أوليفيه روا - مؤلف "إخفاق الإسلام السياسي"

إخفاق الإسلام السياسي

منشور الأربعاء 7 سبتمبر 2016

ما زالت الحركة الإسلاموية ظاهرة طافية على السطح، وتحتاج إلى دراستها وسبر أغوارها ورصد تحولاتها، بل نقضها وتفكيكها. نظرًا للأثر البالغ الذي تحدثه في عالمنا المعاصر، وباعتبارها جزءًا من الأزمة المحدقة بمجتمعاتنا. والناظر إلى تلك الحركة منذ نشأتها وحتى الآن، يجد أن الإسلاموية، التي هي إطار فكري وأيدولوجي وممارسة سياسية، تعاني من القصور في بعض النواحي، نَجَم عنه إخفاق التجربة الإسلاموية في تطبيق ما كانت تدعو إليه، وإصلاح مجتمعاتها. لتصبح الإسلاموية جزءًا من المشكلة، وليس الحل، ولا يمكن الوصول إلى حل، إلا بتخطيها وتجاوزها. ويعد الباحث الفرنسي "أوليفييه روا" أحد الذين اهتموا بدراسة الحركة الإسلاموية، وبينوا ما فيها من خلل. ونحن في هذا المقال نحاول استعراض أهم الأفكار الواردة في واحد من أهم ما كتبه حول الإسلاموية، ألا وهو كتابه "إخفاق الإسلام السياسي"، والذي صدر في العربية بترجمة نصير مروة بعنوان "تجربة الإسلام السياسي". 

 

غلافة كتاب "تجربة الإسلام السياسي"

في كتابه "إخفاق الإسلام السياسي" الصادر في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، يتناول أوليفييه روا الحركات الإسلاموية المعاصرة، محاولًا استكشاف أوجه القصور التي شابتها – عبر استقراء وتقصي تجارب تلك الحركات في مختلف البلاد المسلمة – الأمر الذي أفضى في النهاية إلى إفراغها من مضمونها، وتحولها إلى سلفية جديدة، لا يشغلها شاغل سوى تطبيق القانون الإسلامي، دون أن تخترع أشكالًا سياسية جديدة، مما أدى إلى إخفاقها.

اقرأ أيضًا | الإسلامويون والتعامل مع الآخر

هذا لا يعني أن "روا" يقصد أن الإسلاموية بدأت تتوارى عن المسرح السياسي، فهي تزداد انتشارًا وشيوعًا، بل يريد أن يقول: "إنها فقدت محركها الأصلي ومحرضها الأول"، "وما عادت تقدم نموذجًا لمجتمع آخر، أو لغدٍ مشرق".

في البداية يعرِّف "روا" الحركات الإسلاموية بأنها "فصائل الملتزمين الناشطين الذين يرون في الإسلام أيدويولوجية سياسية بقدر ما يرون فيه دينًا"، ويصفها أنها "تلك الحركات التي حملت لواء الاحتجاج ضد الغرب، وناهضت الأنظمة القائمة في الشرق الأوسط"

عند "روا" أن وهم الدعوة إلى الإسلام نشأ بسبب الأزمة المستمرة، "تلك الأزمة التي تكمن في هشاشة مشروعية الأنظمة والدول بل في فكرة الأمة نفسها. إنها تكمن في استمرار أنظمة الحكم الأوتوقراطية والتشرذم القبلي والعرقي أو الديني؛ في النمو الديموغرافي وإفقار الطبقات الوسطى، وصعود الكتل الشعبية المدينية غير المتمدنة كما ينبغي، وفي بطالة المتعلمين". "فالإسلاموية هي، قبل كل شيء، حركة اجتماعية ثقافية، تجسد احتجاج وحرمان شبيبة لم تندمج اجتماعيًا وسياسيًا بعد." وهي لا تكرس عودة إسلام مظفر واثق من نفسه، وتعبر في المقام الأول عن إخفاق نموذج الدولة الغربي الذي استوردته الأحزاب الواحدة وشبكات المصالح. فهذه الحركات تجمع من أغفلتهم عمليات التحديث الفاشلة، وتعمد إلى تعبئتهم حول أسطورة العودة إلى الأصالة الإسلامية التي لم توجد قط.

يميِّز "روا" بين الإسلاموية، والسلفية: فالسلفية هي مطالبة العلماء ورجال الدين بالتطبيق الكامل للشريعة، قبل أي شيء، وبدون طرح مسألة طبيعة النظام السياسي. وقد ظل الفكر السلفي تقليديًا على الصعيد السياسي، ولا يحمل إدانة شاملة للحكومات المسلمة القائمة.

وبحسب "روا" فإن الإسلاموية نشأت في تواصل مع السلفية، وفي قطيعة معها في آن واحد، فالإسلامويون يتبنون إجمالًا الفقه السلفي، أي أنهم يَدعْون إلى العودة إلى القرآن والشريعة والسنة، كما يرفضون الإضافات والقياس، ويطالبون بحقهم في الاجتهاد والتفسير. أما ما يميزهم عن أشكال السلفية وصيغها الأخرى فهي ثلاث نقاط: الثورة السياسية، والشريعة، وقضية المرأة. وهي التي يمكن اعتبارها معيارًا للتفريق بين الإسلاموية والسلفية.

لكن الإسلاموية وقعت في عدة مآزق أيدويولوجية في ثلاث نواحٍ، يبينها "روا" على النحو التالي:

من ناحية النصوص: تحولت الكتابات الإسلاموية بعد كتابات المؤسسين إلى "كراسات ومواعظ بلاغية وتفاسير مدقعة واقتباسات من كتب فقهاء".

من الناحية الفكرية: اعتقد الإسلامويون بأن وجود مجتمع سياسي إسلامي شرط ضروري لكي يتمكن المؤمن من الارتقاء إلى الفضيلة، ولكن من جهة أخرى، لا يستطيع مثل هذا المجتمع أن يكون فاعلًا إلا عبر فضيلة أولئك الذين يتقوم بهم، ولا سيما القادة. بعبارة أخرى: ما من مجتمع إسلامي عند الإسلامويين إلا بالنصاب السياسي، لكن المؤسسات السياسية لا تعمل إلا على أساس فضيلة من يتولونها، وهذه الفضيلة لا تصير عامة إلا إذا وُجد مجتمع إسلامي؛ إنها حلقة مفرغة. في النهاية فإن تنامي الفكر الإسلاموي يفضي إلى التخفف من كل ما يتقوم به السياسي، فلا يجد في السياسي إلا أداة للتبشير الأخلاقي.

من الناحية العملية: فما من مثال في العصر شهدنا فيه ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع الإسلامي.

لكن ثمة تطور خطير ألمَّ بالإسلاموية يرصده "روا"؛ فخلال حقبة الثمانينيات، انحدرت الإسلاموية السياسية نحو سلفية جديدة، نتيجة انغلاق الفكر الإسلاموي على مآزقه.

ويرصد "روا" مظاهر ذلك الانزلاق نحو السلفية: فالمناضلون الذين كانوا يعملون من أجل الثورة الإسلامية، يدعون الآن إلى الرجوع إلى الإسلام (أو أسلمة جديدة) "من أسفل" أي "من القاعدة"، داعين إلى العودة الفردية إلى الممارسات الإسلامية. والتحقوا في حملتهم من أجل الشريعة برجال الدين السلفيين التقليديين. واسترجعت الحركة الإسلاموية استلهامًا تطهريًا يؤكد على الشكل ويرفض وسائل التسلية والموسيقى وكافة الفنون ويدعو إلى العودة إلى العبادة وخشية الله.

أما الحركات السلفية الجديدة فقد احتفظت من الإسلاموية بالمثالية و"المهدوية" (الثورية) والمطالبة بالعدالة الاجتماعية.

وكما رصد "روا" تطور الإسلاموية وتقاطعاتها مع السلفية، فهو يحدد العوامل الداخلية والخارجية التي تسببت في حدوث هذا التطور، كما يلي:

تبعية العمل السياسي في الإسلاموية نفسها، لإصلاح العادات، وفشل النموذج الإيراني، وإخفاق المحاولات الإرهابية أو الثورية، واسترداد الدول للرموز الإسلامية، في حين أن البلدان المحافظة، مثل المملكة العربية السعودية، شرعت في ضبط الشبكات الإسلاموية، عبر التمويل، بهدف تحويل عملها وأيدويولوجيتها إلى وجهة سلفية جديدة أشد محافظة.

وبما أن الحركات الإسلاموية الراهنة لا تحمل تصورًا لنمط مجتمعي جديد، وما من نمط سياسي خاص بالإسلاموية، وما من نمط اقتصادي. فيرى "روا" أن الإسلاموية حين تصل إلى السلطة فإنها ستنظم سياسات الأسلمة "من أعلى"، وموضوع هذه الأسلمة سيكون قانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات، وستتبنى النمط السياسي الذي خلفته الأنظمة السابقة. أما على الصعيد الاقتصادي فإنها ستجابه خيارين: إما أن تكون اشتراكية دولة مستنفدة يعوًّض عنها بالسوق السوداء، أو ليبرالية محافظة جديدة مجبرة على اتباع "وصفات" صندوق النقد الدولي، تحت غطاء المصارف الإسلامية.

في النهاية يعلن "روا": "إن كل انتصار للإسلاموية اليوم في بلد مسلم سيكون سرابًا خادعًا، بحيث إنه لن يغير شيئًا إلا العادات والقانون."