آه لو لعبت يا زهر.. على خُطى عدوية

منشور الأربعاء 28 سبتمبر 2016

كل متتبع للأغاني الشعبية سوف يلاحظ أنها عالم شديد الحيوية والتجدد، ما بين ظهور موجات جديدة واندثار ألوان غنائية قديمة إلى تبدل في ميزان الانتشار بين طريقة وطريقة أخرى من عام لعام. الأمر الأكيد أن الأغاني الشعبية الحديثة كما هو متحقق في موجاتها المتعددة من أحمد عدوية، ثم أشباه عدوية مثل عبد الباسط حمودة وحسن الأسمر، مرورًا بجيل محمود الليثي ومحمود الحسيني وانتهاءً بالمهرجانات، أصبحت تشكل الآن بديلًا حقيقيًا لما يُسمى بالتيار السائد - تامر حسنى ومحمد حماقي وشيرين وكاظم الساهر ونانسي عجرم وغيرهم. بل أن التيار السائد دخل في أزمة حقيقية تحت وطأة مزاحمة الأغاني الشعبية له، فأخذ يعيد تقديم مأثوراته القديمة كما يفعل حسين الجسمى ومحمد منير أحيانًا، وأحيانًا أخرى يتصور هذا التيار أن تلحين كلمات الحياة اليومية سوف يُقرّبه من الشعب ("قوم أقف وأنت بتكلمني" مثالًا).

عالم الأغنية الشعبية الحديثة هو نفسه ساحة مفتوحة للشد والجذب بين تياراته المتعددة. والملاحظ هنا أن العام الأخير انتهى، كالذى سبقه، بتفوق نسبي لأغاني جيليّ عدوية وأشباهه على حساب أغانى المهرجانات. ربما كان ذلك متوقعًا؛ فبعد أن تصدرت المهرجانات مشهد الغناء الشعبي لقرابة ثلاث سنوات متتالية، مالت الكفة في العامين الأخيرين ضدها مرة أخرى. أما المفاجأة فكانت في العودة، ليس لطريقة الليثي والحسيني، التي سادت طوال العِقد الأول من الألفية، وإنما في العودة لعدوية نفسه ولمن يتبع نفس نسقه الفني، وأقصد أشباه عدوية.

وكأن الأغنية الشعبية في مواجهة أغاني المهرجات (موجتها الأحدث) لم تجد بُدَّا من أخذ خطوة للوراء، تلك الاستراتيجة الدفاعية الناجحة التي تعنى الارتكاز على أرض ثابتة، وهى هنا الأرض التي مهدّها الأب المؤسس، أحمد عدوية. أظن أن "الناس الرايقة" كانت البداية، ثم "حلاوة روح"، وأخيرًا، "آه لو لعبت يا زهر". وأتوقع أن تنضم لهذة القائمة "باب الحياة" لعبد الباسط حمودة. فى المقابل، لم يستطع مهرجان "ما فيش صاحب" بكل ما حققه من انتشار إلا الحفاظ على فكرة أن المهرجانات ما زالت قوية وبإمكانها تغيير الموازين مرة أخرى إذا سنحت الفرصة.

يستند هذا العرض على تصور معين بكل تأكيد، على أساسه يمكننا أن نميز بين عدة أجيال أو موجات داخل هذا اللون الغنائي، أي الأغنية الشعبية الحديثة. هنا أولًا أحمد عدوية ثم أشباه عدوية وجيل الليثي والحسيني وأخيرًا مغنو المهرجانات. لا تعني كلمة أجيال هنا عُمر محدد أو وقت الظهور بقدر ما تعني نمطًا أو طريقة أو سمات فنية بعينها. فبالرغم من تواجد كل تلك الأجيال أو الموجات معًا، وهذا ما يزيد المشهد ثراءً، نادرًا ما يغير أحدهم أسلوبه لأسلوب آخر، حتي من القادمين الجدد الذين يتوزعون تلقائيا علي هذا الأسلوب أو ذاك. فبعد أن حارب عدوية وحيدًا لقرابة العشرين عامًا، مع بداية التسعينيات ظهر جيل من المغنين شديدي الشبه بعدوية مثل عبد الباسط حمودة وحسن الأسمر وشفيقة وشعبان عبد الرحيم. مع أن هذا الجيل لم يتجاوز الأطر الفنية للأب المؤسس فإنه أنعش المشهد إلى حد ما.

جاء الإنعاش الحقيقي مع جيل الانتشار والتمكن، محمود الحسيني ومحمود الليثى وأمينة ومنار محمود سعد وبوسي وعماد بعرور وعماد الصغير وغيرهم. هنا تجاوزت الأغنية الشعبية كل الحدود. وأخيرًا، ظهر جيل جديد من المغنين الشعبين الذين عمل معظمهم في البداية كـ "دي جيهات" ومن خلال تلك المعرفة التقنية أطلقوا نوعًا مختلفًا من الأغاني الشعبية سُمي بالمهرجانات، من أعلامه عمرو حاحا وفيجو والسادات وفيفتي وأوكا وأورتيجا وفيلو والمدفعجية وفريق شبيك لبيك "ما فيش صاحب". شكل مغنو المهرجانات نقلة كبيرة، بالذات على مستوى التقنية، إذ انفردت بسمة فارقة ألا وهي "اللوب" Loop ومن ثم إيقاع هادر.

بكل تأكيد سيترتب على هذا التصور العديد من القضايا، مثلًا لماذا نبدأ بأحمد عدوية ولماذا لا نضم محمد رشدي أو محمد العزبي أو غيرهما لهذا التصنيف؟ قبل ذلك، أظن أنه ما كان يجب لهذا اللون الغنائي أن يُسمي هكذا "الأغانى الشعبية" حتى، نتفادى الخلط المفاهيمي مع الأغاني الفلكلورية أو شبه الفلكلورية. فالأغانى الشعبية تتمتع بمؤلف وملحن معروفين، على النقيض من أغانى الفلكلور التى ليس لها هذه الميزة. فالفلكلور هو نتاج ثقافي وأدبي وفني وموسيقي تراكم عبر الزمن، تُرك منه وأضيف إليه على الدوام، وكأن الجماعة الشعبية قد أبدعته بشكل جماعي، وحافظت عليه من الاندثار بتداوله وإعادة إنتاجه باستمرار. الأغاني شبه الفلكلورية، من ناحية أخرى، تعتمد مطلعًا فلكلوريًا معروفًا وتبنى عليه، وعادة ما يستمر اللحن والكلمات فى نفس الجو العام للأغنية الأصلية.

على كل حال، لقد أصبحت هذه التسمية "الأغاني الشعبية" في الإشارة لهذا اللون الغنائي الذى يقدمه عدوية ومن تلاه من فنانين، أصبحت أكثر تكريسًا من أن يُعاد الآن بحث مدى دقتها من عدمه. أغلب الظن أن هذه التسمية قد أُطلقت مع نظام يوليو من باب الاحترام، ومن ثم الاحتواء، حتى وإن اُستخدمت بعد ذلك بدلالات مختلفة. لاحظ الرفض المُجحف الذي قوبل به عدوية من أصحاب الذوق "الرفيع"، وفي المقابل لاحظ المحاولات الفجة لفرض رشدي والعزبي من قبل ممثلي النظام. وخير دليل علي ذلك حلقتان لهما في برنامج "سهرة شريعي"، وهذا ما يجعلنا نشك كثيرًا في أن تلك الظاهرة، "وهيبة ساحرة البرتقال" و"لون عيون المحبوبة السنجابي"، لم تكن سوى فرضًا من أعلى.

بكل تأكيد، شكّل أحمد عدوية قطيعة ما مع أصحاب الذوق المحافظ المقولب سلفًا. وفي نفس الوقت، شكّل قطيعة مع أشكال الغناء الشعبي التي كانت سائدة وقتها مثل المونولوج والزَجَل والملاحم الشعبية والإنشاد الصوفي والصوفي الشعبي مثل "فرش وغطا". الشكل الوحيد من أشكال الغناء الشعبي القديمة الذى حافظ عليه عدوية كان هو الموال، لكنه أعاد إنتاجه في شكل قابل للحياة. في هذا المضمار تجاوز عدوية بحر أبو جريشة وعبده الإسكندراني، فقد كان عدوية أقل منهما في التوجيه الأخلاقي وأكثر منهما جرأة في التعاطي الحسي. إجمالًا وباختصار، غنى عدوية أغانٍ عادية تمامًا، حديثة تمامًا، ومثل كل الفنون الحديثة تتعاطى بشكل أساسي مع ما يسمى بالمأزق الوجودي. هناك فارق وحيد سبّب له كل التجاهل والرفض، وهو بكل بساطة أن هذه الأغاني كتبها ولحنها من يتعاطون مع الحياة كما هي، كما يرونها بدون إضافات أو شطب من أي نوع. إنها الحياة العارية.

نعود إلى "آه لو لعبت يا زهر"، المفارقة هنا أن أحمد شيبة نفسه يغني منذ قرابة عشرين سنة دون أن يحقق انتشارًا يذكر. أما "حلاوة روح"، فحكيم لم يكن أبدا مغنيًا شعبيًا، وإن أعاد تقديم أغاني عدوية أحيانًا، المفارقة هنا أيضًا أن جزءًا كبيرًا من "حلاوة روح" كان متداولًا بين المغنين الشعبين الأقل شهرة، وكأن هذا المطلع الرائع "أنا اللي كان هاممني واللي كان شاغلني، إديتهم كل حاجة وهما استغنوا عني" أبى أن يمر مرور الكرام.

أغلب الظن أن ما وقف وراء انتشار هذين العملين هذا الانتشار الكبير، هو الظرف الموضوعي حيث الرغبة في مقاومة المهرجانات من ناحية، ومن ناحية أخرى، تماشت هذه النصوص تماشيًا تامًا مع سردية الأب المؤسس عدوية، وهى سردية تلمس بكل تأكيد مكانًا عميقًا في نفوسنًا، كنت أوضحت ملامح تلك السردية في مقال سابق بجريدة أخبار الأدب في ملف كان أعده سجين الرأي الروائي أحمد ناجي. في الحقيقة، لا تخلو أغنية "آه لو لعبت يا زهر" من نظرة محيرة للحياة ترى فقدان العدل كقانون مدمج في كل شيء، وفي نفس الوقت هي نظرة لا تخلو من مديح من طرف خفي لعشوائية يد القدر، وهذا ما كان نهانا عنه القائمون على المد الديني المستشري سرًا أو علنًا منذ أربعة عقود على الأقل، ولكنها الحياة ونحن معها.