأقل تحت الركام تأكلها الحروق، حتى جرى انتشالها واستئجار الشاحنة.



 

أهذه جثة ابني؟

 

أخيرًا وبعد عامين تقريبًا من بدء حملتها على الأراضي اليمنية تحت مسمى "عاصفة الحزم" أقرت السعودية، بعد ضغط الصحافة والمنظمات الحقوقية الدولية باستخدامها لأسلحة محرمة ضد اليمنيين. وبررت ذلك بأنها تستهدف بتلك الأسلحة مواقع عسكرية شرعية -حسب زعمها-.

اقرأ أيضًا: "عاصفة حزم" السعودية تضرب اليمن بالقنابل العنقودية

 يدخل اليمن 2017 حاملًا معه كارثته الإنسانية الأكثر فداحة، فبعد استيلاء المتمردين الحوثيين على العاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، ثم التدخل العسكري للتحالف العربي بقيادة السعودية في مارس/آذار 2015، انتقلت اليمن إلى مرحلة قاتمة لا يبدو لها نهاية حتى الآن. فالوضع العسكري لم يُحسم لأي جهة من الأطراف المتحاربة، كما أنّ الجمود السياسي لا يحمل أي بوادر لاتفاق سياسي وشيك.ومن ناحية أخرى يتعرض المئات من اليمنيين العزل إلى القصف المدفعي من قبل الحوثيين في محافظة تعز. ويتعرض الآلاف من المواطنين العزل إلى سيل من الانتهاكات التي يمارسها الحوثيون ضد اليمنين منذ استيلائهم على البلاد بالقوة.

في اليوم الثالث من الحادث، بدأ أهالي السجناء يفدون من أرياف الحديدة، بعدما قضوا أيامًا في مطاردة جثامين أبنائهم من مستشفى لآخر.

بجوار الشاحنة كنت هناك أستمع إلى نصائح التعرف على الجثة: "إن كنت تعرف علامة مميزة في جسد قريبك أبحث عنها مباشرة كي تتجنب العذاب الذي سيصاحبك أن حاولت التمعن في كل الجثث، فلا أثر يذكر لأي ملامح".

الأمر يعود لما يملكه السجين من ندبات وجروح وما يملكه الأهل من إحساس.

                                     

بقايا جثمان أحد ضحايا قصف الزيدية

كانت العائلة الأولى على خلاف تام حول الجثة، لم يكن جميع أفرادها على يقين من أن هذه الجسد المشوه هو لابنهم (ي- ط -25سنة). وحده الأب من يؤمن بذلك، يمشي يمينا ويسارا، يدور حول الشاحنة التي لا تظهر حولها أي حراسة، يحتجز الدموع في عينيه.

 لم أسأله، لكنه هتف بي مؤكدًا: "هذا ابني، لا يمكن أن أخطئه". نظرت إلى والدته التي كانت تفترش الأرض بصمت، لم تسمع أسئلتي ولم تجب عليها، كانت تردد اسم ابنها  فقط، ولا ترفع نظرها عن تلك الشاحنة.

كان هناك شاب يقف بجوارهم قال لي هامسا: "أنا أشعر أنه ليس هو". وقبل أن استفسر أكثر، كان والد الفتى يجهش بالبكاء ويردد: "قلت لك هو.. هذا ولدي أنا لا أُخطئه أبدًا". وودت التأكد بسؤال عشرينية تقف في الجوار وتجاهد الدموع، لكنها عجزت عن كتم الشهقات. سألتها بهدوء وأنا أجرب مواساتها بالتربيت على كتفها: "هل رأيته؟ هل هو فعلا؟". أجابت: "لست معهم انا هنا لأبحث  خالي". ثم شرحت لي باختصار فرضه بكاؤها، أن العثور على خالها اختصروه في البحث عن إبهامه المميز.

من الضروري إذن أن يهتم اليمنيون لأمر علاماتهم وندباتهم. ومن لا يملك منهم تلك العلامات؛ عليه أن يدرك حجم الخطر، وأن يستحدث في جسده ما يضمن له قبرًا آمنا ينجيه من كارثة النوم في شاحنة تبريد.

سألتها عن سبب تأخرهم كل هذا الوقت في البحث عنه؟، فأجابت: "لم نكن نملك أجرة الباص الذي سيقلنا من قريتنا إلى هنا، ولا أجرة نقل الجثمان الى حيث كنا".


سيطر المتمردون الحوثيون على الحديدة في أواخر 2014، ومن وقتها وهي واقعة بالكامل تحت سيطرتهم. وهي مثل غيرها من المحافظات اليمنية، عرضة لغارات القصف التي ينفذها التحالف السعودي القيادة، والذي يزداد ضحاياه من المدنيين، الساقطين دومًا من حسابات المتقاتلين والمتفاوضين، كما حدث عند قصف التحالف نفسه صالة عزاء في صنعاء في 8 أكتوبر/تشرين أول 2016، ما أودى بحياة 140 شخص، وجرح وأكثر من 500. وأصدرت قناة البي بي سي فيلم "الموت في العزاء" حول هذه القضية.

قصف سجن مديرية الزيدية، واحدةٌ من تلك الجرائم العديدة التي تحدث في اليمن، والتي يرقى بعضها لجريمة حرب. لكن ما يميز هذه القصة أنها لم تحظَ بالكثير من التنديد من قِبل الإعلام الحربي الحوثي، لأسباب تشرح نفسها في الشهادات التي تم جمعها في المستشفى.

في اليوم السابع للحادث ظلت 17 جثة مجهولة الهوية في شاحنة التبريد، لا أهالٍ بائسين ولا أثر يذكر لمن يبحث عن سجين يخصه.

أسر المسجونين لا يملكون ثمن غذائهم. والتفكير بالقدوم للحديدة يحتاج ميزانية أشهر قادمة، وبدلاً من الاكتفاء بمصيبة فقدان شخص؛ فإنهم سيجازفون كذلك بصرف القروش التي لديهم وسط مجاعة تزداد رقعتها كلما طال أمد الحرب اليمنية.

أما خبر قصف السجن كما أذاعته وسائل الإعلام (النزيهة والحرة) فقد جاء بأن التحالف استهدف تجمع حوثي كبير، وكان ذلك كافيًا لاعتباره نصرًا حقيقيًا لـ"شرعية" الرئيس هادي القابع في فنادق الرياض مع معظم وزراء الحكومة إلى حين ميسرة، بينما صمت الحوثيون الذين يكدسون اليمنيين في السجون بتهم واهية تشبه سلطتهم، على عكس جرائمهم الفادحة التي قد ترقى إلى جرائم حرب.

يعني هذا أن من بين القتلى في سجن الزيدية مخفيين قسريًا لا يعرف أهاليهم الذين تطحنهم المجاعة في القرى أنّهم هناك.

وكخاتمة مأساوية لم تكن متوقعة، توقفت ثلاجة الموتى عن العمل لعطل ما عجزوا عن إصلاحه، وحتى زيارتي في السادس من نوفمبر/ تشرين ثان الماضي، فكل ما يفعله أصحاب القرار هناك هو الدخول إلى الثلاجة وملئها بالثلج ثم المغادرة.

حتى ساعة متأخرة من ليل السادس من نوفمبر/ تشين ثان الماضي في ساحة ذلك المستشفى الكئيب، هناك شاحنة تتسرب السوائل -الناتجة عن تحلل الجثث- من كل فتحة فيها، حاملة معها رائحة ذلك الظلم المخيف: سجين يقتله الطيران ويقضي لياليه متعفنا بجوار جثث تشبهه في شاحنة التبريد.                                                                        

تسرب سوائل الجثامين وثلوج التبريد بعد فساد شاحنة التبريد