مقتنيات ضحايا تفجير البطرسية

مُتَرجَم| أكاذيب السيسي وتفجير الكنيسة

منشور الأربعاء 14 ديسمبر 2016

 

نشرت النسخة الإنجليزية من المقال في صحيفة ميدل إيست آي

ترجمة المنصة


مرت ثلاث سنوات منذ طلب الرئيس عبد الفتاح السيسي تفويضًا غير مشروط لمحاربة الإرهاب.

بانتقال الكادر إلى التاسعة وخمسين دقيقة من صباح الأحد الماضي؛ شهدنا مقتل 25 مواطنًا معظمهم من النساء والأطفال، بما ظنت السلطات أنه حقيبة تزن 12 كيلوجرامًا من الـTNT أو حزام ناسف.

الهجوم الذي جاء خاتمة عقد ثلاثي من التفجيرات التي بدأت بقتل 6 من رجال الشرطة في الجيزة، ومدني واحد في كفر الشيخ قبلها بيومين؛ يشكل بندًا في لائحة الاتهامات الموجهة لنظام يقف على قمة منحدر شديد الخطورة.

 لو أن الموتى يتكلمون، لقالوا له: لقد وعدتنا بالمواطنة لكنا لم نُمنَح سوى المأساة.

اقرأ أيضًا: ترانيم النجاة من الشرير تزاحم مشاهد الموت

 

عودة إلى الأسكندرية

كنيسة القديسين بطرس وبولس "البطرسية" التي شهدت مأساة هذا الأسبوع، ليست بداية القصة. ارجع بذاكرتك إلى 25 يومًا سبقت اندلاع الثورة المصرية، حين وقع مشهد تفجير كنيسة القديسين بالأسكندرية.

في الدقائق الأولى من 2011، ذُبح 21 مصليًا بريئًا في كنيستهم، بنفس الطريقة التي وقع بها هجوم الأحد الماضي، حيث انفجرت قنبلة أثناء الصلاة.

كانت مصر تهتز وقتها بمظاهرات صامتة احتجاجًا على مقتل خالد سعيد وهو في حوزة الشرطة، قبل أن يتحول إلى أيقونة الثورة. خالد سعيد عُذِّب حتى الموت، وجسدت قضيته المعاناة التي يلقاها المصريون على أيدي قوات الشرطة السادية.

                             

وقفة صامتة على كورنيش الاسكندرية للمطالبة بمحاكمة قتلة خالد سعيد

 

شك العديدون في تورط قوات الأمن في تفجير كنيسة القديسين الذي تلا تلك المظاهرات. أي طريقة أجدى في إيقاف ثورة شعبية متوقعة؛ خير من نثر بذور صراع طائفي؟

للأعين الغربية؛ وأذهان لم تعتد الكوميديا السوداء الموجعه لأجهزة الأمن المصرية، فإن هذه الفكرة وهذا السيناريو يتجاوزان كل الحدود الأخلاقية. ولكن تَحَدَّث بهذا السيناريو (تخطيط الأجهزة الامنية لتفجير كنيسة القديسين) أمام أي مصري، وستفاجأ به يهز رأسه موافقًا.

في ادعاءات تورط الحكومة في التفجير – ما يصل إلى حد الخيانة العظمى- أطلت رأس حبيب العادلي، ووزارة الداخلية التي كان يجلس على قمتها، كالزومبي من ملفات الدولة العميقة. العادلي كان ملطخًا بعاره بالفعل، بعد اتهامه بالاستيلاء على 23 مليون دولار من أموال الدولة، ولكن تمت تبرئته في 2015 ضمن مهرجان براءات مبارك ورموز حكمه.

اليوم السابع، الصحيفة المعروفة بقربها من أجهزة الأمن، كشفت عن تفاصيل المؤامرة المعقدة التي تورطت فيها وزارة الداخلية في الدفع بأحد الإسلاميين المتعاونين معها، والذي يرتبط بصلات مع المتشددين لتنفيذ التفجير. الوثيقة المُسرَّبة، التي حظت بتركيز الصحيفة في تقريرها حول المؤامرة، حوت رسمًا تفصيليًا للكنيسة، وللاتفاق بين الوزارة والعميل المزعوم.

اقرأ ايضًا: وقائع يوم دام: صلوات وهتاف.. وصورة المتظاهرين بلا صوت

 

تجلي الدولة العميقة

                         

اللحظات الأولى عقب تفجير سيارة مفخخة أمام كنيسة القديسين

 

هجوم القديسين ألقى بظلاله على ما شهدته العاصمة يوم الأحد. السيسي، الذي ترأس المخابرات الحربية سابقًا لم يضيع وقتًا قبل أن يلقى على أحدهم بالمسؤولية.

مرتديًا نظارة الشمس السوداء التي أخفت عينيه تمامًا، أعلن السيسي يوم الاثنين أن "اللي عمل كدا، عشان تكونوا عارفين، شاب دخل الكنيسة، اسمه محمود شفيق محمد مصطفى.. اسمه محمود شفيق محمد مصطفى. وفجر نفسه داخل الكنيسة. عنده 22 سنة.. بحزام ناسف. مش بشنطة، ولا أي حاجة تانية".

هذه المرة أيضًا، مثل عدد لا يحصى من المرات، أشار السيسي لـ"الوحش الكاسر" بأصابع الاتهام: "الحاجة غالية مافيش فايدة.. ناخد الرز والسكر مافيش فايدة.. آآ مانجبش سياحة مافيش فايدة.. الله! انتو مش عايزين تتحركوا؟! لا هانحرككم.. لاااا.. المصرييييين، وانتم.. الله؟! 75 كنيسة ندمرهالكم ومافيش فايدة فيكوا بردو؟!"

لا غموض هنا. كان السيسي يتحدث عن جماعة الإخوان المسلمين. ولو أن لديك أي شك في هذا التحليل، فبعد ساعات من كلماته التي ألقاها في الجنازة، صدر بيان عن وزارة الداخلية يتهم "منتم لجماعة الإخوان المسلمين تلقى تدريبه على يد أنصار بيت المقدس"- الذي تسمى باسم تنظيم الدولة الإسلامية في سيناء.

منذ حاز السيسي السلطة، حاولت حكومته مرارًا الربط بين جماعة الإخوان المسلمين و"ولاية سيناء" التنظيم الذي صار مرتبطًا بتنظيم الدولة الإسلامية. حتى مع كون ولاية سيناء ترى في الإخوان المسلمين عدوًا فكريًا لا يقل عن الحكومة في القاهرة.

اقرأ ايضًا: انتهاء الجنازة الرسمية بعد إعلان السيسي لاسم منفذ التفجير

 

كيف لنا أن نثق في كلمات نفس الأجهزة الأمنية المصرية التي قتلت خمسة أبرياء في محاولة للتغطية على الرائحة الكريهة المنبعثة من مقتل جوليو ريجيني، قبل ما يقل عن العام. آلاف الأوراق التي تتحدث عن أدلة وساعات عمل طويلة للعديد من المحققين، لم تصل لأي شيء يتعلق بهوية من قتلوا ريجيني.

 

ضحايا وزارة الداخلية الذين قتلوا في محاولة لتلفيق رواية مقتل جوليو ريجيني (شهداء الميكروباص) 

فوق كل هذا، بعد 24 ساعة فقط من اتهام السيسي الواثق لجماعة الإخوان المسلمين؛ التي يتهمها المحللون والمتابعون اللصيقون بعمليات عنف محدودة يقوم بها بعض أعضائها، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن الجريمة المروعة. ماذا العمل الآن إذن؟ جرائم تنظيم الدولة تحظى باهتمام دولي، السيد السيسي لم يتوقف عن إطلاق التصريحات غير الدقيقة، وهي لا تقل خطرًا عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي.

أجهزة الأمن نفسها، التي لم تتوصل لقتلة ريجيني في عام كامل، هي التي كشفت عن اسم المتورط في تفجير الكنيسة بعد 18 ساعة فقط من الحادث وأخبرت السيسي باسمه وسنه البالغ 22 عامًا. المشكلة الوحيدة أنه في 2014 نشرت صحيفة الوطن المقربة من الدولة خبرًا يفيد بأن الفتى نفسه يبلغ 16 عامًا، وأنه جرى اعتقاله بتهمة حمل السلاح.

الدولة العميقة غير قادرة على الحفاظ على اتساق قصتها. وبالضبط كما قتلت الشرطة خمسة أبرياء بعد اتهامهم بالمسؤولية عن مقتل ريجيني، تم القبض على شقيقي المتهم بتنفيذ الكنيسة البطرسية.

هناك خلل آخر في القصة التي أعلنتها الدولة العميقة: وهي أن والدة منفذ عملية التفجير وشقيقته أصرتا على أن الفتى لا يزال حيًا يُرزق في السودان. 

                                  

تفجير البطرسية

 

والآن كما ظهر في بيان تنظيم الدولة، فإن الانتحاري الذي قام بالعملية كان "عبدالله المصري". ذلك الإسم قطعاً حركي ولكنه يختلف عن الأسم الحركي الذي أشارت له الحكومة المصرية.

الوحش في الدولاب المصري

التفجير الذي وقع في مطلع هذا الأسبوع، حمل معه نصرًا وهزيمة للسيسي. فحكم الفرد يحتاج إلى الوحوش، سواء كانت وحوش حقيقية أو متخيلة، لتؤدي دورها المرسوم في تطويع العامة.

25 مسيحيًا مصريًا لن يحتفلوا مع عائلاتهم بعيد الميلاد. هذه هي حصيلة الخسارة القاسية والحقيقة البشعة. ومن العقلاني والعادل أن يُلقى القبض على الإرهابيين وأن يخضعوا للمحاكمة، ولكن بلا تشريح وتحليل DNA شفاف، وفيديو من الجهة المنفذة للعملية تعلن فيه عن مسؤوليتها، فنحن لن نعرف الحقيقة.

التفجير الذي وقع في مطلع هذا الأسبوع، حمل معه نصرًا وهزيمة للسيسي. فحكم الفرد يحتاج إلى الوحوش، سواء كانت وحوش حقيقية أو متخيلة، لتؤدي تلك الوحوش دورها المرسوم في تطويع العامة. طار السيسي إلى مقعده على جناح الوعود العديدة باستعادة الأمن. وحاول إقناع المصريين خلال حديثه عن التفجير الذي جرى يوم الأحد؛ أن قوات الأمن تواصل نجاحاتها في سيناء: "إوعوا تقولوا أبداً إن هو، خلل أمني من فضلكوا... انتو ماتعرفوش حجم النجاح.. إللي إحنا محققينه.. حتى في مواجهة الإرهاب.. ماتعرفوش حجم النجاح إللي متحقق، في سييينا.. حجم كبير آآوي. ونجاح كبير أوي".

اقرأ الصحف المحلية والأجنبية التي تتحدث عن موت يومي لقوات الأمن في شبه جزيرة سيناء رغم ما قاله الرئيس، وسيتضح أن السيسي فشل في تحقيق وعوده. ثلاث هجمات إرهابية وقعت في الجيزة والقاهرة وكفر الشيخ، تسهم في منح المزيد من المصداقية، للرؤية الذاهبة لفشل الأجهزة الأمنية.

ولكن السيسي ليس من النوع الذي يمكن أن يدع الفرصة تفوت: " لازم نتحرك بشكل أكتر من كدا لأن الموضوع بتاع القوانين اللي مـ.. اللي مكبلة، عشان نكون أُمَنَا مع بعضنا، في القضاء، مش هاتنفع كدة! القضاء مش هايقدر يتعامل مع المسائل دي بالحسم اللازم بالطريقة إللي إحنا ماشيين بيها..". وبعد ساعات قليلة من كلمته، أعلن موقع برلماني أن 75 نائبًا يقودهم وكيل المجلس سليمان وهدان اقترحوا أن تقدم قضايا "الإرهاب" للمحاكم العسكرية.

في هذه الدولة، الطرق السريعة والفواكه والخضروات والأدوية والمنتجات الغذائية والمياه والتعليم والعدالة، جميعها مُطى لراكبي الدبابات. لديك مشكلة؟ لا مشكلة! فلكل مشكلة حل.. عسكري!

هذه رسالتنا

يوجه البابا تواضروس أشرعته السياسية صوب سفينة السيسي، وكان هذا واضحًا جدًا في زيارة السيسي للأمم المتحدة لحضور اجتماع الجمعية العامة، عندما قال بابا الاسكندرية إن "الله ارسل السيسي هدية لحماية مصر"، وأن على الأقباط أن يدعموه. وبذا ربط بطريرك الكرازة المرقسية أقداره بالرئيس، إن طفا يطفو معه، ويتبعه إن غرق.

ولكن، الأسبوع الماضي، قالت صحيفة فورين بوليسي إن "السيسي يفقد مكانته في قلب أقباط مصر". وكما يقول المفكرون الأقباط المهمون مثل الصحفي الحائز على احترام العديدين هاني شكر الله؛ فإن "الأقباط ينسون أن الدولة والإسلاميين، كلاهما يعاملان الأقباط كرهائن".

اقرأ أيضًا: لميس تحرض ضد لميس

 

السيسي في خطر حقيقي يتهدده بفقد الشرعية. السيسي والسيساويون يواصلون التعامل مع المصريين بقدر غير معقول من التعالي السلطوي وعدم الفهم، الذي يفوق حتى ما دأبت عليه أكثر الحكومات المصرية سلطوية وقمعًا. فحتى لو نجح السيسي في تعبيد طريق الدكتاتورية بحجرين إضافيين، فسيظل خاسرًا.

هؤلاء المصريون أنفسهم كانوا من الذكاء والفهم الذي جعلهم يرون الوجه الحقيقي لإعلاميي النظام: لميس الحديدي وأحمد موسى وريهام سعيد، وغيرهم من الصحفيين ذوي الروابط القوية مع السلطة، ويهاجموهم خلال محاولاتهم لاقتحام حزن المكلومين عند الكنيسة. ورغم أن العنف مرفوض نهائيًا؛ إلا أن دلالته في هذا الموقف كرد فعل للأقباط الغاضبين، مثّل إعلانًا قويًا: نحن نعلم من أنتم، ومن تساندون، وهذا رسالتنا إليهم.

"The people demand the fall of the regime" furious crowds are screaming at the police after rush - outside cathedral hit by bombing #Cairo pic.twitter.com/oBgJ7SSkBy

— Bel Trew (@Beltrew) December 11, 2016

كشفت هذه الكارثة عن العنف المكتوم لدى العامة في مصر. هل تختلف مع أحدهم؟ تراه مستفزًا بغيضًا؟ في هذه العصر، يمكنك أن تتهمه بالخيانة، تسعى لاعتقاله، تعتدي عليه أو في بعض الحالات: تسعى لقتله. الفاشية الجديدة تسللت إلى الحشود، ولم تعد قاصرة على العُصبة الحاكمة.

التغيير ليس خيارًا، بل هو حتمية لا محيد عنها. على الأقل، كخطوة لعرقلة هذه الاعتداءات، لابد أن تحوي مداخل الكنائس ماكينات تعمل على التحذير من أية أسلحة يحتمل وجودها.

بالإضافة لذلك، يجب أن تكون هناك جهود حقيقية لتعريف ما يتراوح بين 10-15% من الأقباط المصريين بأنهم شركاء متساوون في هذه الأرض، فكثير مما حدث على أرض الواقع يوصل لهم رسالة عكسية: ما يطلق عليها "الوظائف الحساسة" كالرتب العليا في الجيش والقضاء والحكومة على سبيل المثال، يجب أن تكون مفتوحة أمام الأقباط، كلمة السر للترقي لا يجب أن تكون "مسلم".

خلال السنوات الست الماضية، شهدت مصر من الدماء والدموع ما يكفي لإغراقها لأعوام كثيرة قادمة. هذا الدم لا يجب أن يترك ليضيع هباءً. فلتكن أصوات الأقباط التي هتفت يوم الأحد "الشعب يريد إسقاط النظام" أمام الكاتدرائية، تحذيرًا لهؤلاء الذين يريدون الدفع بجريمة أخرى تحت سجادة السياسة.