مثالية "المقاتل" وفضفضة "العساكر".. معركة الصورة بين مصر وقطر

منشور الثلاثاء 29 نوفمبر 2016

طيلة فيلم"يوم في حياة مقاتل" بث الجندي رسالة ضمنية غير مباشرة، مفادها أنا مثلكم تمامًا وإن كنت على الحدود. أما الجزيرة فاكتفت بالأحاديث العامة، غير المُثبتة بأدلة، وهو ما يتنافى مع كافة قواعد التحقيق الصحفي.

شاهد آلاف المصريين، في الأيام القليلة الماضية، فيلمين عن الحياة العسكرية المصرية، حظيا -بسبب جهة إنتاجهما ومضمونهما المتضادين- بجدل واسع، امتد لهجوم إعلامي، وهاشتاج سُباب على مواقع التواصل الاجتماعي.

قبل أيام قليلة، أذاعت قناة "الجزيرة" القطرية، فيديو ترويجي لفيلم أنتجته عن الجيش المصري، بعنوان "العساكر". وعلى الرغم من أن الإعلان لم يتجاوز الدقيقة الواحدة، إلا أنه أحدث رد فعل على الجانب المصري، لم يتوقف عند هجوم إعلاميين مقربين للنظام- منهم من خصص فقرة ببرنامجه عن الجيش- بل وامتد لبث فيلم مقابل لفيلم الجزيرة، من إنتاج إدارة الشؤون المعنوية بالجيش المصري، تحت عنوان "يوم في حياة مقاتل".

 

مانشيت صحيفة الجمهورية المصرية ردًا على فيلم "العساكر"

ضربة استباقية

ما يدعم الظن بأن فيلم الجيش المصري كان ردًا على فيلم "الجزيرة"، هو توقيت إذاعته، والذي جاء غير متزامن مع أية مناسبة عسكرية. وجاء بعد يومين تقريبًا من إعلان القناة القطرية عن فيلمها المنتظر، وكذلك تعليق المتحدث العسكري على فيديو آخر في صفحته الرسمية، عن حياة الجنود، بقوله: "لمن لا يعي شرف الجندية المصرية، إنهم خير أجناد الأرض".

كل ما سبق، يعزز الطرح الذاهب إلى كون الفيلم الذي بثه الجيش المصري، بمثابة ضربة استباقية ضد "الجزيرة"، لاسيما لو وضعنا في الاعتبار أنه صادر عن مؤسسة لم تعتد كشف جوانب من روتينها اليومي للعامة، ولطالما أخلصت للحذر والسرّية، ورفعت شعار "ممنوع الاقتراب أو التصوير".

لكن؛ بعيدًا عن سياسة القناة وأهداف الشؤون المعنوية، ترك الفيلمان انطباعات، وأثارا ملاحظات وتعليقات، فيما يتعلق بالمحتوى وطبيعة الخطاب والمستوى الفني والصورة الذهنية التي حاولا تصديرها للجمهور عن الجيش.


فيلم "الوضع المثالي"

 

قد يصلح هذا العنوان، كوصف لفيلم "يوم في حياة مقاتل" الذي أنتجته الشؤون المعنوية. فإذا كان غرض الفيلم الذي يمتد زمنه لإثنتي عشرة دقيقة هو  تصوير الحياة العسكرية كأنها يوتوبيا؛ فقد نجح في ذلك.

وبدا أن أحد أهداف الفيلم هو استعراض قوة الجيش المصري وأفراده- ولو بدون أرقام ومعلومات رسمية- إذ دلل على القوة شواهد تمثلت في استخدام مبادئ إعلامية أولية، يدرسها طلاب أقسام العلاقات العامة في كليات وأقسام الإعلام في مصر والعالم.

ظهر ذلك تحديدًا في استخدام الكلمات "العلامات الصوتية" التي تغرس معان إيجابية تتصل بالمنعة والقوة، بدءًا من كلمة"مقاتل" في عنوان الفيلم،  مرورًا باختيار جزء من حديث وزير الدفاع الفريق أول صدقي صبحي يخاطب فيه الجنود بكلمة "أبطال"،  وتضمين لقطات متتابعة- كان منها الثواني الافتتاحية للفيلم- لعروض وتدريبات عسكرية.

اعتمد خطاب الفيلم في أغلبه على الاستمالات العاطفية، فالبطل والراوي جندي، كان حديثه بالعامية، ونبرة صوت هادئة ودودة. كما كانت بعض العبارات المستخدمة بعيدة في شاعريتها عن جدية الحياة العسكرية، مثل قوله "يبدأ يومنا مع نسايم الفجر".

ربما أُسندت البطولة للجندي- الرتبة الأدنى والأكثر انتشارًا بين تعداد الجيش- ليشعر المشاهد أن هذا الراوي الذي ظهر لثوان في بداية الفيلم، هو "ابن/ أخ/ صديق" له- تعزيزًا لفكرة "العساكر ولادنا واخواتنا"، التي يعتمد عليها الخطاب الإعلامي المستخدم للدفاع عن مؤسسة القوات المسلحة، كلما تجددت الهجمات "الإرهابية" في سيناء أو خارجها. وهو الاتجاه الذي تتبناه قطاعات واسعة من المجتمع. وحملت لقطات الفيلم وتعليقه الصوتي ما ساعد على تعزيز هذا الهدف، فالجندي "يتوضأ ويُصلي جماعة في مسجد الوحدة" مثلاً.

أما دغدغة المشاعر الوطنية، فلن تتحقق بأفضل من لقطة لطابور الصباح، يصف الجندي الراوي مراسمها بـ"العريقة"، أو أخرى لرفع العلم يقول عنها "الواحد بيشعر بفخر وعلم مصر بيترفع فوق في السما"، أو لقطة لوزير الدفاع يشارك  في طابور السير، بينما في الخلفية تغني أم كلثوم "على باب مصر".

وطيلة الفيلم، بث الجندي رسالة ضمنية غير مباشرة، مفادها: "أنا مثلكم تمامًا وإن كنت على الحدود"، فهو الشاب الذي يشاركنا مشاعره، بعبارات كالتي وصف بها طابور اللياقة البدنية "أنا شخصيًا بحب الطابور ده جدًا"، أو كالتي عرفّتنا على هوايته المفضلة "أنا شخصيًا بحب كرة القدم"، وهو نفسه الجندي الذي تسمح له وحدته العسكرية، بمشاهدة مباراة كرة قدم مع زملائه، والتهليل فرحًا بهدف للمنتخب القومي.

والنقطة الأخيرة، تفتح الباب لملاحظة أخرى، فقد وجّه الفيلم رسالة بأن الحياة العسكرية، لا تعني الحرمان من الترفيه كما يُشيع البعض، ففي الوحدة مساحة للتليفزيون ولعب الشطرنج والطاولة، ورياضات كرة القدم والطائرة، أما الطعام فمن المطابخ المتميزة مباشرة إلى طاولات مُرتبة تزيّنها الورود، فضلاً عن إمكانية شراء المعلبات من الكافيتريا، كما أظهرت لقطات الفيلم.

وأخيرًا أخبرنا الفيلم أن لقاء الجندي بقائد وحدته وطرح مقترحات عليه: أمر مشروع، فهؤلاء القادة- والحديث للراوي- هم من يتابعون تدريبات الجنود، ومنهم من يعقدون بهم لقاءات لـ"الاستماع لمشكلاتهم وإصدار أوامر لحلها". لكنه لم يُفسح مجالاً للحديث عن جوانب معلوماتية تتعلق بالقدرات القتالية مثلاً، أو بالتدريبات والتسليح. أو عن الإجراءات العقابية وموجباتها، كجزء أصيل من الالتزام الذي تفرضه الحياة العسكرية.


فضفضة "العساكر"

لو قَيَّم مُتابع دقيق الملاحظة فيلم "العساكر"، استنادًا لما بشرت به دعاية "الجزيرة"، بكونه - حسب الدعاية- يكشف حكايات الجيش المصري والتجنيد الإجباري، فلن يكون التقييم في صالح القناة.

على مستوى الصورة، رسبت "الجزيرة" التي طالما عُرفت بدخول كاميراتها إلى المناطق المحرمة، في اختبار الانفراد بمشاهد تكشف "سوء المعاملة أو الانتهاكات"، التي ادعت وجودها في الجيش المصري. فمشاهد فيلمها كانت في مجملها، إما تمثيلية أو من أرشيف القوات المسلحة والبرامج المصرية، ودون مستندات تدعم ما يطرحه الفيلم.

حتى ما التقطته القناة بـ"كاميرا سرية"، طغى عليه "المبالغة والتضخيم". فمثلاً كان من اللقطات مشهد لبنزينة "وطنية"- والتي لا تعد ملكيتها للقوات المسلحة سرًا عسكريًا- فضلاً عن أن بعض لقطات هذه الكاميرا السرية، كانت مُبهمة وتقريبًا لا تتسق مع التعليق المصاحب، ومنها مثلا الحديث عن الجندي المساعد للقادة "السيكا"، والذي تخلله لقطة لجنود داخل سيارة على طريق عام، وأخرى لجنود جالسين بجوار سور، دون توضيح وصف للقطة أو سياقها، وكأن وجودها فقط لمجرد زرع الشك في النفوس.

أما المشاهد التمثيلية، فكان أغلبها بلا معنى واضح، فيما كانت اللقطات الواضحة من برامج مصرية وأرشيف القوات المسلحة، وما صاحبها من تعليق، لا يذيعون به سرًا، ومنها لقطات وصور للمشروعات الزراعية والمقاولات الخاصة بالجيش، والحديث عن شَغل العساكر بأمور غير قتالية، إذ ذكرت فيه أمور معلنة مثل أشغال الهيئة الهندسية، التي بالطبع لا ترى فيها المؤسسة العسكرية المصرية عيبًا، إن لم تكن مثارًا لفخرها.

بعيدًا عن كل هذا، وعدت "الجزيرة" بفيلم، يكشف حكايات عن التجنيد الإجباري، لكنه تحدث عن أشياء عديدة ليس ضمنها التجنيد الإجباري، أو وجود حركة معارضة له ولو على المستوى الأرشيفي المعلوماتي. واكتفت القناة باستعراض مواد من قانون متاح للجميع بضغطة زر عبر الإنترنت.

خرج الفيلم مُستهدفًا للجيش بمختلف وحداته، وإظهار "سوء المعاملة" حتى في الكشف الطبي، كما يُشكك في جدوى مراكز تدريب الجيش، كل هذا دون وجود صور أو معلومات موثقة ومستندات تدعم ذلك، فالاعتماد على الشائع -وإن كان شيوعه يرقى لدرجة اليقين بوجوده- لا يعد أداة إعلامية مهنية. خاصة وأن الجزيرة أخفقت حتى في الوصول لحالات حيّة ومشاهد حقيقية لذلك، واكتفت بتلك الأحاديث العامة، غير المُثبتة بأدلة من مصادر الفيلم، وهو ما يتنافى مع كافة قواعد التحقيق الصحفي.

وأما هؤلاء- المصادر- فجميعهم مُجهّلين، باستثناء عقيد متقاعد في الجيش الأمريكي، انقطعت صلته المباشرة والميدانية بالجيش المصري منذ 33 عامًا. وكانت أحاديث المصادر أشبه بـ"حواديت"، دون أمثلة واضحة لـ"إساءة المعاملة أو المخالفات" بحالات واقعية وأدلة واضحة أو شواهد، ولو فيما يخص الحديث حول انتحار جنود، فلم نر في 52 دقيقة- عمر الفيلم- ولو أسرة عسكري واحد من هؤلاء "الكثيرين المنتحرين"، على عكس ما فعله تحقيق تلفزيوني آخر حول حياة المجندين وإساءة معاملتهم، بثته شبكة بي بي سي، تحت عنوان "موت في الخدمة".

إلى هنا، كان مُمكنًا التعامل مع فيلم "العساكر" باعتباره مجرد "فضفضة"، لولا عبارة ختامية، يسهل استخدمها كدليل إدانة لـ"الجزيرة"، بالانحياز وعدم المهنية، أو تقديم مضامين "مغرضة"، إن لم تدخل في نطاق "الدعاية السوداء أو الرمادية".

كان نص العبارة الختامية "استشهد العديد من العساكر وضباط الصف والضباط المصريين، في سلسلة من هجمات إرهابية، منذ يونيو/ حزيران 2013، وحتى تاريخ عرض الفيلم"، فاختيار توقيت عزل الرئيس إخواني الانتماء محمد مرسي كنقطة بدء، دونًا عن أية فترة سابقة وقعت فيها حوادث عنف استهدفت جنود في منطقة سيناء، يشير إلى أن سهم الفيلم كان مصوبًا نحو نظام الحكم الحالي، لا "الانتهاكات" المشار إليها تجاه الخاضعين للتجنيد الإجباري، وذلك على الرغم من أن لقطات الفيلم حوت ما يعود إلى عهد الرئيسين حسني مبارك، ومحمد مرسي، وهذا الأخير وقعت في عهده عدة هجمات ضد الجيش.

في المجمل، خرج فيلما الشؤون المعنوية بالجيش المصري وقناة "الجزيرة" القطرية، بصورة شبه ضبابية، فلم يقدم أي منهما من المعلومات وسبل التوثيق ما يدعم رسالته الدعائية، لم يُقدم كلاهما حتى أرقامًا رسمية، وكانا أميل للدعاية المعتمدة على المشاعر أكثر من أي شيء آخر.