في ذكرى المذبحة| "ماسبيرو" جريمتنا نحن

منشور السبت 8 أكتوبر 2016

في يوم من بدايات خريف 2011، تجمع آلاف المسيحيين المصريين ليصروا على أن تلقى تلك الأقلية المسحوقة نصيبًا من المساواة كمواطنين مصريين. عوضًا عن ذلك؛ قتل الجيش 27 من هؤلاء المواطنين المصريين بدم بارد بينما كانوا في مسيرتهم السلمية للمطالبة بحقهم في دولة تصم آذانها عن حقوق المسيحيين. هذا عار قومي.

لقد كان هذا الصمت هو ما أعد الساحة لمذبحة أكبر جرت بعد 18 شهرًا من تلك الواقعة، عقب الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد. فقبل رابعة بوقت طويل.. كان هناك ماسبيرو.

أتذكر ما جرى كأنه وقع بالأمس. كان مشهد تويتر المصري ساحة مُسَيَّسة أكثر من غيرها في تلك الأيام العصيبة يضج بتدوينات المشاركين في المظاهرة، التي أبقتنا نحن المنتشرين في كافة أنحاء العالم قادرين على متابعة ما يجري لحظة بلحظة.  التلفزيون المصري أيضًا تابع الأحداث، خاصة مع بدء المذبحة، ولكن كان هذا بهدف دس رؤية الحكومة. استغرق الأمر 90 دقيقة لتتحول المظاهرة العادية المليئة بالهتاف لأجل المساواة والعدالة إلى مذبحة.

المشكلة بدأت في مطلع ذلك العام، الملايين انتفضوا، ليس لإزاحة مبارك؛ وإنما لتغيير النظام. لكن الرجال ذوي الشعر الأبيض سرعان ما تكاثروا عى الشاشات ومحطات الراديو ليقولوا "عظيم، لقد ذهب مبارك الآن عودوا إلى العمل". الترجمة؟ انسوا ثورتكم وأحلامكم  المشروعة بمجتمع أكثر مساواة.

في طريقهم لماسبيرو عبر شوارع وسط القاهرة، صارت وسائل التواصل الاجتماعي هي الكاميرا التي صورت الرواية المسطورة بالدم. ولكن هذه المرة لم يكن القتلة من الشرطة التي يُنظر إليها كثيرًا باعتبارها أداة الديكتاتورية. ولكن هؤلاء الذين ظنوا بسذاجة حتى ذلك اليوم الأسود في أكتوبر أن "الجيش والشعب إيد واحدة"، واجهوا يومها الحقيقة المظلمة: لو لم تكن كائنات فضائية استولت على أجساد جنوده؛ فإن الجيش المصري قتل المسيحيين المصريين في شوارع القاهرة بوحشية، وعلى رؤوس الأشهاد.

بعد 16 يومًا من وقوع المذبحة، حذرت منظمة هيومن رايتس ووتش في بيان لها قائلة "التحقيق العسكري في أحداث ماسبيرو إهدار للعدالة".  وبالإنجليزية  "لا تُخفوا جريمة قتل الجيش للمتظاهرين الأقباط".

لكن التعتيم حدث. كُتِبَت المقالات وانسالت الدموع، ولكن لم يكن هناك حداد عام. إن كان قد وقع؛ كان سيُعَدّ بمثابة اعتراف بالذنب العام، وكأن 75 مليون مسلم يقولون لعشرة ملايين قبطي "نأسف لخسارتكم، لقد ماتوا لأننا أسهمنا في الظُلم، وفي مأسسة انعدام المساواة". لم يقل أحد تلك الكلمات. المجتمع المصري لديه علاقة مريضة مع الأكاذيب، فهو يتسامح معها ويغذيها بشكل يومي.

محمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع في ذلك الوقت، كان هو الوجه الممثل للجيش المصري. قتلهم في شهر أكتوبر/تشرين الأول، ثم كانت لديه الجرأة لزيارة الكاتدرائية المرقسية بعدها بأشهر أربعة ليقدم العزاء في وفاة البابا شنودة الثالث.

بعد خمس سنوات مؤلمة، ودون رجل عسكري واحد خلف القضبان؛ لم يتغير أي شيء. حُرِم الناشطون الأقباط من الحصول على تصريح بالتظاهر في ذكرى المذبحة. بين طنطاوي والسيسي ربما تغيرت الأسماء لكن الجيش هو نفسه، يد تخنق حقوق الأقباط، واليد الأخرى تصافح رجال الكنيسة.

 

خلال الحُمَّى التي أعقبت الثورة، وفي يوم 16 إبريل/ نيسان 2011؛ شارك 100 ألف قبطي في مسيرة تطالب بما هو، في ظروف مختلفة، الحد الأدنى من المطالب: دولة ديمقراطية علمانية، ودستور خالٍ من أية بنود دينية، وقوانين ضد التمييز. ولكن في التاسع من أكتوبر من نفس العام، شخص ما في الجيش فكر: "لو لم يسكت هؤلاء الناس فسوف نُسكتهم نحن". 

قد يظن البعض أن البابا -بالتأكيد- أو الكنيسة رفعوا أصواتهم مطالبين بالتحقيق، كما صممت إيطاليا بعد قتل جوليو ريجيني. البابا تواضروس اتهم الإخوان المسلمين بالمسؤولية عن ماسبيرو، مصرًا أن الجماعة "خدعت شباب الأقباط" وقادتهم نحو "فخ ماسبيرو"؛ رغم أن شواهد قبور الضحايا خصَّت الجيش بالمسؤولية عن مقتلهم.

إجابة الجيش هي كل ما تحتاج لمعرفته، ففي دفاع الجيش عن جنوده قالوا "ربما أصيبوا بالفزع، وأسرعوا بمركباتهم العسكرية للهروب". بعدها بسنوات لا تزال تلك الرواية مُضحكة: جنود مسلحون في مدرعات مصفحة أصيبوا بالفزع من متظاهرين أقباط غير مسلحين؟   

صمت الكنيسة وقتها كان خيانة لمن ماتوا وللباقين على قيد الحياة. ولم يتغير أي شيء على أرض الواقع.

بداية: وقع اعتداء على الكنيسة الأكثر تبجيلًا لدى الأقباط خلال حكم مرسي، وتواصلت مثل تلك الانتهاكات خلال حكم السيسي في جنوب مصر حيث يعيش أغلب المسيحيين. وعوضًا عن مواجهة الحكومة التي تمنح سلطات مطلقة لرجال الجيش، الذين يلعبون دور المحافظين، ليتحكموا في بناء الكنائس؛ فإن الكنيسة تكافئ عبد الفتاح السيسي باستقبال حافل ذي صبغة سياسية خلال زيارته للأمم المتحدة. 

بعد خمس سنوات (الآن في 2016) ، ضحايا ماسبيرو في مكان أفضل كثيرًا مما نحن فيه. ولكن يصعب ابتلاع حقيقة أن إمكانية إخضاع قاتليهم للعدالة لا تزال بعيدة كما كانت عليه بعد أسابيع من حمام الدم الذي جرى.

ولكن لِمَ نتوقع نتيجة أفضل بينما قضت إحدى المحاكم ببراءة آخر رجال الشرطة الذين أدينوا بالفعل بقتل الثوار خلال انتفاضة 25 يناير؟ هؤلاء المتفائلين الذين يظنون أن ثنائية الدولة والكنيسة سوف تتغير، وأنهم سوف يحصلون على الحقوق غير المعترف بها؛ عليهم أن يراجعوا نظرتهم: فالحكومة والكنيسة ستسبحان سويًا وتغرقان معًا كمؤسسات سياسية.   

ليست هناك كلمات للعزاء. هذه الدولة.. هذه الأقلية ليست بحاجة للعزاء. علينا أن نعترف بمسؤوليتنا الجمعية عن المذبحة بينما ندين هؤلاء الذين قادوا المدرعات وأطلقوا النيران. تحمُّل المسؤولية هو الخطوة الأولى في الطريق الذي لا مفر منه نحو المساواة في هذا البلد.