طفل بجوار مقام الأمير همام الهواري- تصوير إبراهيم زايد

صعود وانهيار جمهورية شيخ العرب همام

منشور الخميس 17 نوفمبر 2016

تقدم زينب أبو المجد، الأكاديمية المتخصصة في تاريخ مصر الاجتماعي، في كتابها الصادر بالإنجليزية "إمبراطوريات مُتَخَيَّلة: تاريخ الثورة في صعيد مصر"، تحليلا مركزًا لشخصية شيخ العرب الأمير همام؛ ذلك الزعيم والقائد القبلي الأسطوري الذي عاش في القرن الثامن عشر، وتمكن من بسط سيطرته على إقليم شاسع من الأراضي في جنوب مصر، وإعلان الصعيد إقليما يتمتع بالحكم الذاتي.

نقدم هنا نص الفصل الأول من الكتاب الذي ترجمه أحمد زكي عثمان، وفيه تستقصي أبو المجد استنادًا لطائفة واسعة من المصادر- التي ربما لم يسبقها أحد إليها - طبيعة دولة الأمير همام: الأحلاف الخارجية التي عقدتها والصراعات التي خاضتها مع عسكر المماليك، فضلا عن تبيان جوهر العقد الاجتماعي الذي صاغته هذه الدولة مع الفاعلين الاجتماعيين داخلها: مثل الفلاحين والأقباط والعربان.

هذه صيغة مختصرة بعض الشيء من الفصل الأول للكتاب، فقد جرى حذف الهوامش فضلا بعض الفقرات.

صعود وانهيار جمهورية شيخ العرب همام

 

في عام 1785، رفع مسئول بارز في الدولة العثمانية تقريرًا مُزْعِجًا للسلطان في إسطنبول. حمل التقرير حقائق مقلقة عن مصر- الجوهرة المضيئة في عرش السلطنة آنذاك- التي لم تكن ولاية موحدة خاضعة لسلطة الباب العالي، بل بلد منقسم لولايتين، إحداهما في القاهرة حيث يقيم الباشا الذي يرسله السلطان، والثانية تتمتع بحكم ذاتي في الصعيد٬ الذي لم يتيسر للسلطنة قط السبيل لغزوه والاستيلاء عليه.

قدّم التقرير وصفًا مبتسرًا للنظام الذي يقبض على زمام الأمور في تلك الولاية. وفقًا لكاتبه أحمد باشا الجزار، هناك قبيلة عربية تحكم الصعيد. ومع أن تلك القبيلة تلتزم بدفع الخراج السنوي للسلطان؛ إلا أن نفوذ الوالي العثماني في قلعة القاهرة المحروسة يكاد يكون معدومًا عليها وعلى إقليم الصعيد.

أشار التقرير كذلك إلى هذا القائد الأسطوري الحاكم الآمر في هذه الولاية، باسم قبيلته الهَوَّارة. قدم الجزار وصفًا لـ "إقليم شيخ العرب همام في إقليم الصعيد وما تحت يده من القرى الكثيرة وإيراداتها الوفيرة". وذكر تفصيلا: "تحت إمرته بشكل ثابت ودايم أربعة آلاف مقاتل يسيطر بهم على معظم قرى الصعيد ويلتزم بها بشكل وراثي أبا عن جد.. وهم لا يحضرون إلى القاهرة بتاتا، ولا يغادرون إقليم الصعيد ويؤدون ما هو مطلوب منهم من الأموال والغلال المقررة على القرى الواقعة تحت نفوذهم، ولا يعترضون على جمع الضرايب، فهم يقومون بأنفسهم سنويا بتعيين وإرسال عشرين كاشفا إلى المدن والقرى الواقعة تحت نفوذهم ليجمعوا حوالي ما يزيد عن الألف كيسة كإيرادات سنوية.. ويقع تحت سيطرة شيخ العرب همام ميناء القصير".

ردّد العديد من ضباط العسكر الأتراك قصصًا مشابهة عن هذه الدولة المستقلة والغامضة، التي تمتع فيها الأهالي بقدر ملحوظ من النفوذ السياسي على حكامهم، لدرجة أنهم في أوقات العصيان، كان بإمكانهم [الأهالي] أن يطلبوا من هذه النخبة الحاكمة أن تحمل متاعها وترحل عنهم.

                                       

رسم متخيل لاجتماع كبار الصعيد مع الأمير همام الهواري 

استجاب قادة القبيلة ورحلوا إلى الجبل شرقي النيل، إلا أنهم عادوا مرة أخرى-رغم الغضب المحلي- بدعم من السلطان العثماني، الذي مكّنهم من استعادة حكمهم مجددًا. نالت هذه الدولة إعجاب بعض الرحالة الفرنسيين من معاصري تلك الفترة. وانبهر بها المثقفون المصريون في القرن التاسع عشر أيضاً، حتى وصفها رفاعة رافع الطهطاوي بأنها "جمهورية" مشابهة لما رآه في فرنسا التي تعلم فيها.

 يُمثل وجود هذه الدولة حقيقة مثيرة للدهشة لمؤرخي الدولة العثمانية اليوم، ذلك لأنهم نظروا إلى مصر بوصفها ولاية موحدة ومحكومة بشكل مركزي، من قِبَل تحالف مكون من النخبة العسكرية المملوكية في القاهرة، والبيروقراطية الإمبريالية في إسطنبول.

واعتادت البحوث والدراسات النظرية الحديثة حول الدولة العثمانية طرح جدلية مفادها: أن "المركز" الإمبريالي في إسطنبول حوَّل مصر مع أقاليم أخرى في شرق أوربا والبلدان العربية إلى محض "أطراف"، أو "هوامش" تابعة اقتصاديًا للمركز. ودائماً ما يكون المركز في أي إمبراطورية رأسمالياً منتجاً ذا اقتصاد متقدم، والهامش مستهلكاً ذا اقتصاد بدائي. ويؤكدون في هذا السياق أن مصر قد جرى إدماجها داخل منظومة "الاقتصاد الدولي العثماني" المهيمن، والمسيطر على حوض البحر المتوسط.

لكن في واقع الأمر بالنسبة للصعيد- نصف مصر الأغنى في تلك الفترة- فإن هذه الدراسات لم تتوخ الدقة، أو بالأحرى تكرر خرافات إمبريالية نابعة من الوثائق التاريخية للباب العالي، الحريصة على تعظيم سلطته. فخلال القرون الثلاثة التالية لغزو السلطان سليم الأول للقاهرة في عام 1517، تَشَكّل نظام حكم ذاتي في الصعيد تحت قيادة الهوارة غير خاضع بشكل كامل للباب العالي. بالإضاف لذلك، كان الصعيد آنذاك جزءًا محوريًا من منظومة اقتصادية أخرى دولية مهيمنة، وهي "اقتصاد المحيط الهندي العالمي"، وهي منظومة التجارة التي سادت في تلك الفترة وكانت الإمبراطورية العثمانية نفسها جزء منها وتابع لها.


ولاية الصعيد: سلطان واحد.. ودولتان

 

ولد نظام "الدولتان" في مصر بعد فترة وجيزة من غزو السلطان سليم الأول لها. ولكن كانت له جذور سابقة قبل فترات طويلة على الغزو؛ سيطرت نخبة حاكمة من المماليك ذوي الأصول الشركسية على مصر، متخذين من قلعة القاهرة مقراً لهم منذ انتهاء الحملات الصليبية في القرن الثالث عشر الميلادي. 

ولكن نجحت قبيلة الهَوَّارة في فرض هيمنتها على الصعيد منذ عام 1380. بعد أن خاضت هذه القبيلة حروبًا ضروس مع المماليك، تمكنت من تأسيس سيطرتها على الأراضي الزراعية، وأنشطة التجارة والصناعة في الجنوب منذ ذلك التاريخ. وعندما دخل العثمانيون مصر، أقرّ السلطان بالوضع القائم، فلم يغزُ الصعيد، واكتفى بعقد اتفاقيات سلام مع الهوارة، ورضى بما يحصله منها من خراج سنوي، وعطايا أخرى جزيلة ترسلها القبيلة للباب العالي.

أما في الشمال، فقد عين السلطان بعضًا من بقايا المماليك الموالين له ليسيطروا على القاهرة والوجه البحري، ولكن تحت إشراف باشا ترسله إسطنبول. وبهذا وُلد نظام الدولتين في مصر بناءً على ترتيبات ما بعد الغزو العثماني. شملت هذه الترتيبات أطرافًا ثلاثة: المستعمر العثماني، نخبة عسكرية من المماليك حاكمة في الشمال، ونخبة قبلية من الهَوَّارة حاكمة في الجنوب.

بعد فترة وجيزة، وطدت الإمبراطورية نظام الدولتين هذا في وثيقة قانونية أصدرها السلطان سليمان عام 1525. كان عنوانها "قانون نامه مصر"، وهي عبارة عن مجموعة قواعد للتنظيم الإداري للولاية، بما يتضمن الاستقلال الإداري للصعيد عن القاهرة. استخدمت الوثيقة لفظ "ولاية الصعيد"، للإشارة الرسمية إلى منطقة جنوب البلاد.

أصدر السلطان قانون آخر أسهم بشدة في تعضيد السلطة المستقلة لهوارة: قانون ملكية الأراضي الزراعية. نظريًا وطبقًا للشريعة الإسلامية، كانت جميع أراضي السلطنة العثمانية الشاسعة الممتدة في شرق أوروبا والبلدان العربية ملكًا خاصًا للسلطان، بصفته خليفة المسلمين. وفي البداية قام سلاطنة الدولة بإسناد مهمة إدارتها وجمع ضرائبها لقادته العسكريين بالأساس في شكل إقطاعات، أطلق على كل منها اسم "تيمار".

ثم قدم الباب العالي نظامًا جديدًا لحيازة الأرض وهو "الالتزام"، وبموجبه يحصل "المُلتزم" في أية ولاية من خلال مزادات علنية على قطعة أرض كبرى، قد تشمل عدة قرىً بأكملها، ثم يحتفظ بتلك الأرض لمدة ثلاث سنوات يقوم خلالها باستخدام فلاحين محليين لزراعتها. وفي نهاية كل عام يجمع الضريبة المحددة سنويًا، ويرسلها إلى الوالي العثماني بالولاية التي تتبعها تلك الأرض، ويحتفظ بباقي عائدها لنفسه.

 بدأ تطبيق هذا النظام في مصر عام 1658. في النظام العسكري في الشمال، فاز ضباط المماليك بأراض قرى الدلتا، وصاروا الملتزمين الرسميين عليها. لكن في الصعيد، كان قادة قبيلة الهَوَّارة أكبر الحائزين على أراضي الالتزام في معظم القرى، وفي بعض الأحيان احتكروها تمامًا، ولم يشغل أحد دونهم موضع الملتزم فيها. علاوة على ذلك تمكن الهَوَّارة من الحصول على حق توريث أراضي الالتزام لأبنائهم، وهو أمر لم يكن معتاد في بقية ولايات السلطنة، حيث كان حق الالتزام مؤقتًا لمدة محدودة.

                  

أورطة مماليك في معركة عند سفح الأهرامات

عَشيّة القرن السابع عشر، تَحكّم الهَوَّارة في أكثر من نصف الأطيان الزراعية بالصعيد (نحو 56 في المائة)، فيما جمع الوالي العثماني في القاهرة خراج المتبقى. وذكر المؤرخ المختص بالتاريخ العثماني ستانفورد شو (Stanford Shaw) أنه ومنذ النصف الثاني من القرن السابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر، استقرت قواعد حكم الهَوَّارة فوق تمتعهم المستمر بحقوق الالتزام بشكل وراثي. وعند منتصف القرن السابع عشر، ظهر واحد من قادة الهَوّارة، هو الأمير همام، بوصفه الملتزم الوحيد في صعيد مصر من أسيوط حتى أسوان مرورًا بقنا.

سعي الوالي العثماني في القاهرة في أغلب الأوقات لتحجيم نفوذ الهَوّارة، عبر تسميه ضابط مملوكي حاكمًا على الصعيد، واختيرت مدينة جرجا كي تكون مقرًا لهذا الحاكم غير المتمتع بأية سلطة حقيقية على الأرض. لذلك دأبت السجلات الرسمية على الإشارة إلى الصعيد عمومًا بـ "ولاية جرجا"، أملًا في أن يتمكن حاكمها المملوكي من السيطرة على كل الجنوب. ولكن فشلت مساعي الباشا الوالي طوال الوقت، فقد فرض الهَوَّارة سطوتهم على كل من أرسلتهم القاهرة. 

بلغ نفوذهم مداه بامتلاكهم القدرة على إجبار الوالي في القلعة على تعيين حاكم جرجا طبقاً لاختياراتهم ممن يفضلونه. فلو حدث وأن عَيّن الوالي حاكمًا لا يَرُوق للهَوّارة، كانوا يفصحون عن اعتراضهم بالامتناع عن إرسال ضريبة الحبوب المُخَصصة لإسطنبول. ولهذا كان السلطان العثماني والنخبة المملوكية في القاهرة مجبرين على الرضوخ للهَوّارة. ومثال على ذلك ما حدث في عام 1696، عندما اعترضت الهَوَّارة على تعيين مصطفى بك، مهددة بالامتناع عن إرسال الغلال إلى الأماكن المقدسة بمَكّة والمدينة في الحجاز، وهو تَصَرُّف يسيء لصورة السلطان ويهدد مكانته بوصفه خليفة للمسلمين. لهذا استبعد الديوان بالقاهرة هذا المرشح.

بالإضافة لذلك؛ إذا لم يشعر الهوارة بالرضاء عن حاكم لجرجا تمكن بالفعل من مباشرة خدمته، فإنهم لم يتورعوا عن إنهاء مدة خدمته بإزهاق روحه. بوجه عام، كان حاكم جرجا من المماليك يستمر في منصبه لمدد قصيرة بمعدل سنة إلى ثلاث سنوات. حدث في عام 1695 أن تمكن واحد منهم كان معروفًا بممارساته الاستبدادية من البقاء في مقعده حتى خمس سنوات، لكن حكمه انتهى فَجأة بمقتله، ولقي خليفته مصير مشابه.

يَكمُن السِرّ في صعود نظام الهوارة، منذ العهد المملوكي مرورًا بالفترة العثمانية، إلى الأهمية الجغرافية للمنطقة التي سيطروا عليها في قلب الصعيد. تَمتّعت عاصمتهم قنا بثروة تجارية وزراعية وصناعية شَكّلَت العماد الذي قامت عليه دولة الأمير همام المستقلة. ظهر الهَوَّارة في البداية بوصفهم تجارًا وحائزين للأراضي الزراعية، ثم أصبحوا القبيلة الأقوى والأغنى في الصعيد، وهو ما مَكّنَهم من التحول من نخبة اقتصادية إلى نخبة سياسية حاكمة.

وعبر موانيء البحر الأحمر مثل ميناء عيذاب التاريخى والقصير، اتصلت مدن قنا من مثل قوص وإسنا وفرشوط بموانيء شبه الجزيرة العربية واليمن. واستقبلت البضائع النفيسة القادمة من تلك الموانئ مثل التوابل والبن. كما استقبلت المدن نفسها تجارة شرق أفريقيا، سواء من خلال المراكب النيلية أو القوافل البرية، التي حملت السلع الغالية مثل الذهب والعبيد. لم تكن مدن قنا هذه مجرد حواضر صغيرة؛ بل موانيء نيلية عامرة، تعيد تصدير السلع الأفريقية والشرقية إلى القاهرة ثم إلى البحر المتوسط على طول موانئه المنتشرة على ضفافه.

في قلب الاقتصاد العالمي للمحيط الهندي، احتلت قنا مركزًا رئيسًا في تجارة الحاصلات الزراعية. فزرعت الحبوب وقصب السُكَّر والقطن، وصدرت كميات ضخمة من الغلال والسُكَّر المكرر إلى الشمال، وباعت منتجاتها من النسيج إلى السوق الإقليمي في شرق أفريقيا. احتكرت قبيلة الهَوَّارة الإنتاج الزراعي في قنا منذ العصر المملوكي، وتمكنت بفضل رؤوس الأموال التي راكمتها من أن تتحول إلى سلالة حاكمة.

في واقع الأمر، تعود بدايات صعود الهَوَّارة إلى حيازتهم لمزارع القصب ومعامل تكرير السُكَّر، في وقت كان فيه قصب السُكَّر هو أهم الحاصلات الزراعية في قنا، خاصة في منطقة فرشوط. منح سلاطين المماليك نبلاء الهَوَّارة "إقطاعات" ضخمة من الأراضي، سرعان ما حولوها لمزارع تجارية لقصب السُكَّر المدر للربح الوفير.

 

تجار الصعيد في القرن الـ17- لوحة للفنان المستشرق جون فريدريك لويس 

ارتبط "المركز" الإمبراطوري و"الأطراف" التابعة، أي إسطنبول وقنا في تلك الحالة، بعلاقة اقتصادية عكسية، فيها يعتمد المركز الإمبريالي المستهلك، على الطرف الرأسمالي المنتج الذي يصدر له المُؤَن والسلع المترفة. فبعد الغزو العثماني لمصر، اعتمدت صوامع الغلال الهائلة في إسطنبول في سد احتياجاتها السنوية الضخمة لجنودها الانكشاريين وسكان قصورها السلطانية وغيرهم بشكل أساسي، على الحبوب القادمة لها من صعيد مصر- خاصة القمح- كضريبة مفروضة عليه.

يؤكد المؤرخ ستانفورد شو في هذا الصدد أنه: "التزمت معظم المقاطعات في صعيد مصر بتسديد ضريبة الأطيان كلها في صورة غلال، وكانت مدفوعات الغلال تلك هي التي أمدت الخزانة الإمبريالية بكل المؤنة التي استخدمتها لقوت المعتمدين عليها في المعيشة". كما اعتمد السلطان العثماني في منصبه كخليفة للمسلمين على حبوب صعيد مصر من أجل إطعام حجاج بيت الله الحرام كل عام. كانت هذه الحبوب تنقل من قنا إلى ميناء القصير على البحر الأحمر، ثم تحملها السفن إلى من ميناء جدة بالحجاز، ومنه تنقل الشحنات إلى مكة والمدينة.

استند الاستقرار السياسي في ولاية الصعيد على "عقد اجتماعي" بين القبيلة الحاكمة؛ أي الهَوّارة، وفئات مختلفة من الأهالي، وهم تحديدًا ثلاث مجموعات: الفلاحون والأقباط والعربان. كانت فئة الفلاحين هي المجموعة الأهم التي منحها الهوارة حقوقا سياسية. ففي نهاية الأمر، كانت غلال وقصب هؤلاء المزارعين هي القواعد التي بنت عليها الهَوَّارة ثروتها الرأسمالية، وهيمنتها السياسية.

بصورة عامة عادت أصول فلاحي الصعيد إما إلى قبائل عربية؛ أو المسيحيين الأقباط. خولت الانتماءات القبلية للفلاحين العرب التمتع بنفوذ سياسي كبير، وهو ما صَعّب عملية السيطرة عليهم من قبل حُكَّام القاهرة. لم يتعامل الفلاحون تعاملا فرديًا مع نخبهم الحاكمة، بل بتعامل جَمعيِّ من خلال القبائل التي ينتمون إليها في مواجهة الملتزمين. منحت هذه الترتيبات القبلية الفلاحين قوة في مواجهة الهوارة كقبيلة كبرى حاكمة. وكانت عمليات التفاوض والمساومات الجمعية مع القبيلة الحاكمة في أغلب الوقت تسفر عن إذعانها لمطالب الفلاحين.

 تضمنت شروط هذا العقد الاجتماعي الافتراضي أن يزرع الفلاحون العرب الأرض، ويدفعوا ضرائبها للملتزمين من الهوراة، على أن تأخذ الهَوَّارة على عاتقها في المقابل مهمة توفير الحماية للقرى من أعمال السطو التي يشنها العربان الجائلين. في واقع الأمر، تمكن الهَوَّارة من صد هجمات هؤلاء العربان بصورة أكثر نجاحًا من الملتزمين المماليك في الدلتا، مما جعل دولتهم في الجنوب تتمتع بدرجة من الأمن العام، تفوق ما تمتعت به دولة المماليك في الشمال. ويؤكد شو في هذا الصدد: "لم تكن زراعة حيازاتهم [الفلاحين في الصعيد] قط بالصعوبة التي كان عليها الأمر لمزارعي الوجه البحري، فقد كان القائمين عليهم [الهَوّراة] أكثر قدرة بكثير على حمايتهم من هجمات القبائل العربية الأخرى من الحكومة المركزية".

 كان الأمن وبدون أدنى شك هو الهم الأول للفلاحين. وعندما فشلت الهوارة في توفيره، وقعت مشروعية نظامها في مجملة على المحك وصارت مهددة بالفقدان. وفي حين شاب القمع العلاقة بين الملتزمين المماليك والفلاحين في الوجه البحري؛ تمتع فلاحو الصعيد بوضعية أكثر حفاظًا على كرامتهم، وأسسوا علاقة لا تخلو من ندّية بينهم وبين الهَوَّارة. وكتب شو "كانت إدارة الحكم لهذه القبيلة [الهوارة] تقوم على الإنصاف والجْود. فاستمرت أعمال الزراعة، وتم الاهتمام برفاهية الفلاحين بشكل أفضل بكثير من الوجه البحري".

أما الفئة الاجتماعية الثانية في هذا العقد الاجتماعي فكانت الأقباط، سكان البلاد الأصليين من المسيحيين الأرثوذكس، خاصة من اشتغلوا بمهنة المحاسبة وحفظ الدفاتر ومسح الأراضي الزراعية منهم. تبني قادة الهَوَّارة النموذج نفسه الذي ساد في الإمبراطوريات الإسلامية في القاهرة منذ الفتح الإسلامي لمصر في القرن السابع ميلادية، بالاعتماد على الخبرة القبطية في إدارة النظام المالي المعقد في البلاد. تعود تلك الخبرة القبطية لقرون سابقة على الإسلام.

عين الهَوَّارة "المعلمين" الأقباط لإدارة سِجلَّات أراضي الالتزام وأنشطتهم التجارية. ومع ذلك، لم يأمن المحاسبون الأقباط غدر الهَوَّارة، في حال ما إذا نمت ثروتهم ونفوذهم بشكل يتجاوز حدود ما تسمح به القبيلة الحاكمة. تعرض الأقباط في بعض الأحيان للتنكيل بهم، ولذلك توخوا الحرص في كسب الثروات والتعامل مع رؤسائهم من قادة القبيلة.

وأخيرًا، كانت القبائل العربية غير المستقرة، أو العربان، ثالث الفئات الاجتماعية في العقد الاجتماعي مع الهوارة. كان من الضروري والملح للغاية؛ أن تعقد الهَوَّارة الاتفاقات مع العربان الجائلين في صحاري الصعيد، حتى تستطيع الحفاظ على استقرار نظامها ضد غاراتهم المتكررة على القرى والمدن. كان على رأسهم قبيلة العبابدة. جالت هذه القبيلة في صحراء قنا لقرون بدون أن تستقر في بقعة بعينها، وأغارت على الأهالي في وضح النهار، فنهبوا الناس في الأسواق وأطلقوا السجناء عنوةً.

 

رجال من قبيلة العبابدة

 وعلى الرغم من ذلك السجل الإجرامي، لاحظ العديد من الرحالة الأوربيين الذين خالطوا القبيلة، أن العبابدة لم يكونوا مجرمين بالفطرة؛ وإنما ارتكبوا هذه الجرائم عمومًا كرد فعل على مظالم الحكومة. وتحدث شهود العيان الأجانب الذين نزلوا ضيوفًا عليهم، عن شيوخ هذه القبيلة وتميزهم بالجود والكرم واحترام الكلمة والوفاء بالوعود. 

استقطب الهَوَّارة العبابدة بإبرام اتفاقيات سلام معهم، وكلفوهم بمسئولية حفظ الأمن. أُنيط بالعبابدة حماية قرى بعينها والدفاع عن طًرق التجارة المؤدية  لميناء القصير ضد غارات القبائل العربية الأخرى.

نَظَّم أصحاب التزام الأراضي من الهَوَّارة علاقاتهم مع الفلاحين في الإطار القانوني للفقه الإسلامي. فأجروا الأراضي لهم وفقًا لعقود المزارعة، وبموجبها يلتزم المستأجر بدفع ضريبة الأرض وتسليم حصة من المحصول للملتزم. علاوة على هذا، كان لفلاحي قنا حق الانتفاع بالأرض بناء على عقود "فروغ ونزول"، وتوريث حق الانتفاع هذا لذويهم. كما تمتع الفلاحون في قنا بحقوق شراء وبيع الأراضي والتنازل عنها ورهنها، من خلال التصرف الشرعي في حق الانتفاع الذي حصلوا عليه.

وعلى مستوى العلاقات الخارجية، عقد الهَوَّارة المعاهدات والاتفاقات على طول طرق التجارة المؤدية قنا، ومثل الزواج من عائلات أو قبائل أخرى حاكمة إحدى الطرق التقليدية التي اتبعتها الهَوَّارة في عقد تحالفات مع أطراف إقليمية في ولايات محيطة. صاهر أبناء الهَوَّارة العائلات المسيطرة على شبكات التجارة الدولية حولهم، فتزوجوا من بنات شريف مكة، وأصبحوا نسباء للنخب الحاكمة في الحجاز. وامتلكت نساء مكة المتزوجات من أبناء الهَوَّارة أملاكًا في الأراضي المقدسة، وأدار أزواجهن هذه الأملاك نيابة عنهن. ومن المثير للدهشة أن نفوذ الهَوَّارة امتد لدرجة أن القبيلة حكمت لفترة إقليم برقة بليبيا، وحمل الحاكم الهواري لقب "أمير الصعيد وبرقة" في القرن الثامن عشر.

بالإضافة لذلك، عَقَدَ الهَوَّارة تحالفات سياسية مع بعض فصائل المماليك في القاهرة والوجه البحري.

هيمن على السلطة في القاهرة، طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، جناحان من المماليك: الفقارية والقاسمية. وسعى كلاهما للسيطرة المطلقة، وتنافسا من أجل عقد تحالف استراتيجي مع الهوارة لبلوغ هذا الهدف الكبير. وكان الحصول على مقعد ولاية جرجا مسألة حرجة وحاسمة في صراع "الفقارية – القاسمية"، ليس فقط بسبب الموارد الاقتصادية الوفيرة للجنوب، ولكن أيضًا لأنه يتيح القرب الجغرافي من الهوارة، ويعزز من إمكانية التحالف معهم.

وكان المماليك المتمردين على نظام الحكم العثماني يهربون إلى الجنوب، حيث الدعم اللوجيستي الذي وَفَّرَته لهم الهَوَّارة من أجل استئناف المعارك مع منافسيهم على السلطة في القاهرة.

من الطاعون إلى العصيان

 

في نهاية القرن السابع عشر، واجه نظام الدولتين في مصر أزمة عنيفة. فقد اندلعت الحرب في طول البلاد وعرضها، وكادت الدولتان الشمالية والجنوبية أن تنهارا. في الشمال، دخلت طوائف المماليك في حملات قتال ضد بعضها البعض للاستئثار بالسلطة. وفي الجنوب، امتنعت الهَوَّارة عن إرسال ضرائبها للقاهرة سعياً لتحقيق المزيد الاستقلال عن السلطان العثماني. حاولت الإمبراطورية بكل ما في وسعها احتواء الأزمة ومنع انهيار النظام، مستخدمة أفضل استراتيجياتها العسكرية. إلا أنها فشلت في استعادة الاستقرار، وأفضى الاضطراب السياسي المستمر إلى كارثة بيئية محققة: عانى الفقراء من نقص الغذاء وارتفاع الأسعار، وتفشَّى وباء الطاعون في القاهرة والدلتا.

                        

نابليون في مصر مصابًا بالطاعون 

وأدى فشل الإمبراطورية في استعادة الاستقرار في كلتا الدولتين إلى الانتشار الواسع للوباء. بالإضافة لذلك، جاءت محاولة الإمبراطورية للتدخل وفرض وجودها مرة أخرى على سياسات الصعيد، على حساب الطبقات المهمشة فيه: لقد أسفرت عن إجهاض أول انتفاضة حقيقية قام بها الأهالي ضد نقائص حكم الهوارة.

دوَّن ضابط ومؤرخ عثماني في عام 1695 وقائع احتدام الصراع بين جناحي المماليك القاسمية والفقارية، للسيطرة على جرجا ومواردها. لم يكن هذا الشقاق بالجديد، فلطالما نشبت المنازعات بين الطرفين في سنوات وعقود سابقة، حين أعلنت الفصائل المتمردة عصيانها على الباشا العثماني. استغل الهَوَّارة الاضطراب السياسي في القاهرة، وامتنعوا عن إرسال الخراج لوالي السلطان، في خطوة صريحة لتحقيق مزيد من الاستقلالية.

روى الأمير أحمد الدمرداشي، في كتابه "الدرة المصانة في أخبار الكنانة"، الذي دون فيه الوقائع المصرية بين عامي 1688 و 1755؛ عن تطور الأحداث على جانب الهوارة كالتالي: "أخرجوا بلاد الكشوفية بتقاسيط، وصارت التزام لم يعملوا امتثالًا للحاكم. ولهم وكلاء من أعيان مصر، يشتروا لهم الجرايات بغرش ثلاثين نصف فضة الأردب، وينزلوهم من بلادهم، ويتصرفوا في القمح بماية وعشرين نصف فضة الإردب. ولم يدخل الشون العامر إردب واحد من هوارة".

  ونتيجة لذلك، اندلعت أزمة اقتصادية طاحنة، ليس فقط في شمال مصر؛ وإنما في كل أنحاء البلاد، فارتفعت أسعار البضائع بأربعة أضعاف، واختفت من الأسواق السلع الغذائية الرئيسة مثل القمح والشعير والفول. وتفاقمت الأزمة في العام التالي بسبب نقص فيضان النيل وما ترتب عليه من محاصيل شحيحة.

في أتون هذا الصراع، تفشى وباء الطاعون في القاهرة. روى المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي وقائع ما جرى: "حصل شدة عظيمة بمصر وأقاليمها، وحضرت أهالي القرى والأرياف حتى امتلأت منهم الأزقة. واشتد الكرب حتى أكل الناس الجيف، ومات الكثير من الجوع، وخلت القرى من أهاليها، وخطف الفقراء الخبز من الأسواق ومن الأفران ومن على رؤوس الخبازين‏.‏ ويذهب الرجلان والثلاثة مع طبق الخبز يحرسونه من الخطيف وبأيديهم العصي حتى يخبزوه بالفرن ثم يعودون به‏".

أدى عجز الدولة العثمانية عن الحفاظ على استقرار نظام الدولتين إلى تفشي هذا الطاعون، الذي سنطلق عليه هنا الوباء "الإمبريالي"، لأن فشل سياسات الإمبراطورية كانت سبب رئيسي في انتشاره.

وفقًا للنظام السلطاني الأساسي المُنَظِّم لإدارة مصر والمعروف بـ  "القانونامه"، تَمَثَّلت المهمة الرئيسة لكل ولاية في تنظيم الزراعة والتحكم في الري وشبكة الصرف في أوقات الفيضان. وذكر بعض المراقبين الأوربيين الذين عاصروا تلك الفترة، أن السبب وراء تفشي الطاعون كان في سوء إدارة مياه النيل بعد الفيضان، والإهمال في حل مشكلة المستنقعات الراكدة وانخفاض مستوى النهر.

اندلعت موجة الوباء خلال النزاع العسكري، ولم يُعط النظامان اهتمامًا كافيًا للتحكم في نسبة المياه، وتجاهلا كارثة انخفاض منسوب مياه النيل. وعلى الرغم من تفشي وباء الطاعون في القاهرة؛ إلا أن الصعيد كان في مأمن منه بسبب جفاف الهواء، والجو الحار الذي حمى المنطقة من المرض. لكن طال الموت فقراء الصعيد الذين دفعهم الجوع والقحط لاكتساح شوارع القاهرة، فلقوا حتفهم هناك بسبب الطاعون.

أَصرَّ [عبد الرحمن بك] على أخذ وثيقة تعهد رسمي بذلك، وسجله في المحكمة الشرعية. وطلب تجهيزه بمعدات حربية "مدفعين وجبخانة وطبجي"، وطلب أيضاً فرماناً "بالأمان". والأهم من ذلك أن عبد الرحمن بك تَمكَّن من عقد حلف مع فصيل من هوارة الشمال، كانوا على خلاف مع أبناء عمومتهم في هَوَّارة الجنوب الحاكمين للصعيد.

ولمواجهة ذلك، جهز الهَوَّارة جيشا من الفلاحين والنوبيين. وبعد قتال عنيف، خسر الهَوَّارة المعركة. احتل المماليك فرشوط، مقعد الهَوَّارة في عاصمتهم قنا، ونهب الجنود منازل القبيلة الحاكمة وسبوا بعض نسائهم. كما سلبوا "حجارة طواحين وبعض عبيد وخيول وجمال وأخشاب أرسلوه بلادهم في مراكب". كان جل الذين لقوا نحبهم في الواقعة "من هَوَّارة المزارعين" والفلاحين العرب، ولم يُصَب أكابر الهَوَّارة من الملتزمين بأذىً، ولاذوا بالفرار بعائلاتهم وأموالهم ومتاعهم إلى الجبل الغربي للاختباء فيه.

 

مواجهة بين مملوكي وعربي هواري - فنان مجهول

بلغ سخط فلاحي الصعيد مداه بفعل الدمار الذي تسبب فيه نظام الهوارة، عندها بدا الوقت مواتيًا كي يتمردوا على الأخطاء السياسية لتلك النخبة المعمرة. في الصباح التالي لانتهاء المعركة، ذهب الفلاحون إلى معسكر المنتصرين من المماليك لتقديم فروض الولاء والطاعة لهم، مؤكدين لقائدهم عبد الرحمن بك أنهم "رعية السلطان". 

أخبر الفلاحون المماليك بحسم أنهم لا يرغبون في تحمل المزيد من كوارث حروب قادة الهوارة. قرروا مهادنة المماليك لأجل استعادة حياتهم العادية من الحرث والقلع. [وأخبروا المماليك]: "نحن أناس زراعة وقلاعة. وقد فني أكثر من نصفنا، نحن لم بقينا نعارك، ونعصي السلطنة". عين عبد الرحمن بك ضابطاً مملوكيا ليتولى مهام الالتزام، ويحل محل ملتزمي الهوارة.

تلقى السلطان في إسطنبول على الفور أنباء انتصار البك وهروب قادة الهوارة. [لكن] لم يمض وقت طويل حتى استعاد الهَوَّارة نفوذهم مجددًا على الصعيد. تمكن الهَوَّارة من شراء نظام حكمهم القديم مرة أخرى بالمال من السلطان ووكلائه في القاهرة.


جمهورية شيخ العرب همام

                

رسم متخيل للأمير همام الهواري

بعد نحو عقدين من الزمان على تلك الأزمة وتمرُّد الفلاحين على نظام الهوارة في قنا، وُلدت ”جمهورية“ في صعيد مصر، هي جمهورية شيخ العرب همام بن يوسف. كان الصعيد لايزال يتمتع بالحكم الذاتي تحت دولة الهوارة العائدين للسلطة. نجحت القبيلة الحاكمة الآن في صياغة عقد اجتماعي جديد مع الطبقات المهمشة في الجنوب لاستيعاب تمرُّدهم.

وكما كان الحال في نشأة الجمهوريات الحديثة، خرجت جمهورية الصعيد من رحم النزاعات الداخلية التي جرى حلها بتوافقات اجتماعية، قائمة على ديناميكات وشبكات علاقات داخلية. ولم يلعب مركز الإمبراطورية البعيد في إسطنبول أي دور في تشكلها، لكنه ظل يتلقى الضرائب السنوية منها. بالإضافة لذلك، كان لهذه الجمهورية مؤسساتها السياسية والاجتماعية المنفصلة عن النظام الإمبريالي.

ولد همام في فرشوط نحو عام 1709، وهو ابن قائد هواري، تربي وترعرع كي يرث موقع والده. وحد همام الصعيد كله تحت إدارته هو كملتزم أوحد محنك جسور. وفي الفترة ما بين عشرينيات القرن الثامن عشر حتى ثلاثينياته، أضاف همام الشاب حيازات شاسعة من أراضي الالتزام إلى ثروته الضخمة التي ورثها عن أبيه، حتى صار هو الملتزم الوحيد في صعيد مصر كله من أسيوط وحتى أسوان.

تمتع همام رسميًا بحق الالتزام مدى الحياة للأراضي، وتمتع أيضا بحق توريثها لأبنائه، فصارت ما يشبه ملكية خاصة له اشتراها من السلطان. وبناءً على وضعيته المستقلة، تجاوز همام قلعة القاهرة في علاقته مع السلطان، وعقد الصلات مباشرة مع الباب العالي في إسطنبول.

حظى الرحالة البريطاني جيمس بروس (James Bruce) بفرصة رؤية شيخ العرب، وتمكن من حضور جلسة في ديوان حكمه. وصفه قائلاً: "تميز هذا الشيخ بالثراء الشديد، وتمكن شيئًا فشيئًا من توحيد جميع المناطق المنفصلة في صعيد مصر تحت سلطته الشخصية. كانت تلك المناطق يحكمها في السابق أمير معين [من قادة هوارة]. لكن انصبَّ جُلَّ اهتمامه [همام] على القسطنطينية، التي طلب منها مباشرة ما يريد، وهو ما أثار غيرة البكوات في القاهرة. يستحوذ الرجل، بأمر من السلطان، على المنطقة كلها فيما بين أسيوط وأسوان".

 

   بالنسبة لضُبَّاط الحملة الفرنسية، الذين غزوا مصر في عام 1798، مثلت دولة شيخ العرب همام نموذجًا يمكن تقليده لتأسيس حكومة "وطنية" و"عادلة" في مصر على غرار الجمهورية الفرنسية. أمَّا بالنسبة لمثقف مصر الكبير ومترجم القانون المدني الفرنسي رفاعة الطهطاوي، فإن دولة همام تشابهت مع النظام الجمهوري الذي درسه في فرنسا.

أطلق الطهطاوي على دولة الشيخ همام مسمى "الجمهورية الالتزامية". وكتب المؤرخ القاهري عبد الرحمن الجبرتي عن الطباع والخصال لهمام، واصفا إياه بـ "عظيم بلاد الصعيد"، وذكر أنه كان:"ملجأ الفقراء والأمراء ومحط رحال الفضلاء والكبراء.. وقد جمع فيه من الكمال ما ليس فيه لغيره".  

وعدد الجبرتي خصال الأمير همام من الكرم، فقد كانت "تنزل بحرم سعادته قوافل الأسفار وتلقى عنده عصى التسيار، وأخباره غنية عن البيان مسطرة في صحف الإمكان، منها أنه إذا نزل بساحته الوفود والضيفان تلقاهم الخدم وأنزلوهم في أماكن معدة لأمثالهم، وأحضروا لهم الاحتياجات واللوازم من السكر وشمع العسل والأواني وغير ذلك، ثم مرتب الأطعمة في الغداء والعشاء والفطور في الصباح، والمربيات والحلوى مدة إقامتهم لمن يعرف ومن لا يعرف. فان أقاموا على ذلك شهورا لا يختل نظامهم ولا ينقص راتبهم، وإلا قضوا اشغالهم على أتم مرادهم، وزادهم إكراما وانصرفوا شاكرين. وإن كان الوافد ممن يرتجي البر والاحسان، أكرمه وأعطاه وبلغه أضعاف ما يترجاه".

كما عدد [الجبرتي] بعض ملامح ثورته، فـ "عنده من الجواري والسراري والمماليك والعبيد شيء كثير. ويطلب في كل سنة دفتر الأرقاء، ويسأل عن مقدار من مات منهم. فإن وجده خمسمائة أو أربعمائة استبش وانشرح، وإن وجده ثلثمائة أو أقل أو نحو ذلك اغتم وانقبض خاطره. وكان له برسم زراعة قصب السكر وشركة فقط إثنا عشر ألف ثور، وهذا بخلاف المعد للحرث ودراس الغلال والسواقي والطواحين والجواميس والأبقار الحلابة وغير ذلك. وأما شون الغلال وحواصل السكر والتمر بأنواعه والعجوة، فشيء لا يعد ولا يحد. وكان الإنسان الغريب إذا رأى شون الغلال من البعد ظنها مزارع مرتفعة لطول مكث الغلال وكثرتها، فينزل عليها ماء المطر ويختلط بالتراب فتنبت وتصير خضرا كأنها مزروعة. وكان عنده من الأجناد والقواسة وأكثرهم من بقايا القاسمية انضموا إليه وانتسبوا له، وهم عدة وافرة. وتزوجوا وتوالدوا وتخلقوا بأخلاق تلك البلاد ولغاتهم".

  

مسجد مقام الأمير همام الهواري 

زار الرحَّالَة بروس، السابق الإشارة إليه، مدينة فرشوط في ستينيات القرن الثامن عشر والتقى الأمير همام. انبهر الرجل الاسكتلندي الأصل بخصال هذا الحاكم. وروى في مدونة رحلته: "انتظرنا الشيخ همام؛ كان رجلًا ضخمًا، طويلًا ووسيمًا. خمنت أنه قد شارف على الستين. كان يرتدي معطفًا من فراء الثعالب فوق بقية ملابسه، فيما لف شالًا هنديًا أصفر حول رأسه فيما يشبه العمامة. استقبلني بتواضع وأدب جم، ثم أجلسني بالقرب منه. سألني عن القاهرة أكثر مما سأل عن أوروبا". 

وبالمثل أعجب الرحالة البريطاني ريتشارد بوكوك (Richard Pococke) بخُلُق همام عندما قابله في مجلسه. رافق بوكوك في زيارته لشيخ العرب مترجم أرميني وتاجر حلبي له أعمال في الصعيد. عند نزولهم فرشوط، بعث لهم الأمير همام أحد رجاله كي يستقبلهم ويصطحبهم إلى ديوانه. "جلس الشيخ في أحد أركان الحجرة، بالقرب من مجمرة فحم، وعندما دخلت اعتدل واقفاً، ووقف مرة أخرى عندما غادرت. كان يرتدي ملابسًا على الطريقة العربية". طرح همام بعض الأسئلة على الرجل و"على وجهة ابتسامة عذبة"، على حد تعبير الرحالة.

استمرت دولة همام في قلب علاقة معكوسة بين المركز والأطراف في الإمبراطورية. فظل في عهده المركز الإمبريالي المستهلك يعتمد على الهامش الرأسمالي المنتج. احتكر شيخ العرب معظم تجارة الصعيد الواردة إليه وتصدير المحاصيل التجارية منه، وعمّق من اعتماد إسطنبول على ما يرسله لها.

ظهرت احتكارات همام بالتزامن مع وصول سوق قنا -كحلقة مركزية في منظومة اقتصاد المحيط الهندي- إلى قمة ازدهاره ونضجه أثناء القرن الثامن عشر. في واقع الأمر، لم يكن محض مصادفة تاريخية أن تتأسس "جمهورية" الأمير همام تحديداً في تلك الفترة الزمنية، حيث وُجدت الأعمدة الاقتصادية التي قامت عليها تلك الجمهورية في سوق قنا الإقليمية، وهو في أوج نشاطه داخل الاقتصاد العالمي.

تحولت مدينة قنا وغيرها من المدن المحيطة بها، مثل قوص وفرشوط ونقادة، شيئًا فشيئًا إلى أهم مراكز التجارة الخارجية في مصر. وصوّر المؤرخ  فريد لوسون (Fred Lawson) هذا الوضع قائلاً:

"شكلت العديد من مدن الصعيد قواعد لشبكات التجارة تلك في نهاية القرن [الثامن عشر]. ومن المفترض جدلًا أن قنا كانت أهمهم على الإطلاق، إذ مثلت مركزًا ضخمًا لشحن السفن على نهر النيل في منتصف المسافة تقريبًا بين جرجا عاصمة المديرية والأقصر العاصمة الفرعونية. تميز المركز التجاري القديم في قوص أيضًا بنشاطه في تجارة الغلال والملابس بمنطقة البحر الأحمر في تسعينيات القرن الثامن عشر، على حين احتفظت فرشوط ونقادة بالعلاقات التجارية مع بلاد الحجاز.. ويقتضي ذكر السودان أن نضع في الاعتبار ثاني أكبر الشبكات التجارية التي كانت قنا جزءًا منها في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وهي شبكة التجارة بين سنار ودارفور والحبشة والجنوب، مع القاهرة وأوروبا في الشمال. توسعت هذه الشبكة لتضم مناطق ممتدة من الأرض، وتعاملت في مختلف أنواع السلع".

توسعت تجارة القهوة وقتها بشكل هائل عبر قنا، وكانت إسطنبول بنخبتها المحتسية للبن ومقاهيها العامرة هي نهاية وجهتها في الغالب. كما ذهبت القهوة للفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين الباحثين عن أنواع البن عال الجودة. استقبل ميناء القصير البن القادم من اليمن، خاصة بعد انخفاض معدل التجارة في ميناء السويس بسبب ظروف الملاحة غير المواتية فيه. 

كانت هناك ما يقرب من 10 إلى 20 سفينة ترسو في القصير شهرياً، مقارنة برسو نحو 60 سفينة في ميناء السويس طوال العام بأكمله.  فرض همام سيطرته الاحتكارية على تجارة القصير، واستحوذ على قلعتها العتيقة، مستخدما إياها نزلًا لضيوفه. وشملت أعماله التجارية نقل القمح من قنا عبر القصير إلى ميناء جدة في الحجاز. كما أمّن طريق التجارة بين البحر الأحمر وقنا بشراء ولاء قطاع الطرق من البدو في الصحراء، فأوكل لقبيلة العليقات مهمة تأمين الطريق إلى القصير.  

 

ميناء وقلعة القصير.

كما انتعشت تجارة شرق أفريقيا في فرشوط التي كانت محط الرحال الأخير لتجارة "درب الجلابة"، والقوافل القادمة من مملكة سنار السودانية المحملة بالعبيد والعاج وغيرهما. ومرة أخرى، كانت إسطنبول مقصدًا رئيسًا لهذه البضائع الثمينة.

جعل همام من فرشوط - مسقط رأسه – مقعدًا لحكم دولته في قنا، واحتكر معظم تجارة شرق أفريقيا التي كانت تمر بها. لعبت فرشوط أيضًا دورًا مهمًا في تعزيز وضع قنا، بوصفها منتجًا شهيرًا لزراعة القصب وتكرير السكر. ونافس سُكَّر قنا نظيره المنتج في المستعمرات الأمريكية، الذي استهلكته إسطنبول والشام وغيرها من بلاد الشرق. وكما دون النقيب في مدفعية الجيش البريطاني هنري لايت (Henry  Light) في مشاهداته حول المدينة، فإن فرشوط مكان "تُصنع فيه كميات هائلة من السكر"، وأضاف العسكري البريطاني: "تحصل الشام على سكرها بالأساس منها [فرشوط]. لم أر في أي مكان زرته في الشرق سكر المستعمرات [بالأمريكتين]، لأن استهلاك الباب العالي بالقسطنطينية يأتي من فرشوط، ويتم تكرير سكررها بعناية فائقة".

احتكر همام صناعة السُكَّر في فرشوط، كجزء من احتكاره لمحصول قصب السُكَّر في طول الصعيد وعرضه. امتلك همام 12 ألف من المواشي مخصصة فقط لزراعة قصب السكر. ومن أجل الحفاظ على قوته التجارية، استخدم عددًا لا يُحصى من آلات الحرث والسواقي وطواحين الغلال والبقر. كما ابتنى عددًا لا نهائيًا من المخازن التي امتلأت بالحاصلات التجارية.

تمتع همام بصورة مهيبة ونال درجة عالية من الاحترام في التدوينات التاريخية المصرية والأوروبية على السواء، بفضل الحكومة العادلة التي أسسها في الصعيد. أنشأ همام هيكلاً جديدًا للسلطة، يقوم على مشاركة الأهالي فيها. وصاغ عقد  اجتماعي جديد مع الفئات الاجتماعية المهمشة والنخب المحلية. كان الهدف الأسمى لهذا النظام الذي أرساه هو الحفاظ على الإنتاج الزراعي مستمرًا دون اضطراب، وتأمين حركة التجارة، وضمان الاستقرار السياسي.

دأب شيخ العرب على عقد مجلس عام أطلق عليه اسم "حكومة"، يحضره الأهالي من القرى والمدن والبدو، لمناقشة المستجدات  الاقتصادية والاجتماعية وحل النزاعات من خلال الشورى الجماعية. عقد همام المجلس بشكل يومي في مزرعته الكبيرة بفرشوط، وشهدت جلساته حضورًا غفيرًا. يفد الحاضرون إلى المجلس ويغادرونه في أي وقتٍ شاءوا طوال النهار بحرية دون قيود. وكان مطبخ أميرهم ومُضيفهم المُوْسِر يقدم لهم الإفطار والغداء.

وفي هذا المجلس، كان همام هو السلطة التي تحظى بكل احترام، والتي يرفع لها الفلاحون شكاويهم، أو النزاعات حول حقوق الانتفاع في الأراضي الدائرة بين الأفراد أو بين قرى بأكملها. وللأحكام التي يصدرها الحجية القانونية، وتؤخذ إلى المحاكم الشرعية لتوثيقها في سجلاتها، وليقوم القضاة بتطبيقها.

شكلت النخبة القبطية طرفًا أساسيًا في العقد الاجتماعي لهمام، خاصة المتعلمين منهم الذين عملوا كمحاسبين لديه. ضمت حكومة شيخ العرب عددا من الأقسام، على رأس كل منها محاسب أو "مباشر" قبطي يعمل ليلًا ونهارًا. وبعد قضاء النهار وثلثي الليل في مقابلة المترددين على المجلس العام، كان همام يقضى الثلث الأخير من الليل مع الموظفين الأقباط للنظر في الشؤون المالية والإدارية للدولة.

ويذكر الجبرتي عن شيخ العرب: "وله دواوين وعدة كتبة من الأقباط والمستوفيين والمحاسبين، لا يبطل شغلهم ولا حسابهم ولا كتابتهم ليلا ونهارا. ويجلس معهم حصة من الليل إلى الثلث الأخير بمجلسه الداخل بحاسب، ويملي ويأمر بكتابة مراسيم ومكاتبات".

ناب المباشرون الأقباط عن همام في جمع ضريبة الغلال من الفلاحين وشحنها إلى القاهرة. وتُظهر مثلا إحدى وثائق المحكمة الشرعية لإسنا؛ أن همام أسند للمعلم بولس بن منقريوس وأخاه جرجس مهمة جمع ضرائب الحبوب وإرسالها إلى الشمال. كما تولى الأخوان نفسهما مسئولية إدارة معاملاته المالية، بصفتهما وكيلين شرعيين عنه يمثلانه في المحكمة الشرعية.  

عاش الفلاحون الأقباط عصرًا ذهبيًا في ظل دولة الأمير همام، حسبما تؤكد المصادر العربية والأجنبية المكتوبة في القرن الثامن عشر. ففي زمن الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801)، أي بعد ثلاثة عقود على رحيل شيخ العرب، أكد علماء الحملة وضباطها أنهم سمعوا من أقباط قنا، أغنياء وفقراء، عن ذكرياتهم الطيبة في ظل حكم الأمير همام.

وعبَّر بعض الأقباط للفرنسيين عن اشتياقهم للعودة إلى زمن الأمن والعدالة تحت قيادة شيخ العرب. وعندما دعا أحد نبلاء الأقباط الذي رافق الجيش الفرنسي العائد إلى بلاده، حول تحرير مصر من العثمانيين وتأسيس جمهورية مستقلة، فقال إن الحكومة الجديدة التي تصورها مع داعميه الفرنسيين يُرتجى منها أن تكون "عادلة.. ووطنية كما كانت حكومة الشيخ همام في الصعيد".

أما الفئة الأخيرة التي ارتبطت بعقد اجتماعي مع الأمير همام، فكانت القبائل العربية غير المستقرة أو البدو الرُحَّل، ممن كان التوافق معهم حتميًا لتحقيق الاستقرار السياسي. طلب شيخ العرب من العبابدة، وهي واحدة من أهم المجموعات القبلية في قنا، أن تستقر في القرى والمدن على ضفاف النهر، حتى يضع نهاية لعمليات قطع الطرق التي كانت تقوم بها في الصحاري.

بعد أن قضى أكثر ربع قرن من حياته في أعمال السلب والنهب، استقر الشيخ نمر، عميد العبابدة، أخيرًا في دراو إلى الجنوب من إسنا، وأصبح صديقاً لهمام وشريكه في أعمال التجارة. روي الرحالة البريطاني بروس تفاصيل لقاء جمعه مع نمر: "طوال السبعة وعشرين عامًا الأولى من حياته، لم تبصر أعينه النيل مطلقًا، إلا بصورة عابرة أثناء عمليات السطو. كان [نمر] في حالة حرب مستمرة مع أهالي المناطق المزروعة في مصر، وأوصلهم في بعض الأحيان إلى حد الجوع...كان كبيرًا في العمر، صديقًا للشيخ همام، واستقر مقيمًا قرب النيل".

أسس الزعيمان شركة للتجارة عبر البحر الأحمر، وحملت قوافل همام ونمر القمح من قنا عبر القصير إلى جدة، وبالطبع كانت قوافلهم هي الأكثر أمانًا بين من يعبرون الصحراء شرقًا.

أبدى همام احترامًا للمحكمة الشرعية وامتثل لأحكامها في الحياة السياسية والاقتصادية. واستخدمها في توثيق إجراءات إدارية مثل إشهار أو جمع الضرائب على الحبوب من القرى وتسجيل أعماله التجارية. وفي بعض الأحيان، حضر شيخ العرب بنفسه إلى المحكمة لمتابعة قضاياه، لكن في الأغلب الأعم اكتفى بإرسال وكلائه الشرعيين مشفوعين بخطابات ممهورة بخاتمه إلى القاضي. وحضر نوابه في المدن الكبيرة نيابة عنه في القضايا التي تتعلق بتسجيل مختلف أشكال الضرائب، والمعاملات التجارية والأمور الاجتماعية.

عمل نظام الإدارة المحلي في دولته من خلال المحكمة. فحضر شيوخ القرى والمدن جلسات القضايا التي تتعلق بالحياة الاجتماعية والاقتصادية لأهالي مناطقهم بقنا، والتي تضمنت بيع وشراء المنازل، المتاجر، الطواحين، والأرض وكذلك معاملات الزواج والطلاق والرهن والوقف الخيري. وقد اختصت المحكمة الشرعية بالفصل في منازعات المسلمين والأقباط على السواء تحت حكم همام.

كان الأقباط يسجلون أنشطتهم المالية في المحكمة مستعينين أحيانا بشيوخ القرى كشهود. وتعامل همام مع النخبة القبطية، التي ربطته بها صلات تجارية، على قدم المساواة من الناحية القانونية في المحكمة، فتبادل معهم الممتلكات، ووثق هذه الأنشطة، من أجل أن يحتفظ بالحقوق التعاقدية لمواطنيه من هذه الأقلية.

اعتمد همام أيضًا على العرف القبلي لحل المشكلات الجماعية والفردية في مجلسه العام. عندما تفجر قتال عنيف بين أهالي قريتي النمسة والميساوية [من أعمال إسنا] في عام 1757، لجأ الطرفان إلى مجلس شيخ العرب لحل النزاع. عقد همام الصلح بين الطرفين، ولكن بعد أن ألزم أهالي القريتين بدفع المستحقات المطلوبة لخزانة دولته أولًا.

وضع همام شروطًا ملزمة للصلح، منها أنه إذا قتل أحد من الطرف الأول شخصًا من الطرف الثاني، يحق لأهل القتيل الثأر بقتل أربعة أشخاص من الطرف الذي بدأ بالاعتداء، فضلًا عن الحصول على عشرة أكياس على سبيل الدية. كما منع همام أهالي القريتين من عبور الترعة التي تفصل بينهما، وأعلن أنه سيُنزِل عقابًا شديدًا بالمخالفين. وفي سوق الأحد الأسبوعي، سيلتزم الطرفان بشراء حوائجهم دون أن يعتدي أي منهم على الآخر، ويقع على المخالفين عقابه الشديد.

وكان نواب همام في إدارة التزام هاتين القريتين هم المنوط بهم إنزال العقوبات على المعتدين. وافق شيوخ القريتين على المعاهدة راضين بشروطها، وجرى تسجيل عقدها الملزم في المحكمة الشرعية بإسنا.

استقطب همام في نظامه السياسي نخبة بارزة في الصعيد وهم الأشراف، وهم عرب يعودون بنسبهم لنسل النبي (ص). احتكرت بعض عائلات الأشراف المناصب القضائية في محاكم قنا الشرعية في ظل إدارة شيخ العرب. على سبيل المثال، شغل فقهاء الشريعة من عائلة حباتر أو "الحباترية" وحدهم المناصب القضائية في محكمة إسنا الشرعية طيلة القرن الثامن عشر، وتوارثت تلك العائلة هذه المواقع لفترة طويلة امتدت حتى حكم محمد علي باشا في القرن التاسع عشر.

في عام 1692، كان القاضي أحمد بن على حباتر هو خليفة الشرع أو القاضي الرسمي في محكمة إسنا، ثم انتقل المنصب إلى ابنه ووصل إلى حفيد ابنه في عام 1839. تمتعت عائلة حباتر بثروات طائلة بفضل هذه المكانة المتميزة، واستثمرت أموالها في النشاطات الاقتصادية واقتناء الدور والأطيان.

مارس همام نفوذًا سياسياً كبيرًا على النظام الحاكم في القاهرة، ورضخ الوالى العثماني لمطالبه حتى لو كانت على حساب النخبة العسكرية المملوكية. وقد قص علينا الجبرتي إحدى الحوادث الكاشفة في هذا الشأن. رهن همام أراضي قرية بناحية برديس بسوهاج لضابط مملوكي هو إبراهيـم جاويـش، ونَصَّ عقد الرهن على أن همام سيتنازل عن حقوقه في هذه القرية "تحت مبلغ معلوم لأجل معلوم".

إلا أن همام لم يدفع القرض في الميعاد المحدد ورفض أن يتنازل عن القرية. ثم أرسل مبعوثًا إلى الوالى العثماني في القاهرة مطالبًا إيَّاه بعدم إصدار أي مرسوم يعترف بحق الضابط المملوكي في الأراضي المرهونة. وهدد بأنه لو أصدر الوالي مثل هذا المرسوم فإنه سيوقف إرسال "المال والغلال" إلى القاهرة. وكان النتيجة، كما يقول الجبرتي، أن الضابط المملوكي لم يتمكن قَطّ من وضع يده على أراضي القرية.

 

 

أمام مقام همام الهواري

في غضون ذلك، وشج الأمير همام علاقاته مع فصائل المماليك المتمردة في القاهرة، وتآمر معهم للإطاحة بالوالي العثماني. اختار همام التحالف مع جناح القاسمية، فاحتفظ بصداقة متينة مع صالح بك القاسمي، أمير الحج وأحد كبار الملتزمين في أراضي شمال الصعيد الوقعة خارج زمام همام. تولي القاسمي تسيير أعمال همام في القاهرة، كما مكث جنود الضابط المملوكي المرموق لفترات طويلة مع جيش الهَوَّارة في الجنوب، وتشرَّبوا بأخلاقيات وأعراف القبيلة العربية وتعلموا لغتها.

اعتاد همام أن يرسل الهدايا إلى صديقه، فبعث ذات مرة خلال موسم الحج هدية مكونة من 300 ناقة، وغيرها من السلع للقافلة المرتحلة إلى بلاد الحجاز عن طريق ميناء السويس. وعندما اضطر صالح بك للفرار من القاهرة بسبب الصراعات السياسية هناك، منها ما كان مع علي بك الكبير حاكم القاهرة، لجأ إلى همام في الصعيد مع جنوده الذين تشبهوا بالعرب وتحدثوا لغتهم وأضحوا مقاتلين في جيش شيخ العرب.

ويروي الجبرتي أن صالح بك "ركب بجماعته ليلًا وسار إلى جهة البحيرة وذهب مـن خلـف جبـل الفيـوم إلـى جهة قبلي فوصل إلى منية ابن خصيب، فأقام بها واجتمع عليه أناس كثيرة من الذين شردهم علي بك ونفاهم في البلاد، وبنى له أبنية ومتاريس، وكان له معرفة وصداقة مـع شيخ العرب همام وأكابر الهَوَّارة وأكثر البلاد الجارية في التزامه جهة قبلي. واجتمع عليه الكثير منهم وقدموا له التقادم والذخيرة وما يحتاج إليه". وبعد استقراره في الصعيد، دَبَّر الزعيمان، همام وصالح بك، انقلابًا عسكريًا ناجحًا ضد الوالي العثماني في القاهرة.

جرت وقائع الانقلاب المتسارعة كالتالي. في منتصف ستينيات القرن الثامن عشر، دعم شيخ العرب الفصيل الأكثر راديكالية ضد السلطان في القاهرة، حيث ساند التمرد الذي قاده والي المحروسة آنذاك على بك الكبير. نجح هذا الانقلاب بفعل التحالف الثلاثي ما بين على بك الكبير والمماليك القاسمية والأمير همام. عندما اشتدت وطأة القتال على علي بك في القاهرة، فرَّ إلى الصعيد حيث وجد ملاذه عند الأمير همام الذي لم يبخل عليه بالمدد، وساعده في خططه الانفصالية عن السلطنة.

كان همام في ذلك الوقت بالفعل يأوي متمردي القاسمية، وعلى رأسهم صديقه صالح بك، وأدمجهم في جيشه الخاص. وعندما وصل علي بك للصعيد، توسط همام لحل الخلافات بينه وبين القاسمية لأجل تأسيس جبهة موحدة. وبهذا اجتمع عند همام الفريقان وكان هو ثالثهما في الخروج على السلطان، وامتنع شيخ العرب عن إرسال الحبوب والنقود للقاهرة وإسطنبول. كان الدعم العسكري والمالي الذي قدمه همام حاسمًا لتمكين على بك من خلع الوالي العثماني في عام 1768والسيطرة على القاهرة وكل الدلتا.


طاعون إمبريالي وعصيان جديد

 

ارتكب القائد الأسطوري همام خطًأ فادحًا عندما ساند انقلاب علي بك الكبير، فقد أودى هذا الانقلاب في النهاية بحياة شيخ العرب، وسقوط جمهورية الهَوَّارة في مجملها ومعها نظام الدولتين. وعلى إثر هذا الانهيار، تدخلت السلطنة العثمانية وأسست نظامًا موحدًا في القاهرة، يحكم كل أنحاء البلاد بشمالها وجنوبها. وبهذا عادت الإمبراطورية مرة ثانية لفرض نفسها على سياسات الصعيد، ولكن لن يمضي وقتٌ طويل حتى يظهر الطاعون ويندلع تمرد آخر في الجنوب. 

بمجرد أن أحكم علي بك الكبير السيطرة على مقاليد الحكم في دولة الشمال، نظر إلى سلطة شيخ العرب همام على أنها خطر مقيم ولابد من هدمها. اتهم على بك الكبير همام بتوفير الملاذ لمماليك آخرين متمردين ضد القاهرة. وفي 1769، أرسل قواته للقضاء عليهم مع  تقويض سلطة همام.

أوضح الجبرتي أن جيش على بك عقد تحالفًا سريًا مع أحد أبناء عمومة همام، الشيخ إسماعيل أبو عبد الله، الطامح إلى السلطة. حارب الشيخ إسماعيل في صفوف المماليك بعدما استمالوه. وقال الجبرتي إن على بك الكبير: "استماله ومناه وواعده برياسة بلاد الصعيد عوضًا عن شيخ العرب همام، حتى ركن إلى قوله وصدق تمويهاته، وتقاعس وتثبط عن القتال وخذل طوايفه".

وبسبب تلك الخيانة، تعرض جيش شيخ العرب همام لهزيمة غير متوقعة، واضطر للانسحاب من فرشوط وهرب جنوبًا إلى قرية قامولا. ولاحقاً في العام نفسه بهذه القرية، مات همام مكمودًا مقهورًا على فراشه عن عمر يناهز الستين عامًا. وتم حمل أبنائه إلى القاهرة لعرضهم على العامة في الشوارع، كدليل على انتصار المماليك.

وبهزيمة شيخ العرب "خلص الإقليم المصري بحري وقبلي إلى علي بك وأتباعه". لم يكتف على بك الكبير بهذا، بل عمد إلى المزيد من إذلال الهَوَّارة بمصادرة معظم التزاماتهم من الأراضي. وحسب الجبرتي: "وصل محمد بك [أبو الذهب] ومن معه إلى فرشوط، فلم يجدوا مانعا فملكوها ونهبوا وأخذوا جميع ما كان بدوائر همام وأقاربه واتباعه من ذخائر وأموال وغلال".

وبرغم احتفاظ بعض كبار الهَوَّارة ببعض الالتزامات الكبيرة؛ إلا أن سلالتهم الحاكمة فقدت سلطتها، ولم تجلس القبيلة على مقاعد الملك مرة أخرى للأبد. وفي وصف ذلك قال الجبرتي "زالت دولة شيخ العرب همام من بلاد الصعيد من ذلك التاريخ كأنها لم تكن".

 

أحفاد شيخ العرب همام  

أما عن دولة على بك الكبير المستقلة عن إسطنبول نفسها، فإنها لم تستمر أكثر من بضعة سنوات، حتى جاء الجيش العثماني لاستعادة السيطرة الكاملة على مصر في عام 1773. وضع السلطان العثماني مصر كلها، بما فيها الصعيد، تحت حكم نظام مملوكي جديد. ألغت إسطنبول ترتيبات الدولتين بعد ثلاثة عقود من وضع أُسسه، وسُمح للنخبة العسكرية المملوكية في القاهرة بأن تفرض سطوتها على أراضي الالتزام والتجارة والنظام الإداري في الجنوب. وبهذا ولد نظام الدولة الموحدة في مصر، منهيًا فترة الحكم الذاتي للصعيد التي دامت نحو ستة قرون، من بداية العصر المملوكي وأثناء العصر العثماني.

أدى انهيار نظام الهَوَّارة الحاكم إلى تَمزّق فوري للعقد الاجتماعي القائم بين القبيلة الحاكمة والأهالي في الصعيد. وتحت نير حكومة الضباط المماليك الجديدة، عاني الصعيد من الفوضى السياسية والقمع. إلا أن الأهالي لم يقفوا مكتوفي الأيدي، فقد أعلنوا العصيان سريعًا متبعين وسائل عدة للمقاومة.

بعد أربع سنوات فقط من وفاة الأمير همام، تحدى مجموعة من الفلاحين العرب في قرية البصيلة نظام الحكم الجديد، وذيول ملتزمي الهَوَّارة برفض دفع الخراج المالي والعيني في شكل غلال المطلوب منهم. توسط شيوخ القرى الأخرى بين فلاحي قرية البصيلة والملتزمين، مهددين بأن الحكومة ستعاقبهم بتدمير منازلهم. وفي الوقت نفسه، حين قلّص المماليك المبالغ المدفوعة لبدو العبابدة التي كانوا يتحصلون عليها من أجل حماية القرى وطرق التجارة، رد العبابدة على الفور بمهاجمة المسافرين والإغارة على القرى وسلبها، قبل أن يشنوا حربًا شاملة على المماليك.

كان دحر العبابدة في القتال أمرًا شبه مستحيل على المماليك، ذلك لأن أفراد القبيلة محاربين شديدي المهارة. فبعد كل هزيمة، كان المتمردون منهم يعيدون جمع أنفسهم مرة أخرى خلال أيام قليلة، ليعيدوا كرة القتال بشكل أشد عنفًا ضد النظام الإمبريالي الجديد.

ضرب الطاعون مصر مرَّة أخرى خلال السنوات ما بين عامي 1784 و1792، وفي تلك المرة وصل حتى الصعيد، بعد أن لم يكن هذا الوباء القاتل قد أصاب الجنوب منذ خمسة قرون كاملة خلت. ذكر طبيب فرنسي من تلك الفترة أن الطاعون عندئذٍ، كان بمثابة ظاهرة بيئية "غير معروفة" في الصعيد، أي لم يكن يصله عندما ضرب جيرانه في شمال مصر. فمنذ ظهور الطاعون الكبير الذي اكتسح البلاد في القرن الرابع عشر، لم يجد الوباء سبيله مطلقاً إلى الصعيد، بفضل كفاءة حكومة الهوارة، أو إدراتهم الرشيدة للأراضي والموارد المائية في دولتهم بشكل حافظ على أمور الصحة العامة.

وطبقاً لما سجله المراقبون الأوروبيون في هذه الفترة، فإن المناخ الحار والجاف للصعيد جعل من الصعوبة على الطاعون أن يصل إليه، في حين ظلت القاهرة وساحل البحر المتوسط  أكثر عرضة للإصابة وانتشار المرض. ولكن أوضح تقرير بريطاني نُشر في أوائل القرن التاسع عشر، أن تلك الموجة من الوباء التي ظهرت بمصر في نهاية القرن الثامن عشر خرجت بالأساس من الصعيد، لتقتل الآلاف في موسم واحد فقط.

وفقًا لملاحظات الكولونيل ويلسون عن الأمر: "ساد لفترات طويلة الاعتقاد أن الطاعون قدم من تركيا عبر السفن المحملة بالملابس القديمة، والتي حضرت بانتظام إلى الإسكندرية من سوق ما، ولكن تفشى الطاعون في مصر بشكل سنوي طيلة الأعوام الأربعة الماضية (بالرغم من عدم حدوث تواصل مع سفن تركية).. وبدأ انتشاره بشكل أساسي من صعيد مصر.. قضي 60 ألف من السكان نحبهم في صعيد مصر  [في العالم السابق].. لقد أباد المرض قرىً بأكملها".

ونستطيع أن نصف موجة الوباء هذه في الصعيد بأنها كانت طاعونا "إمبرياليًا"، تفشى بالأساس بسبب ممارسات النظام السياسي الجديد الذي أقامته الإمبراطورية بالجنوب بعد سقوط جمهورية شيخ العرب الأمير همام.

اقرأ أيضًا: سينما الصعيد الغائبة.. "رفاهية ضرورية"