في ذكرى المذبحة| "ماسبيرو" كاميرا تبحث عن شريك وسط القتل

منشور الأحد 9 أكتوبر 2016

8 أكتوبر 2011، كنت قد انتهيت أخيرًا وبعد شهور طويلة من العمل، إلى الوصول للنسخة النهائية من فيلمي التسجيلي الطويل "الثورة.. خبر"، وكنت أجهزها لتنتقل لأعمال ما بعد الإنتاج من تصحيح الألوان والعمل على شريط الصوت. أخيرًا؛ لا تعديلات ولا استرجاع لمشاهد العنف والاختناق التي تعرض لها أبطال الفيلم المصورين، الذين كانوا يغطون أحداث الـ 18 يوم الأولى في الثورة المصرية بكاميراتهم.

وأنا أتابع خروج النسخ النهائية من الفيلم؛ فاجأتنا الأخبار بحدوث اشتباكات عنيفة بين مسيرة للأقباط وقوات الجيش أمام مبنى ماسبيرو، وأن الإصابات عديدة في صفوف قوات الجيش. أجريت بعدها فورًا مكالمة هاتفية مع صديق متواجد بالقرب من الأحداث ليؤكد وجود إصابات قاتلة في صفوف المتظاهرين الأقباط. حملت الكاميرا وتحركت سريعا وكنت أبعُد دقائق معدودة عن المكان.

كان المكان يشبه ليل 28 يناير 2011. نفس الصراخ وأصوات الطلقات العشوائية، ورائحة الغاز التي تتجدد قبل أن توشك آثار القنابل المقذوفة سلفًا على التلاشي. تشابه تام حتى في ألوان الأصفر والأسود والظلام المسيطر على الأفق.

تمامًا كالمشهد الافتتاحي في فيلمي التسجيلي. وأنا أيضًا متواجد، وفي يدي كاميرا صغيرة. دقائق مرت من الربكة، أحاول التصوير لكن ذكريات الإصابة في 28 يناير/ كانون ثان تعيق حركتي.

 المشهد مُكرر بشكل مفزع، والرؤية ضعيفة أمام موقف "السوبر جيت" في ميدان عبد المنعم رياض. يشدني البعض هنا وهناك لأوُثِّق إصابات ودماء، يصرخ آخرون أمام الكاميرا "الجيش داس علينا بالدبابات"، يفتح البعض الآخر تليفونه المحمول وهو يبكي ليريني لقطات دهس حقيقة للمتظاهرين. تدريجيا أتمكن من التحكم في إيقاعي وأختفى وراء الكاميرا، أنسى الذكريات -بعد أن شاهدت ما لم أشاهده من قبل- وأنعزل خلف شاشة الكاميرا الصغيرة.

    

 يتقدم المتظاهرون، يزداد العدد ومعه أعداد المتضامنين، تزداد الوجوه المألوفة فأشعر نسبيا بالأمان: هوسي الأكبر دائمًا كان أن أسقط مصابًا ولا يعرفني أحد، أن أصبح مجرد جسد مجهول.

 تتعالى وسطنا صيحات انتصار ونبدأ في التقدم لمطلع كوبري أكتوبر المتجه ناحية الزمالك، يظهر أمامي، للمرة الأولى، بوضوح قوات الجيش، ومعهم قوات أمن مركزي في أعلى الكوبري وقد تراجعوا قليلا. تحمل القوات خليطًا من الأسلحة وقنابل الغاز، وحجارة يرميها بعض العساكر علينا. أصعد مع المتظاهرين لنصل لنصف المطلع تقريبا، أنظر حولي وأشعر أنني الآن اتسعت رؤيتي، واستطاعت عدستي أن ترى الجُموع تحت الكوبري صامدة.

يمر بجواري شابٌ أسمر يحمل كاميرا احترافية ويربط شعره بضفائر معقودة، كان يحمل وجها مألوفا وكأننا تقابلنا من قبل. تبادلنا الابتسامة في هدوء وتبادلنا معها الطمأنينة. ثوان مرت بعد الابتسامة، وسمعت صوت طلقة عالية وحيدة، وهواء ساخن يمر بجواري، قريبا مما سمعته في 28 يناير. ارتبكت، حاولت الاطمئنان على نفسي، سمعت بجواري صراخ عالِ، فوجدت الشاب ساقط علي الأرض، والدماء تسيل من أسفل وجهه وتزحف على الأسفلت.

كل ما تركته في بداية اليوم على الشاشة صار حاضرًا أمامي. أجلس بجواره سريعًا، أعدل جسده، أجد الطلقة قد اخترقت وجهه، والدماء تغطي الوجه الباسم تماما. جسده لا يتحرك ، عيناه نصف مفتوحتان لا تتحركان، كل علامات الموت عليه. حاولت أن أجعله يستفيق. صرخت شتمت وضربت صدره بيدي، وقف الجميع يشاهد والطلقات بدأ تزداد من حولنا، سحبته ومعي مجموعة ظلت معنا عند منتصف الكوبري.

 حملناه وتوجهنا به للأسفل، فجاءت لنا سريعا دراجة الإسعاف البخارية التي ابتكرها الشباب. وضعته بين السائق والمسعف، وانتبهت أن الكاميرا لا تزال في يده مربوطة، وقبضته لاتزال مغلقة عليها. انطلق الإسعاف المُرتَجَل، وبدأ الجميع في تداول القصة "قتلوا الشاب اللي كان بيصور هنا، ضربوه بالنار.. زميل الأستاذ". جلست على الرصيف عاجزًا تمامًا، تمر من أمامي إصابات واختناقات ووجوه باكية.

مدرعة تخرج من أمام فندق "هيلتون" وتُطلِق علينا كميات غاز مهولة، حاصَرَنا الغاز تماما، واستغلت قوات الجيش والشرطة ضباب الغاز لإطلاق وابل من الخرطوش. هربنا دون تحديد وجهة، فوجدنا أنفسنا امام بوابة مول هيلتون رمسيس في الشارع الجانبي. جذبنا من بالداخل لحمايتنا وأغلقنا الباب خلفنا.   

                           

أمام ماسبيرو- من أرشيف المخرج بسام مرتضى 

 المكان بالخارج استحالت فيه الرؤية، وبالداخل هرج ومرج ودماء علي أرضية المول، بكاء بصوت عال وجري في الطرقات، قساوسة يتصلون بقنوات فضائية و يستغيثون، وإشاعات لا تنقطع بأن اقتحام الجيش قادم. علي الباب من الخارج يقف مواطنين بأسلحة بيضاء يتشاركون الحديث والضحك مع قوات الجيش والشرطة، ويشيرون لنا في الداخل بعلامات القتل. يشير أحدهم بيده على معصم اليد راسمًا صليب وهمي ثم يشير لعضوه الذكري. وبالداخل مليون اقتراح بالهروب: من جراج الدور الثاني، لا؛ هناك باب طوارئ بالدور الأرضي.

بجوار كرسي جلد صغير في منتصف بهو المول، يجلس رجل عجوز يضع يده على خده ويتضح في جلسته الإرهاق. أجلس بجواره ونراقب حركة الجميع أمامنا. يرفع الرجل يده من علي خده لتظهر إصابات كبيرة في وجهه، ينظر لي وكأننا نجلس في عيادة طبيب أسنان "يرضيك يا ابني كده؟ هو ده العدل يعني؟" 

أهز رأسي متعاطفًا وأنتظر معه دورنا في الخروج، غير قادرين علي المحاولة أكثر من ذلك. بعد وقت من الانتظار يبدو الوضع بالخارج أهدأ، أقترب من الباب، أفتحه ببطء، ونخرج أنا ومجموعة صغيرة راكضين في اتجاه شارع رمسيس لننضم فجأة لباقي المتظاهرين.

أيام من بعدها وأنا أبحث عن الشاب "الزميل" المصاب وسط قصص الشهداء، أحاول أن أسأل أمام المستشفى القبطي في اليوم التالي، وأثناء خروج الجثامين، نُودِّع مينا وأيمن وشنودة وفارس ومايكل وهادي ووائل وباقي رفاقهم، يُقذف علينا طوب أثناء مرور جثامينهم في العباسية، أرد الطوب بعشوائية وكل ما يشغل بالي فقط؛ هو مصير غير كابوسي للشاب بالاختفاء دون أن يعرفه أحد.

 أكتب مواصفاته وأسأل المهتمين: أسمر بشعر طويل مجعد ومربوط، حتى جاءني الرد؛ ظهر "علي" حيّ في مستشفى فلسطين. "علي" الذي مات ثم عاد لنا بأحبال صوتية مُدمَّرَة، تطلبت عمليات جراحية وشهورًا طويلة من العلاج ليستعيد جزءًا من صوته، عاد يستقبلني في المستشفى بنفس ابتسامة منتصف الكوبري..

في يوم سيحكي "علي" رحتله وكيف عاد، لتظل مع ذكرى 28 ضحية فارقت الحياة عالقة في وجه نظام دموى طائفي، استمر في القتل والتنكيل، واستمرت حكايتنا في المقاومة.