ميدان التحرير يوم 11/ 11

مُتَرْجَمْ| المظاهرات الخفية في 11/11

منشور السبت 12 نوفمبر 2016

 

ينشر المقال بالإنجليزية في صحيفة ميدل إيست آي 

"هذه أكبر كمية من الأسلحة صليت إلى جوارها في حياتي". هذا ما قاله لي هيثم التابعي مراسل وكالة الأنباء الفرنسية في القاهرة. "عدد رجال الأمن المتواجدين في الصلاة يفوق عدد المدنيين من المصلين". إلى هذا الحد وصل خوف الحكومة من مظاهرات مُعلن عنها ليوم 11/11.

في مصر التي يحكمها عبد الفتاح السيسي قد يرتفع الغضب يوميًا، لكنه لا يزال بعيدًا عن نقطة الغليان.

أترى، عندما يختلط الخوف بالغضب، في وجود قبضة حديدية كتلك التي يحكم بها السيسي؛ فإن للخوف الغلبة، حتى اللحظة التي يتسع فيها الإناء الذي يمتزجان فيه.

ورغم أن تبعات خفض الجنيه مؤخرًا كانت لها أثار مدمرة على ملايين المصريين، إلا أن المعارضة غير المنظمة لم تدعم الدعوات المنادية لانتفاضة يوم غضب. تلك الدعوات التي يلف الغموض حقيقة مصدرها.

محاولة فهم لماذا كانت مظاهرات أمس "خفية"، أمرٌ لا يقل أهمية عن فهم الوضع لو أن مئات الألوف اخترقوا حاجز الخوف ليُسمِعُونا أصواتهم.

مصدر غامض

لأسابيع مضت، ظلت دعوة عالية الصوت، لكنها –للغرابة- تحت مستوى الرصد في الوقت عينه، أطلقها رجل يدعى ياسر عمدة، مؤسس "حزب ثوار التحرير" والمتحدث باسم "ثورة الغلابة" تتردد، داعية الناس للخروج في مظاهرات يوم 11 نوفمبر/تشرين ثان.

العديدون في دوائر الثوريين والنشطاء، بمن فيهم كاتب هذه السطور، كانت لديهم شكوكهم حول هذا الرجل، وحول الأهداف المعلنة لهذه التظاهرات.

ورغم ذلك، أتى موعد تلك التظاهرات بعد 8 أيام بالكاد من قرار تعويم الجنيه المصري، الذي انخفض حوالي 48% أمام الدولار، ما جعل الأنظار كلها تتجه لما يمكن أن يحدث في هذا اليوم. 

ولكن، الأسئلة كانت أكثر من الإجابات. لماذا هذا الحزب؟ من ذلك الشخص؟ لو أن تلك الدعوة حقيقية، لماذا لم تصطف وراءها أحزاب المعارضة الكبرى؟ هل سيستجيب "الغلابة" الذين يستهدفهم اليوم؟

هل أطلقت أجهزة الأمن تلك الدعوة كواجهة، في محاولة منهم لاصطياد ما تبقى من المعارضة الممزقة؟

هدير الهمسات

 

البعض قد يجادل –ولديه الحق- في أن الثورات لا تعلن عن نفسها. ولكن في المقابل، فالمتابع العقلاني سيشير إلى ثورة 25 يناير التي كانت –بالفعل- منظمة ومعلن عنها قبل اسابيع على فيسبوك وتويتر ويوتيوب.

وكما تجد أجهزة المخابرات طريقها بين الناس لتقيس "المزاج العام في الشارع"، كذلك يفعل النشطاء والصحفيون والمحللون.

وخلال هذا الأسبوع الأخير، عادت صدى تلك الهمسات المسموعة المنادية بالتظاهر، بردود تتراوح بين: "هذه الدعوات فخ يعده الأمن" و" الناس غاضبون، وأنا أعرف العديدين في دوائري ينوون الخروج للتظاهر في الشارع". 

قبل خمسة أيام من 11/ 11، كان هناك حس متزايد بإلحاح تلك الهمسات، كما قالت لي مصادر في القاهرة. لم يكن هناك شيء مؤكد، ولكن الغضب كان يجري التعبير عنه خارج النقاط الإسلامية المعتادة.

حتى في دوائر داعمة للحكومة بطبيعتها، تُروى قصص عن نساء في دوائر حكومية يتحدثن دون مواراة وبغضب معلن عن قفزات الأسعار التي تسبب فيها قرض صندوق النقد الدولي. هذا وحده تطور كاشف.

انتشار الألم

خلال الأسبوع المنتهي، لخص عنوان نشرته رويترز، المناخ السياسي والاقتصادي الذي تلا انخفاض الجنيه: "مصر تواجه الألم قبل المكسب بعد انخفاض حاد في قيمة عملتها المحلية". 

قصص الألم هذه ملأت المناقشات اليومية، وبشكل يدعو للقلق؛ لم تتوقف عند الدوائر الواسعة للملايين الهشة التي طحنها الفقر، بل امتدت لقلب الطبقتين المتوسطة و المتوسطة العليا كذلك.

بداية من تقارير حول أسعار الخبز التي ارتفعت 25 قرشًا (33%) في بعض المناطق، مرورًا باختفاء الأدوية بسبب الارتفاع الكبير في أسعار الدولار، ووصولاً إلى الارتفاع الذي يصعب تخيله في تكلفة التعليم.

كونها واحدة من أغلى المؤسسات التعليمية في الشرق الأوسط، لم يوقف الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن رفع مصروفات الدراسة من 110 آلاف جنيه إلى 200 ألف جنيه مرة واحدة. "أبويا مش حرامي.. إنت الحرامي" هتاف علت به حناجر طلاب الجامعة بينما يتظاهرون ضد إدارتها".

الآن تخيل معي مجتمعًا يبلغ متوسط أجور غالبيته (قبل تلك الإجراءات) ما يزيد قليلاً على 2 دولار يوميًا، وحينها يمكنك تصور درجة الألم التي يعانونها الآن.

عندما يندلع الانفجار- والأمر لم يعد إن كان سيندلع، بل السؤال حول متى وبواسطة من- سيكون الاقتصاد هو محوره.

من الأكثر خوفًا

 

 إذن لم فشلت دعوات التظاهر في التحول لواقع لو كان الغضب يغلي وسط قطاعات عديدة؟

في البداية 11/11 لم تكن حركة عضوية. الفقراء في دولة مثل مصر وتحت هذه الظروف بالغة الصعوبة ليسوا منظمين، وغالبًا، غير متعلمين. هدفهم ليس الثورة، ولكن البقاء على قيد الحياة. والدفع بأي شيء آخر هو مجرد خداع للنفس.

هذه الحقيقة المهمة لا تخفى على النشطاء والثوريين في مصر، ولهذا السبب تحديدًا، ارتفع الشك في هذا اليوم الذي ربما نظمه معاونو المسؤولين عن هذه الإجراءات الاقتصادية المجحفة.

 

قوات أمن تجول في شوارع الجيزة في الذكرى الخامسة لثورة يناير

شوارع القاهرة الفارغة والمساجد التي حوت من المسدسات ما يزيد على عدد المصلين تقدم لنا سببًا آخر لـ"فشل 11/11". الخوف من بنادق النظام سبب منطقي لفشل التظاهرات.

لو ان مصر مستقرة، ولو أن الغضب قليل، لماذا بلغ عدد المدرعات والعربات المسلحة ما يفوق عدد المارة في شوارع القاهرة يوم الجمعة؟ اليوم الذي تبدأ فيه العطلة الأسبوعية ويخلِّف المصريون العمل وراءهم.

عديد من التقارير الصادرة في الصحافة العالمية والمصرية، نشرت صورة الصمت وفراغ العاصمة ونقلت الكاميرات شهادتها عن الخوف البادي. أما أصحاب النفوس الشجاعة الذين توجهوا إلى وسط القاهرة عقب الصلاة، فاستوقفتهم قوات الأمن واخضعتهم للتفتيش.

المظاهرات القليلة التي نجحت في الخروج في البحيرة شمال البلاد، وفي المنيا جنوبها، وفي الدقهلية والأسكندرية، قوبلت بالاعتقال وإطلاق الرصاص المطاطي وتم تفريقها بسرعة. لا يُقارن هذا حتى بيوم جمعة عادي في السنة التي تلت الإنقلاب العسكري في 2013.

أمس؛ فشلت رباعية رقم 1 (11/11) بسبب الذعر وقلة الثقة التي سادت اليوم. تبخر أثر 11/ 11 لأن الناس شكوا في نوايا منظميها، ولثقتهم في بطش نظام مرتعش، لجأ لتحصين نفسه بنشر قواته في الشوارع وكأنه يواجه حربًا مفتوحة في الطرقات.

حالة الأرض الخالية من البشر التي شهدناها تطرح سؤالاً: هل الحكام خائفون أم أنهم يسعون لزرع الخوف؟ الإجابة في مصر المبتلاة دومًا: الاثنين.

تحت الرماد

 

ما شهدناه لن يكون نهاية القصة، فلا يستقيم ذلك مع وجود 27 مليونًا تحت خط الفقر بالفعل؛ و4 ملايين آخرين متجهين إلى نفس النطاق بتأثير مباشر من إجراءات الإصلاح المرتبطة بصندوق النقد الدولي.

أمس، كان مجرد يوم آخر في حياة أمة تترنح على حافة جبل من المشاكل.

السؤال أيضًا: هل على المعارضة المصرية الاستمرار في تفتتها- وهي حالة طبيعية في ظل وجود 60 ألف سجين ومعتقل سياسي يذوون في سجون السيسي- من الوارد أنه عند وقوع المواجهة، فستكتب سطورها الفوضى في الشارع عوضًا عن هؤلاء ذوي الأجندة السياسية، الذين قد يكون بأيديهم تقديم الحلول. الغضب غير المحكوم – كما يُظهِر لنا التاريخ- هو نيران تحرق الأبرياء كما تنال من المذنبين.

مع ارتفاع الأسعار وتلاشي شبكات الأمان الاجتماعي بفعل الفساد، ورؤية اقتصادية محلية يمليها صندوق النقد الدولي، صاحب التاريخ الطويل في الإغراق عوضًا عن الإنقاذ، فإن الموقف في مصر الآن: هو أن الغضب يرتفع، وإن لم يصل بعد إلى درجة الغليان. هذا الموقف أكثر تعقيدًا وأقل استقرارًا مما كان عليه الوضع في أية مرحلة سابقة.

لو اختارت الحكومة أن ترى فراغ الشوارع أمس من المظاهرات، كعلامة على قبول التعويم الذي أحرقت نيرانه كل قطاعات المجتمع تقريبًا؛ فإن الأيام تختزن لها مفاجأة لن تتمكن تلك الحكومة من مجابهتها.

لكل شخص تراجع عن الخروج اليوم؛ هناك عشرة آلاف آخرين ينتظرون اللحظة المواتية. هم أناس لا يبحثون عن ثورة؛ بل يبحثون عن إجابات. وكلتاهما .. الثورة والإجابات: يصعب العثورعليهما الآن.

أحيانًا يكون الصمت صراخًا..