قطار ترامب الذى لم يره أحد قادمًا وبقعتنا العمياء

منشور السبت 3 ديسمبر 2016

استقبل رواد التواصل الإجتماعى فى مصر خبر فوز مرشح الرئاسة الأمريكى دونالد ترامب كالعادة بالسخرية وتبادل النكات، ولكن ربما يستحق هذا الحدث منَا ما هو أكثر من بعض الكوميكس الجاهزة والقلشات المتكررة، فهذا الزلزال الذى هز المجتمع الأمريكى ربما يحمل لنا أيضًا بعض الرسائل. فكثيرًا ما نقع فى فخ الركون إلى التوقعات والاطمئنان لاستمرار الوضع على ما هو عليه، لنفيق على خطأ لم نتوقعه.

فمن كان يتوقع خروج الملايين فى 25 و28يناير ضد حكم مبارك وإصرارهم على إسقاطه بل ونجاحهم فى ذلك خلال ثمانية عشر يومًا بعد أن ظلوا صامتين لمدة ثلاث عقود؟ كما لم يكن أحد ممن اطمأنوا إلى نجاح الثورة يستطيع أن يتوقع قيام نفس الجماهير بالارتداد على الكثير مما خرجوا من أجله وانتقالهم من النقيض للنقيض فى خلال سنتين ونصف.

البقعة العمياء

أيقظ زلزال الهزيمة الديمقراطيين فى الولايات المتحدة من سَكْرة النصر المضمون على صفعة الهزيمة التى بقيت حتى اللحظة الأخيرة خارج كل الحسابات. في اليوم التالي للاقتراع ترنّح الديمقراطيون واليساريون والنسويات من أثر الصدمة، وأخذوا يبحثون عن سبب هذا السقوط المفزع ويسألون أنفسهم أين أخطأنا، وكيف كذبت كل استطلاعات الرأى، وتحليلات الإعلام ومنشورات فيسبوك؟

كانت كل مجمعات استطلاعات الرأى تشير إلى اتجاه هيلارى لتحقيق فوز حاسم على خصمها مُحدِث السياسة. فقبل شهر من إجراء الإنتخابات أشار مجمع الاستطلاعات الخاص بأساتذة جامعة برينستون Princeton election consortium إلى احتمال فوز كلينتون بنسبة 95٪ ، كما توقع موقع Votamatic صاحب أفضل سجل فى توقع انتخابات الرئاسة فوز هيلارى بـ 323 صوت فى المجمع الإنتخابى فى مقابل 215 لترامب فى عشية الانتخابات.

واعتبرت وسائل الإعلام المرموقة وصول هيلارى إلى البيت الأبيض مسألة وقت، فقامت عبر ساعات التغطية المطولة بشرح الأمر المفروغ من حدوثه، وعلى مواقع التواصل الإجتماعى والمنتديات الإلكترونية لم يبدُ أن أحدًا ينوى أن يصوت للمرشح (البعبع) ترامب، بل كان يتم السخرية منه ووصمه -هو ومؤيديه- بالعنصرية واحتقار المرأة وكراهية الأقليات.

كل شىء كان يبدو أنه يسير فى مصلحة هيلارى فما الذي حدث؟

يتحدث البعض عن العداء المتصاعد للمنظومة الديمقراطية الأمريكية ككل (anti establishment) والتى تُعتَبر كلينتون أحد أعمدتها، ويتحدث آخرون عن معاناة قطاعات واسعة من المجتمع مع البطالة والظروف الإقتصادية تحت حكم أوباما ومخاوفهم من استمرارها تحت حكم كلينتون. كلها أسباب حقيقية ولكنها لا تشرح التفاوت الواسع بين نتائج استطلاعات الرأى الواعدة  والأداء المزرى فى المباراة الانتخابية، نعم لقد خسرت هيلارى فى ولايات كانت تعتبر بمثابة "حائط أزرق" أو معاقل للديمقراطيين يعتمدون عليها لتحقيق النصر مثل ولايات بنسيلفانيا وميتشيجان وويسكونسن،  فكيف لم يرى أحد هذا قادمًا؟

بسبب البقعة العمياء!

يعرف سائقو الشاحنات وعربات النقل أنه كلما ارتَفَعْت عن الأرض كلما زادت مساحة البقعة العمياء لديك وزادت خطورتها أثناء قيادتك. كذلك فى السياسة، كلما تعاليت عن الشارع والجمهور كلما قل تفاعله معك وانعدمت قدرتك على توقعه.

البقعة العمياء عند الديمقراطيين وعند الإعلام الديمقراطى الهوى جاءت فى صورة ملايين الناخبين الذين ذهبوا لصناديق الاقتراع وأدلوا بأصواتهم لصالح المرشح الجمهورى دون أن ترصدهم استطلاعات الرأى ولا وسائل الإعلام، ولا مواقع التواصل الاجتماعى، لم يرهم أحد سوى في بطاقات الاقتراع.

ولكن كيف حدثت تلك البقعة العمياء ومن المتسبب فيها؟

 أنصار هيلارى كلينتون أنفسهم!

قامت استراتيجية حملة كلينتون على فكرة  تشويه المنافس (المشوه أصلًا) بأى ثمن، وهذا طبيعى فى لعبة الإنتخابات، ولكن غير الطبيعة هو أن يمتد التشويه ليطال أنصار المنافس، الأمر الذى عبرت عنه هيلارى حين وصفت أنصار ترامب بـ"سلة من الميئوس منهم" Basket of deplorables، وبرغم اعتذار هيلارى عن هذا التصريح لاحقًا، إلا إن تلك لم تكن حالة فردية إذا جاز التعبير، ولكن كان هذا محور خطاب كل مؤيدى مرشحة الديمقراطيين.

فمنذ إعلان حصول دونالد ترامب على تذكرة الحزب الجمهورى لخوض الانتخابات وحتى صبيحة الإقتراع تعرض داعمو ترامب لأسوأ حملة من الهجوم والتشويه وصلت إلى حد التشهير بهم فى المنتديات الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، فقد وُصِموا بإنهم جهلة، وعنصريين ، وذكوريين، ورجعيين. ساهم فى ذلك التصريحات المثيرة للجدل التى أطلقها مرشحهم خلال حملته.

فى نفس الوقت قدم مؤيدو هيلارى  نفسهم بوصفهم أصحاب رسالة أخلاقية، فهم داعون لحقوق المهاجرين، ونسويون، وداعمون لحقوق المثليين والمتحولين جنسيًا، كان تركيزهم منصبًا على الإعلان عن أنفسهم مستخدمين جملة I am with her أو "أنا معها"، وتهنئة بعضهم على حسن حكمهم على الأمور واتخاذ الخيار الأفضل، لم يُعنوا كثيرًا بالاشتباك مع أفكار المرشح المنافس أو الحوار مع أنصاره، فهم بالنسبة لهم مجرد هدف يطلقون عليه سهام السخرية والتشويه.

أمام هذا الزحف الأخلاقى المقدس، لم يجد أنصار ترامب حلًا سوى الاختفاء بقناعاتهم من على مواقع التواصل الاجتماعى ومن على شاشات الإعلام المؤيد لهيلارى بقوة ومن استطلاعات الرأى، والاحتفاظ برأيهم السياسى خوفًا من وصمة العار التى أطلقها عليهم الديمقراطيون والليبراليون، لقد تحولوا إلى كتلة صامتة وخفية لم تظهر سوى فى صناديق الاقتراع.

الطهارة الثورية

هذا الأمر ليس قاصرًا على المجتمع الأمريكى وحده، وليس محدودًا بظرف تاريخى بعينه، فهو مثل أى ظاهرة سياسية أو إجتماعية قابلة للتكرار فى مجتمعات أخرى ولحظات تاريخية مختلفة. فما حدث هناك حدث مثله من قبل فى مشهدنا السياسي، ويستمر فى الحدوث.

لقد أصابت البقعة العمياء أعين من كانوا يطلقون على أنفسهم "شباب الثورة"، حين انفصلوا عن محيطهم وجمهورهم الذى كان يؤيدهم، وظنوا أنهم يملكون الحقيقة المطلقة والموقف الأخلاقى الأفضل، ووصفوا أى موقف مخالف بالخيانة والانبطاح للسلطة، فأصبح مخالفيهم يوصمون بـ"الفلول" و"مؤيدى العسكر" و"عبيد البيادة" و"المعرصّين"، ناسين أو متناسين أن لكل شخص أسبابه التى تحمله على اتخاذ موقف ما، وإن تلك الأسباب تختلف من شخص لآخر. وإن كانت الأوصاف السابقة تنطبق بالفعل على مجموعة من المنتمين للمعسكر المقابل فإنه لا يجوز سحبها على الجميع.

وإلى جانب تنميطهم لمخالفيهم فى الرأى قام النشطاء بتعريف أنفسهم فى مواجهة الآخرين، وخلعوا على أنفسهم صفات الطهارة الثورية والحرية والنضال والرؤية السياسية الثاقبة، وانطلقوا ينفخون فى فقاعتهم الذاتية حتى تضخمت ولمع فيها بعض النجوم، وأصبح لهؤلاء النجوم جمهورهم الخاص.

أقصى ما يقدم هؤلاء النجوم لجمهورهم هو التصنيفات الجاهزة التى تشوه كل من انفضّ من حول الثورة ونفض يديه من قضيتها، والاستئثار لأنفسهم يالصفات المثالية التى تضعهم فوق الأخرين،  فاندمجوا في المديح المتبادل مع نظرائهم والتأكيد على سلامة موقفهم وخطأ كل من خرج عنه. 

لذلك كان من الطبيعى  أن تزيد أعداد المتسربين من الثورة، وأن ينفضّ قطاع ممن كانوا يؤيدونها في صمت من حول من يطلقون على أنفسهم لقب الثوار،  الذين لم يستطيعوا أن يروا تلك الحقيقة حتى جاءت الأيام الصعبة، التى سارت فيها الأمور بالثورة إلى هزيمة تلو الأخرى، واحتاجوا فيها إلى تأييد هؤلاء فلم يجدوه، واكتشفوا بأصعب طريقة إنهم سحبوا أكثر من الحد الذى يسمح به رصيدهم الشعبى، وأمضوا وقتًا أطول من اللازم فى صناعة أساطيرهم الذاتية.

 أفاق الثوار على الحقيقة حين رأوا الشوارع تخلو من المتظاهرين، والميادين لا يعمرها المعتصمون مهما دعوا الناس إلى النزول، وحتى لو كان السبب بأهمية براءة مبارك أو إعادة ترسيم الحدود مع السعودية وضم تيران وصنافير لها، فقد تحول الجزء الأكبر من جمهور الثورة إلى كتلة صامتة ترقب الأحداث بعين اللا مبالاة.

إذا كانت هناك فائدة واحدة من انتخابات الرئاسة الأمريكية فهى إنها تخبرنا إنه لا يوجد تيار قادر على الاستمرار داخل فقاعته التى صنعها بنفسه منفصلًا عن الجماهير، وإنه فى اللحظة التى يتحول فيها نشطاء الرأى إلى أيقونات لا تحاور الناس ولكن تعطيهم دروسًا فى الوطنية والأخلاق هى اللحظة التى ينفضّ فيها الناس من حولهم ويفقدون قاعدتهم الشعبية.

 عندها يصبح أمرًا طبيعيًا أن يتحول الجمهور من حولهم إلى كتلة صامتة تراقب الأحداث بدون اكتراث، أو تنتظر حدثًا تعبّر فيه عن نفسها، وتنتقم من التيار الذى أهملها وقام بتنميطها، وقد يأتى هذا الحدث على هيئة ثورة أو انتخابات أو حتى تفويض.