مُتَرْجَم| آثار مصر.. حيث يسري الفساد كماء النيل

منشور السبت 29 أكتوبر 2016

عندما يتعلق الأمر بجمال وتنوع موروثها الأثري، فإن مصر،فعلاً، قوة عظمى. ولكن الدرجة التي أهمل بها استغلال تلك الكنوز تثير للغثيان. الدولة التي كانت يومًا مهدًا للحضارة وتقع في مفترق طرق العالم القديم، تنزف الآن من رصيدها في الإقبال السياحي، في الوقت الذي تحتاج فيه للعملة الاجنبية أكثر من أي وقت مضى. رغم أنها تحوز بعض أجمل الآثار الإسلامية والتحف المعمارية في العالم، بالإضافة للأهرامات الخالدة، وكان المنطقي أن تكون مصر هي القبلة الأولى للسياحة في العالم؛ إلا انها عوضًا عن هذا؛ تقع في ذيل قائمة الدول التي تستقبل السائحين. وعلينا أن نزيح الكثير من طبقات غبار التصريحات، حتى نكشف عن الوجه الشائه لتلك الحالة التي وصلت إليها مصر.

الأرض التي يجري فيها النيل عطشى للسائحين. قبل أن تندلع الثورة في البلاد، تلقت مصر 14.73 مليون سائح عام 2010، بزيادة 2.2 مليون سائح عن العام السابق عليه، تبلغ تلك النسبة 17.5%.

في البداية قتل الجيش سائحين مكسيكيين في الصحراء من باب الخطأ، ليدمر هذه الصناعة على الأقل في المدى المنظور. تلا ذلك ثلاثية إرهابية كان لها أثرها: تفجير الطائرة الروسية في أكتوبر/تشرين أول 2015، ثم اختطفت طائرة مصرية في مارس/ أذار التالي، تلاها سقوط طائرة مصرية أخرى -بما يحتمل أن يكون هجومًا إرهابيًا- في مايو/ أيار من العام نفسه.

لذا؛ فلا يجب أن يفاجئنا كون السياحة انخفضت بنسبة 51% في النصف الأول من هذا العام، عن مثيله العام الماضي. قبل تلك الهجمات المُزلزلة، كان عدد السائحين قد تراجع بالفعل ليبلغ رقمًا مخيفًا وهو 9.3 مليون سائح في 2015، يمكننا أن نتخيل إذن ما الذي ستنتهي إليه 2016.

   سالي سليمان؛ موسوعة متنقلة لروعة هذه الكنوز. باعتبارها حائزة على بكالريوس في الإرشاد السياحي، وصاحبة 27 عامًا من الخبرة في هذا المجال، وهي خبيرة في الآثار الإسلامية والفرعونية. لذا فعندما تقول هي: "معندناش حلو ووحش. عندنا سيء وأسوأ"  يستمع إليها الناس. تخيل تلك الكنوز القومية يهاجمها الهواء والصدأ والمياه الجوفية وسط تجاهل رسمي، ويتضافر عدم الاكتراث مع قلة التعليم والفساد في إحداث الضرر الباقي.

لا يهم.. لدينا الكثير من تلك الأشياء

 

عندما يدع لك التاريخ هذه البدائع على عتبة بيتك، يجب أن تكون رؤيتك أفضل من ذلك. الكنوز تُسرَق. تُعطي سالي سليمان مثلا صارخًا يعود تاريخه لعام 2010: بشكل ما، في منتصف الليل، تمت سرقة منبر مسجد قاني باي البالغ وزنها 100 كيلوجرام، والتي يزيد طولها عن خمسة أمتار. تقسيم المنبر -كي يمكن نقله- كان لابد أن يلفت الأنظار؛ ولكن من الواضح أن العديدين قرروا أن يشيحوا بأنظارهم حتى تقع الواقعة. وحتى يومنا هذا؛ لا يزال من نفذوا تلك السرقة أشباحًا.

إذن من المسؤول؟ إلقاء مثل هذا السؤال حول المسؤولين في المناصب العليا في وزارة الآثار ووزارة الأوقاف (المسؤولة عن المساجد)، جعل من سالي سليمان شخصًا غير مرغوب فيه. فالمسؤولية عن المسجد الذي سرق منه المنبر موزعة بين وزارة الأوقاف التي تشرف على المساجد الأثرية من الثامنة صباحًا وحتى الثالثة مساءًا، ثم وزارة الآثار المسؤولة عن المساجد من الثالثة مساءًا وحتى الثامنة من صباح اليوم التالي.

تبادل إلقاء المسؤولية رياضة محببة في مصر، والوزارتان المعنيتان من أبطال تلك الرياضة. تخيل لوريل وهاردي يتبادلان اتهام بعضهما البعض؛ وسيمكنك الإلمام بالصورة.

السيد "س" – مفتش آثار ذو خبرة عريضة. يقول السيد "س" الذي سندعوه بهذا الاسم لحمايته: "الكارثة لا تتركز في القاهرة"، مشكلات الآثار تمتد من سيناء جنوبًا نحو الأقصر، وتظهر في مدن كـ"بنها".

يرتجف صوته انفعالاً وهو يروي ما حدث في السبعينات، عندما اكتُشِفَت آثار يونانية ورومانية في مدينة بنها "شمال القاهرة"، ولكن سرعان ما جرى توقيع أوراق تنزع الإشراف على الموقع من يد وزارة الآثار، وظهرت أوراق أخرى تمنح ترخيصًا ببناء ستاد في موضع الخبيئة الأثرية المُكتَشَفة. بعدها بسنوات، وجد مفتشنا في الموضع نفسه آثارًا يجري استخراجها. 

ومما يحبط المفتشين أمثال السيد "س"، أنهم يلعبون دورًا محدودًا في دفع تلك الجرائم التي تجري في مجال عملهم. فلو تمكن مفتش في التوصل إلى شخص ينقب عن الآثار الفرعونية بطريقة غير قانونية مثلاً؛ فلا يملك المفتش سوى الاتصال بالشرطة، لا يمكنه حتى أن يصدر مخالفة بحق المنقب غير الشرعي عن الآثار. و"بمجرد تدخل البوليس ينتهي الموضوع، فالشرطة غالبًا لا تلقي القبض على أحد، وإذا فعلت؛ فالقانون مليء بالثغرات، التي يمكن لأي محامي متوسط أن يستغلها".  

كان الكشف في القليوبية، حمامات يونانية جميلة التفاصيل. عندما تدخل المرممون المصريون في الأمر، كانت النتيجة بالغة القبح "لا يوجد أي أثر لتلك التفاصيل الجميلة الآن"، قالها السيد "س" بحزن.

النقص الفادح في التدريب، تسبب في أن بعثات التنقيب الأجنبية لم تعد لديها ثقة في مفتشي الآثار المصريين "ولديهم كل الحق في ذلك". يتذكر الباحثون الأجانب أن هؤلاء المرممين المحليين هم من ألحقوا الضرر بقناع توت عنخ آمون في 2014.

وكنتيجة لتراجع الثقة والتعاون؛ يبقى هؤلاء المرممون بلا خبرة تُذكر. وتوجد قصص يشيب لها الولدان عن الفساد في أوساط مفتشي الآثار ذوي المناصب العليا، وعلاقتهم بلصوص الآثار المحترفين في بعض الحالات أكثر مما يُحصى. الخلاصة: "لا أحد يستطيع أن يشيد أي مبنى إلا إذا تمت إزالة الآثار من الأرض، لذا يتكفل بعض المال و(عشوة كباب) بحل تلك المشكلة".    

أثر "عشوة الكباب"

 

السرقة وباء يحصد الآثار. تفجرت هذه الحقيقة في وجوه الجميع في عام 2009، عندما "تضاعفت السرقات في 2010.. ثم تضاعفت مرات أخرى" بعد الثورة، وذلك وفقًا لما تشير إليه بيانات الأقمار الصناعية التي حللها علماء بجامعة ألاباما، والمجموعة في الفترة بين 2002-2013.

الأساتذة والأثاريون بالجامعة يعتبرون تلك الجريمة "ذات حجم مذهل". في ألاباما يدرسون الجريمة على نطاق واسع، بينما توثقها سالي سليمان على نطاق ضيق. تشرح سليمان: "عشرات المواقع الأثرية تعرضت للنهب"، بعض المسروقات أخذت طريقها لأوروبا، وبعضها الآخر طار إلى الولايات المتحدة، لكن الفن الإسلامي على وجه الخصوص، وجد طريقه لمنطقة الخليج المجاورة. نصيب الأسد انتهى إلى المقتنيات الخاصة لبعض أثرياء السعودية وقطر والإمارات. ولكن بلا أدلة قوية؛ لا أمل لدى مصر في استعادة هذه الكنوز المسروقة الخاضعة لحراسة لصيقة من ملاكها الجُدد.

وهناك مشكلة لا تقل خطورة؛ وهي ترك العديد من المواقع الأثرية بلا اهتمام أو حراسة، أو تركها في يد أطقم عمل غير مدربة، بينما يقول المسؤولون لأثاريون مثل سالي سليمان: "بلا سياحة ليس لدينا مال يكفي للاهتمام بتلك الآثار". الإنطباع الذي لا يقبل جدلاً؛ هو أن بعض هؤلاء المسؤولين- وبشكل لا يُصدَّق- لا يمانعون في اختفاء بعض الآثار. قال أحد هؤلاء المسؤولين لسالي سليمان في حديث خاص: "ليت بعض هذه الأثار تختفي حتى يخف العبء الملقى على أكتافنا".    

  مصر لا تساعد نفسها. تقول سليمان: "حاول العثور على بيت أثري إسلامي (للإيجار لمحتفل علمي)، وستجد الإيجار يرتفع فورًا لما يبلغ 30 ألف جنيه يوميًا". هو ذات المنطق العقيم الذي جعل الدولة ترفع رسوم العبور من قناة السويس، كي تعوِّض انخفاض حركة الملاحة بها، والنتيجة؟ المزيد من السفن باتت تلجأ لطرق بديلة أرخص، لتكلف مصر المزيد من نزيف العملة الصعبة التي تحتاجها بشدة. نفس الأمر مع السياحة: كيف لك أن تفرض مثل هذه الأسعار العالية في وقت يتراجع فيه الطلب إلى أدنى معدلاته؟ وبينما تفتقر معظم تلك المواقع الأثرية لأبسط الخدمات.  

ابتسامة وبعض العلاقات الشخصية، وبضعة جنيهات في يد حارس؛ تعطيها فرصة الدخول للعديد من المواقع الأثرية حتى تتمكن من التوثيق. ولكن تحت تأثير المناخ السياسي الوحشي الذي تمر به البلاد؛ فإن التصوير في الأماكن الخربة يهدد بالسجن لمن يلفت الانتباه للإهمال أو الفساد والبيروقراطية المصرية، التي تسري ببطء كالعسل الأسود.

"بأفكر 9000 مرة قبل ما أروح مكان أصوره.. عليّ التحللي بالذكاء" أو ستخاطر بأن يلقى القبض عليها. هكذا تكتب سالي سليمان على مدونتها "البصَّارة". لكنها تقدم على بعض المخاطر التي تسجلها في مدونتها، التي توثِّق فيها كل ما تتوصل إليه هي ومساعدها الذي تثق به محمد سليمان. لا قرابة بينهما؛ بل هو زميل في الهوس والخبرة بالتاريخ.  

دواء مُر

مصر في هوة اقتصادية غير مسبوقة. دخلها من السياحة كان يبلغ 12.5 مليار دولار في عام 2010، لكنه هبط إلى 5.9 بنهاية 2013. عودة هذا الدخل المقود سيصنع الأعاجيب في اقتصاد يفقد داعميه الأساسيين في الخليج، بينما تنسحب السعودية لدرجة دفعت السيسي لأن يقول في وقت مبكر من الأسبوع الماضي: "كفاية اعتماد على أشقائنا العرب". 

 حتى نستعيد تلك الأموال، علينا أن نقوم بعدة خطوات تحددها سالي سليمان في ثلاثة أشياء يجب ان تحدث حتى يزدهر قطاعا الآثار الإسلامية والفرعونية:

  1. ان نعترف بأن هناك مشكلة.
  2. أن نتخلص من الفساد "الموجود في كل ركن ومع كل نَفَس".
  3. خطط طويلة ومتوسط الأجل للإصلاح.

سليمان على حق، ولكن هناك أشياء أكثر من ذلك بحاجة للتغيير. فمصر ليست مجرد دولة تعاني الكساد، لكنها بلد تخطو خطوات ثابتة للخلف في كنف الثورة المضادة. في مثل هذا المناخ الذي يطوِّح فيه العجائز بالشباب بعيدًا لكونهم يمثلون التغيير. فالتغيير والثورة المضادة نقيضان لا يجتمعان. هناك في تلكما الوزارتين (الآثار والأوقاف) من لديهم رغبة صادقة في حماية تلك الأثار، من يرغبون في توثيق الفساد وإدانته. لكن صدق النوايا يطيح به تغير آليات العمل في الوزارات المعادية للتغيير.

الكارثة الاقتصادية التي جعلت الدولار يصل إلى 17 جنيهًا؛ يمكن استغلالها في اجتذاب السائحين مع قوة الدولار. ولكن في بلد تعاني من كراهية متنامية للأجانب يغذيها أنصار السيسي ذوي الخطاب القومي الزاعق؛ تصير هذه المهمة في حكم المستحيل. لو أن الاجنبي يُعّد عدوا؛ فكيف يمكنه أن يكون منقذًا كذلك؟ فعودة السائح للأماكن التي يجول فيها علماء الآثار ، مرهونة بالتغيير.

تمامًا كالبلد الذي تحويه، فإن عالم الآثار في مصر بحاجة لثورة تحمي محض وجوده.