سوريا.. حين يصبح الموت عملًا شاقًا

منشور الثلاثاء 29 نوفمبر 2016

في سوريا قد يخيّل لنا أن البقاء على قيد الحياة هو أكثر عمل شاق يمكن أن يمر به المرء، ولكن ما يخبرنا عنه خالد خليفة هو أن الموت أيضا أصبح عملًا شاقًا بل وقد يصبح أكثر مشقة من البقاء على قيد الحياة. 

الموت.. أصبحت تلك الكلمة هي الأكثر اعتيادًا بين السوريين، فالجنائز في كل مكان، والعربات التي تحمل الموتى تسير في كل اتجاه. عندما خرج نبيل من المستشفى في ليلة وفاة والده أَخبَر سائق التاكسي الذي أَقَله عن حالة الوفاة فضحك سائق التاكسي الذي أخبر نبيل أن 3 من إخوته وأولادهم توفوا نتيجة القصف الشهر الفائت. يقول خالد خليفة في مدخل روايته، "الموت عمل شاق"، بأن الموت في سوريا لم يعد يستدعي الانفعال، بل أصبح خلاصًا يثير حسد الأجساد.

في سوريا، تلك البلد التي فقد فيها الموت مهابته، يأخذنا خالد خليفة، الروائي السوري كردي المنبت والمولود بمحافظة حلب، في رحلة عبر الأراضي السورية الممزقة، رحلة يقوم بها ثلاثة أخوة لتنفيذ وصية الأب المتوفي الذي طلب دفنه في مسقط رأسه بقرية "العنابية" الواقعة في محافظة حلب بالشمال السوري. تكثف الرواية الوجع السوري من خلال تلك الرحلة التي خاضها الأخوة الثلاثة، فيأخذنا خليفة عبر التصدعات التي حدثت في جسد الوطن السوري، ليس فقط خلال فترة الصراع، ولكن من خلال العوالم الخاصة لأبطال الرواية يخبرنا عن التغير الذي حدث في المجتمع السوري عبر العقود الماضية، وهو التغير الذي طال الجميع ولم يستثني أحدًا. يتداخل في الرواية الحب مع العنف والقتل والطائفية والكراهية والرغبة في الانتقام، فتأخذنا معها على طرقات الموت التي خاضت فيها "جثة الأستاذ عبد اللطيف". 

اقرأ أيضًا: القوقعة.. يوميات سوري في "السجن الصحراوي"

الأب، صاحب الجثة، هو الأستاذ عبد اللطيف السالم أستاذ الجغرافيا الذي عايش السنوات الأولى من عُمر الثورة السورية أو الصراع السوري - سمِّ الحدث كما شئت -  في بلدته المحاصرة في ريف دمشق، حيث قرر أن لا يترك البلدة وأن يظل فيها ليستمر في رعاية مقبرة البلدة، التي اتسعت على يديه على مدار السنوات التي عاشها من الصراع، ويعيش إلى جانب مَنْ تبقّى من مقاتلين وعدد قليل من السكان يعيشون على أكل القطط والكلاب والأعشاب البرية نتيجة للحصار الخانق الذي فُرِض على البلدة "س"، وهو الاسم الذي يعتمده خالد خليفة لتلك البلدة عبر صفحات الرواية، وربما يشير إلى بلدة الزبداني، أو بلدة مضايا، فكلتا البلدتين شهدتا تلك المعاناة التي تشير إليها الرواية، كما أنهما يقعان بريف دمشق. اعتمد النظام السوري استراتيجية حصار وتجويع المدن المنتفضة ضده كوسيلة لإركاع السكان وإذلالهم؛ الأمر الذي ينتهي غالبًا بتفريغ تلك البلدات والمدن من سكانها من أجل إحداث تغيير ديموغرافي في المكان، حيث أن سكان تلك البلدات في الأغلب الأعم يكونون من الطائفة السنية. بدأت هذه الممارسة تقريبًا في حمص القديمة ومؤخرًا في بلدة داريا بالريف الدمشقي، وهو ما يجري حاليًا في حي الوعر الحمصي والجزء الشرقي من مدينة حلب وغيرها في الكثير من البلدات والأحياء.

عندما يَمرَض الأستاذ عبد اللطيف يقرر المقاتلون ضرورة خروجه من البلدة لتلقي العلاج، وبالفعل يرتبون مع نبيل، أكبر أبناء الأستاذ سنًا، ليلتقيهم ويتسلم أبيه المريض. ولكن الأستاذ يتوفى سريعًا، وقبل وفاته كان أبلغ نبيل بتنفيذ وصيته، وهي أن يُدفَن في قرية "العنابية". وعد نبيل أبيه بتنفيذ وصيته، ولكنه سرعان ما أدرك المأزق الذي وضع نفسه فيه، فكيف ينفذ تلك الوصية والحرب دائرة في كل مكان. يتصل بأخيه حسين ليخبره بوفاة والده وبوصيته، ليبدأ حسين ونبيل (بلبل) وفاطمة، الأشقاء الثلاثة، رحلة دفن والدهم مستعينين بالميكروباص الذي يملكه حسين. تبدأ الرحلة من دمشق ووجهتها النهائية هي حلب وفي الطريق هناك العديد من المعارك الدائرة في مختلف ربوع سوريا والعشرات من الحواجز التي تمزق الوطن السوري وتقسمه لدويلات صغيرة منها الخاضع لسيطرة النظام أو لسيطرة المعارضة بكافة توجهاتها. 

الأخوة الثلاثة

نبيل هو الابن الأكبر للأستاذ، وهو موظف حكومي يسكن في إحدى الحارات المؤيدة للنظام، حيث عانى كثيرًا لكسب ود وثقة جيرانه الذين دائمًا ما تشككوا فيه نظرًا لهويته، فكما يوضح خالد خليفة أصبحت الهوية الشخصية تهمة في فترة الصراع، وهوية بلبل تفضح أن أصله يعود لمنطقة معارِضة، ووصل الأمر إلى حد دخول بعض المسلحين الموالين للنظام لشقة بلبل فجرًا لتفتيشها ثم خرجوا، وتركوه غارقًا في الفوضى التي خلفوها دون اعتذار، ولم يشفع لبلبل تعليقه لصورة الأسد في صدر الصالون تحسبًا لهذه المواقف. تنتشر الميليشات المحلية في مختلف المناطق المؤيدة للنظام السوري وهي ميليشيات طائفية بالأساس، فعلى سبيل المثال في منطقة وادي النصاري في ريف حمص يتولى أبناء المنطقة، من المسيحيين بالأساس، مسؤولية الدفاع عن مناطقهم، تشكّلَت تلك الميليشيات المحلية في إطار ندرة المورد البشري لدى القوات السورية النظامية، حيث أنه نظرًا للكثير من الانشقاقات ومع أخذ الصراع لمنحى طائفي أصبحت مدن الساحل، المعقل الرئيسي للطائفة العلوية التي ينتمي لها الرئيس بشار الأسد، هي الرافد الأساسي لتلك القوات، وفي ظل حقيقة أن العلويين هم أقلية فنستطيع تخيل ندرة في المورد البشري التي يعاني منها النظام السوري حاليًا. ويأتي تشكل تلك الميليشيات أيضا في ضوء المعضلة المتعلقة برفض البعض الذهاب لأداء الخدمة العسكرية بعيدًا عن مناطقهم كما هو الحال بالنسبة للدروز.

أما حسين فهو الأبن الذي ترك المنزل في مطلع شبابه بعد نشوب خلاف بينه وبين الأستاذ، وذلك لأن حسين كان يعمل كمرافق لبعض النساء في مشاويرهن الخاصة. أخبر حسين أباه أنه لا يعيش على أرض الواقع ويعيش في عالم من المثاليات التي لم تعد موجودة، وأنه لا يريد لزوجته أن تقوم بتقشير الثوم وحفر الباذنجان والكوسة لتبيعها للبقاليات الموجودة في الأحياء الراقية مثلما تفعل والدته. يعرض ذلك الجزء من الرواية للتحلل الذي حدث في بنية المجتمع السوري كما حدث في العديد من البلدان العربية ومن بينها مصر، وحلول منظومة الكسب السريع محل منظومة القيم والمباديء. 

أما الابنة فاطمة التي كانت دائما تطمح للثراء، فقد كانت تمتلك رصيدًا كبيرًا من الكبرياء الذي انكسر بفشل زواجها الأول من شخص كانت تعتبره رجل أعمال، بينما هو في حقيقته لم يكن أكثر من سمسار صغير يقوم بقضاء بعض الأعمال للتجار الكبار، كأن يراقب زوجاتهم أثناء سفرهم، أو يصطحب بناتهم أثناء تبضعهم من بيروت.

الرحلة

بدأت الرحلة، وبدأ المرور عبر الحواجز وعلم الأخوة أنه لا بد من الدفع لكي تمر البضاعة، هكذا أَخبَر أحد السائقين حسين أثناء انتظارهم على أحد الحواجز، إذن أصبحت جثة الأستاذ "بضاعة". اشتهرت سوريا وما زالت تشتهر بما يمكن أن نسميه اقتصاد القمع، فلو كنت معتقلًا لدى النظام قد يدفع ذووك مبالغ طائلة من أجل معرفة مصيرك، تلك الممارسات التي كانت متوافرة بكثرة في أيام الأسد الأب، وبالأخص في فترة حملته على الإسلاميين وغيرهم من المعارضين في نهاية السبعينيات وبدايات الثمانينيات، تلك الحملة التي وصلت إلى ذروتها بـ "مجزرة حماة" الشهيرة في عام 1982، فيخبرنا فواز حداد في روايته السوريون الأعداء كيف كانت عناصر سرايا الدفاع، التشكيل العسكري الأهم في تلك الفترة، والتي كان يقودها رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد، كيف كانت تلك العناصر تُفلت بعض الأشخاص من الإعدام مقابل الحصول على مبالغ مالية طائلة. وللصدفة فإن مَنْ يقود التشكيل العسكري الأمني الأبرز، الفرقة الرابعة، في سوريا حاليًا هو ماهر الأسد شقيق الرئيس الحالي بشار الأسد وهو ما يشير إلى ما يسميه المفكر والكاتب السوري ياسين الحاج صالح من أن ما نراه في سوريا هو نموذج للدولة السلطانية المحدثة التي ينتقل فيها الحكم داخل نفس السلالة.

ازدادت تلك الممارسات بالطبع في فترة الصراع الدائر حاليًا، فهناك عشرات الألأف من الأشخاص القابعين في غياهب زنازين السلطة الأسدية، وقد يدفع ذووهم مبالغ خيالية لمجرد معرفة مصيرهم وهل هم أحياء أم أموات، فإذا علموا أنهم أموات فإن ذلك قد يكون كفيل بقطع ذلك الخيط من الأمل الذي احتفظوا به. الجديد في رواية خليفة، أو ما قد يكون جديدًا بالنسبة لي كمصري لم يعش في ظل حكم حافظ أو ابنه، هو أن اقتصاد القمع وصل حتى للتعامل مع الأموات، فخلال الرحلة الطويلة لدفن الأب دفع الأخوة مبلغ قدره 35 ألف ليرة كرشاوى هنا وهناك للمرور بجثة أبيهم من على الحواجز المختلفة.

خلال الرحلة ندم الأخوة مرات عدة على القيام بتلك المهمة الشاقة، بل وفكر حسين أكثر من مرة في إلقاء الجثة على قارعة الطريق، أو دفنها في أية مقبرة جماعية، فهل جثة أبيهم أفضل من كل تلك الجثث الملقاة في العراء؟ وهل هناك أفضل من ذلك الوقت للعمل بمقولة الحي أبقى من الميت؟ في النهاية أدى الثلاثة أخوة المهمة بنجاح ودفنوا جثة أبيهم في قريته. وبعد إيصال "البضاعة" عادوا مرة أخرى إلى دمشق حيث افترق كلّ منهم إلى حياته وعادت الحواجز بينهم مرة أخرى، تلك الحواجز التي يشبهّها خالد خليفة بالحواجز الكثيرة التي تمزق الوطن السوري.