الاختفاء القسري.. بحث عن الحقيقة وسط أكوام الإنكار

منشور الخميس 1 سبتمبر 2016

في صباح الجمعة، الموافق 16 أغسطس/ آب 2013، بعد يومين من فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، اطمأن رب الأسرة الخمسيني إبراهيم جرجس عطا الله، إلى امتثال أبنائه لأوامره بعدم مغادرة بيتهم في شبرا، ولو لحضور القداس الأسبوعي بالكنيسة الواقعة في الحي نفسه، خوفًا من الاشتباكات الدائرة منذ فض الاعتصام.

 قبل أن يخرج هو إلى دير الأنبا برسوم العريان بالمعصرة، حيث يعمل مُشرفًا على العمال. ولكن إبراهيم الذي كان قلقًا في هذا اليوم، لم يعد هو نفسه حتى الآن.

إبراهيم ليس حالة فردية أو استثناءً، فمثله كثيرون مختفين قسريًا، تتضارب الإحصاءات حولهم وفقًا للجهة الصادرة عنها، إذ يُقدّر المجلس القومي لحقوق الإنسان عددهم بـ311 حالة- بعضهم اختفى منذ ثورة 25 يناير- بحسب الشكاوى التي تلقتها لجنة شكّلها لبحث الاختفاء القسري من أبريل/ نيسان 2015 إلى نهاية مارس/آذار 2016، وقال عضو المجلس حافظ أبو سعدة لـ"المنصة" إن العدد ارتفع الآن إلى نحو 350 حالة.

لكن الأعداد الصادرة عن منظمات وحملات حقوقية مستقلة، تفوق الرقم الصادر عن المجلس، إذ قدّرت حملة "الحرية للجدعان" العدد بـ163 حالة في الفترة من أبريل/ نيسان 2014 حتى يونيو/ حزيران 2015، لكن إحصائية التنسيقية المصرية للحقوق والحريات تجاوزت كل الأرقام، لتعلن أن عددهم في النصف الأول من العام الجاري 1001 حالة.

المصير الغامض

اختفى إبراهيم-الذي لم ينشغل يومًا عن بيته وأبنائه بأي من قضايا الشأن العام- بالتزامن مع "اشتباكات رمسيس"، وأكدت زوجته جوزيفين موريس لـ"المنصة"، أنه كان في طريقه للمنزل وطلب منها في آخر مكالماتهما إعداد الغداء، قبل أن يبلغ شقيقته في اتصال آخر أنه سيخرج من محطة مترو أحمد عرابي وأنه يسمع أصوات هَرج ومَرج تشي بامتداد الاشتباكات إليها من ميدان رمسيس.

لا ارتباط شرطي بين الأحداث السياسية والاختفاء القسري، فلعنته تصيب حتى المستقرين في منازلهم، كما كان مع إسلام خليل، الشاب غير المُسَيّس العامل بمجال المبيعات، الذي ألقت قوات الأمن القبض عليه ووالده، خلال مداهمة مُسلحة لمنزله في محافظة الغربية 24 مايو/ آيار الماضي، للقبض بالأساس على شقيقه الناشط السياسي نور، ليختفوا جميعهم قسريًا، ويكون إسلام آخر من يظهر بينهم، بعد 4 شهور كاملة، ذكر تقرير لمنظمة العفو الدولية أنه قضاها في مقر الأمن الوطني بمدينة طنطا، قبل أن يمثل في 21 سبتمر/ أيلول 2015 أمام نيابة شرق الأسكندرية، كمتهم.

وينطوي الاختفاء القسري، كفعل مجرّم دوليًا، على جرائم أخرى تُرتَكب تحت مظلته، فإسلام خليل الذي صدر بحقه قرار إخلاء سبيل منذ 21 أغسطس/ آب الماضي، بكفالة 50 ألف جنيه سددتها الأسرة بعد يومين، ورغم ذلك لم يخرج من الحبس، الذي يقول نور لـ"المنصة" إن شقيقه تعرض فيه بعد القرار لاعتداء بدني من ضباط قسم الرمل ثان، وعُرِضَ على النيابة بعده بتهمة "ملفقة" هي التعدي على ضباط استيفاء هذا القسم، نفاها عنه تقرير الطب الشرعي.

في ظروف مشابهة، لكن في يوم "جمعة الغضب" 28 يناير 2011، اختفى شاب عشريني يُدعى محمد صديق، يختلف عن "إبراهيم" في أنه ذا نشاط سياسي، يمارسه بحكم عضويته في حزب الكرامة.

وإلى الآن تعيش والدة محمد، صباح عبد الفتاح، على أمل عودة وحيدها لها ولشقيقاته الثلاث، خاصة وأنها تلقّت منه اتصالًا هاتفيًا يوم تنحي مبارك، قالت لـ"المنصة"إنه بدا وكأنه من داخل سيارة تتحرك، وأن محمد قال لها إنه حي يرزق لكن مقبوض عليه، قبل أن يقطع حديثهما شخص مجهول، اختطف التليفون من الابن وكال السباب لوالدته، ليختفي أثر محمد تمامًا إلى هذا اليوم.

كعب داير

أربعة أيام كاملة بعد "أحداث رمسيس"، قضاها أكبر أبناء إبراهيم جرجس، مينا في التردد على قسم شرطة الأزبكية، قبل أن يتمكن من تحرير محضر تغيب والده، لتبدأ بعدها رحلة البحث المُتزامنة مع امتحانات نصف العام الدراسي الجامعي الأول، وكان يحاول خلالها تتبع أي خيط ينتهي به إلى والده، خاصة لو من مصادر موثوقة لديه، كالتي لم يفصح عنها، أبلغته أنه قد يكون ممن أُلقي القبض عليهم عشوائيًا خلال مروره بمحيط المواجهات، و"نسيته" السلطات في أحد السجون.

وقع الأمر نفسه مع والدة محمد صديق، صباح عبد الفتاح، التي تحكي كيف وطأت قدماها أماكن لم تخطر لها ببال، منذ مكالمة يوم التنحي الهاتفية، إذ سألت في معسكر الأمن بمنطقة الجبل الأحمر، بعد أن رد على اتصالها بهاتف ابنها في يونيو/ حزيران 2011، شخص ادعى أنه أحد المجندين في ذلك المعسكر، لكن لم تستدل على شيء، حتى عندما توجهت للسؤال في سجون وادي النطرون وبرج العرب والقطّا والفيوم وأبو زعبل.

تقول صباح إنها تقدمت بـ14 بلاغًا لجهات شرطية وعسكرية وقضائية، لكن جاءتها الردود غير مجدية، وأخفقت أيضًا محاولات تتبع خط تليفون ابنها عن طريق قسم الزيتون. ولكن في 2014 قالت لها مصادر أمنية - لم تفصح عنها- إن ابنها محبوس في سجن "العازولي"، في حين ردت وزارة الداخلية على شكواها للمجلس القومي لحقوق الإنسان بأن ابنها لم يُستَدل على سابقة ضبطه أو اتخاذ إجراءات قانونية حياله.

لم تكن حداثة سن مينا أو قلة خبرة صباح هما السبب عدم نجاح جهودهما، فالأمر نفسه يعانيه الحقوقيون العاملون على ملف الاختفاء القسري، وفقًا لما حكاه المحامي بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات، حليم حنيش، لـ"المنصة" من "تعنت" النيابة العامة والشرطة؛ دفعه لتلخيّص عمله في الملف بقوله "أنا بدوّر على إبرة في كوم قش".

ويوضح "حنيش" أن العادة جرت على أن تنكر الشرطة تمامًا وجود اختفاء قسري، بينما "تتخاذل" النيابة العامة عن أداء دورها بمباشرة التحقيق في القضية، بل تستجوب الناجين من الاختفاء باعتبارهم متهمين وليسوا ضحايا.

دوائر الخوف

الغموض والتضارب ونقص المعلومات وبطء أو عدم استجابة جهات التحري والتحقيق، هي بعض العراقيل التي تلازم المتعاملين مع ملف الاختفاء القسري، وأبرزها يأتي من الجهة المنوط بها حفظ الأمن، وزارة الداخلية، التي حاولت "المنصة" التواصل معها هاتفيًا وبـ"الفاكس" بشأن هذه القضية، دون رد منها حتى الآن.

 

وتقع تصريحات مسؤولي الوزارة عن الاختفاء القسري في منطقة ثابتة لا تتغير تتراوح بين الإنكار والسخرية، والتي بلغت بأحد قياداتها اللواء صلاح فؤاد، مساعد الوزير لقطاع حقوق الإنسان لوصف جريمة الاختفاء القسري، خلال جلسة رسمية جمعته في يونيو/ حزيران الماضي، وأعضاء لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب، بأنه "مجرد تعبير رنان يُستَخدم في شغل حلّق حوش".

ربما يعكس هذا التعبير قناعة لدى الوزارة، تتناقض مع ما كان بينها من تنسيق خلال العام الجاري مع المجلس القومي لحقوق الإنسان، لإجلاء مصير المختفين قسريًا، وهو ما قد يدعمه قول عضو المجلس حافظ أبوسعدة لـ"المنصة" عن أن الوزارة لم تستجب للمجلس في البداية ولم تكن تردّ على طلباته، وكان الأمر يقتصر على تصريحات من الوزير، تنفي وجود الاختفاء القسري.

على الرغم من ذلك يبقى المجلس القومي أوفر حظًا من المنظمات والجهات الحقوقية المستقلة، التي تتعرض دائمًا للتشكيك في إحصائياتها حول هذا الملف، وهو ما يعتبره "حنيش"، سياسة متبعة دائما من وزارة الداخلية "باعتبارها وسيلة الدفاع الوحيدة أمام الوقائع الثابتة".

الضبابية وغياب المعلومات التي تُصعّب قضية المختفين قسريًا، قد يكون مصدرها أحيانًا ذويهم- ربما بسبب رهبة الموقف أو لأسباب أخرى- كما في حالة الطالبة بكلية الدراسات الإسلامية، ولاء وصفي، التي لم يرد ذكرها إلا في منشور بصورتها في صفحة "أطفال مفقودة"، 27 يوليو/ تموز 2015، أورد بياناتها وتغيبها يوم 2 من الشهر نفسه، مؤكدًا عدم امتلاكها لحساب فيسبوك أو انخراطها في نشاط سياسي.

وأكد والدها لـ"المنصة" أن ابنته خرجت يوم اختفائها من المنزل لأداء صلاة العصر، في مسجد بجوار منزلهم بحي شبرا الخيمة، ووفقًا لما أخبرتهم به "خادمة المسجد" ظلت هناك لوقت صلاة التراويح، بعد أن علمت في ذلك اليوم بنبأ رسوبها في امتحانات العام الدراسي، وأن مصادر أمنية- لم يرغب في الإفصاح عنها- أبلغته بأنها في حيازة جهاز الأمن الوطني.

وعلى الرغم من تكرار الأب- العامل في إحدى شركات السياحة- لمعلومة "أطفال مفقودة" من عدم وجود علاقة لولاء بالسياسة، إلا أنه ألقى باللوم عليها في اختفائها وقال بنبرة غاضبة بسبب أنها "لم تسمع كلامه في الابتعاد عن سكة الإخوان والمظاهرات"، بعد صداقة انعقدت بينها وبين فتاة "إخوانية" سبق وحذّرها منها.

البعض الآخر من ذوي ضحايا الاختفاء القسري والناجين منه، تترسب في نفوسهم كل مخاوف تكرار التجربة، لدرجة دفعت أحد الناجين من اختفاء استمر 27 يومًا بأحد مقار الأمن الوطني انتهت بإطلاق سراحه إلى رفض الحديث لـ"المنصة" قبل استئذان "الجماعة بتوع أمن الدولة"، ورفض آخر التسجيل دون حضور قريبه "لواء الشرطة"، أما كثيرين غيرهما فبعد تهرب لأيام من الرد على طلب التسجيل، أعلنوا الرفض الصريح خوفًا على أنفسهم أو على الغائبين.

رأسًا على عقب

لا تتوقف حياة أسر المختفين قسريًا، لكنها تنقلب رأسًا على عقب، تسير بهم وتدهس لحظات ولّت وذكريات مع الغائب، يصبح من الرفاهية مجرد استرجاعها، في وقت يقضوه الآن من عمرهم، لا تكتفي زيارات المشرحة والكوابيس- بلا مجاز- بابتلاعه، بل ويُخلّف في نفوسهم آثارًا ربما تستعصي على الزوال بسهولة.

بكت جوزيفين موريس، زوجة إبراهيم جرجس، وهي تذكر كل ليلة عيد تمر الآن عليها، بعد ليالٍ كان فيها الزوج يجمع الأهل حول أبنائه، وبكت حال ابنتها مارينا التي لا تنام منذ اختفاء والدها إلا في حضنها، تاركة غرفتها والأب لابنهما مينا الذي عاد إلى الحضن نفسه في أحد الأيام باكيًا مرتعشًا بعد ما رآه في مشرحة زينهم.

مثلهم تبكي "صباح"، والدة محمد كلما تذكرت ابنتها التي تزوجت في غياب أخيها، بعد أن كادت تلغي زيجتها لسوء حالتها النفسية، لكن الأسوأ- وفقًا لما ترويه الأم باكية- هو حال طفلتها الطالبة بالإعدادية "بنتي بتقول لي يا ماما فيه واحد واقف قدام المدرسة بيبص لي وأنا خايفة يخطفني، والأخصائية بعتت لي بسبب حالة تشنج جات لها وقالت لي دي كده هتضيع منك".

الحماية الغائبة

ليس من ضروب المحال تجنيب المواطنين الوقوع فريسة للاختفاء القسري، الذي وضعت منظمة الأمم المتحدة لتجريمه ومكافحته وثيقة باسم "الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري"، لم تكن مصر من بين المصدقين عليها، وهو ما يفسّره "حنيش" بأن سببه طبيعتها المُلزمة التي تفرض على الدول الموقعة تقديم تقارير دورية عن مكافحتها للجريمة، وتمنح للجنة الأممية المعنية بالاختفاء القسري حق استقبال شكاوى من البلد، والتحقيق فيها.

ويحول دون التصديق على الاتفاقية أمر آخر يُصعّب عمل المحامين والحقوقيين، هو عدم وجود مصطلح الاختفاء القسري في قاموس التشريع المصري، ويزيد الصعوبة خلط جهات التحقيق بين الاختفاء القسري والاحتجاز دون وجه حق، وفقًا لـ"حنيش"، فيما يرى "أبو سعدة" في التوقيع على الاتفاقية تأكيدًا ضمنيًا لأن الاختفاء القسري ليس سياسة الدولة.

وأوصى عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، في سبيل الحيلولة دون مزيد من الاختفاءات القسرية، بتعديل قانون العقوبات، وخاصة المادة 282 الخاصة باحتجاز الأشخاص دون وجه حق أو سند قانوني، وأن يرد فيها مصطلح الاختفاء القسري باعتباره "جريمة دولية"، مع حفظ حقوق المتهمين منذ إلقاء القبض عليهم، التزامًا بقانون الإجراءات الجنائية.

على الرغم من تكرار هذه التوصيات منذ أعوام، ربما ينقضي وقت ليس بالقصير، قبل أن تستجيب مصر للنداءات الحقوقية، بالتصديق على الاتفاقية، وقد يمر على أسرة محمد صديق وهو ما زال غائبًا ويكون فيه إسلام خليل عُرضة لتكرار إخفائه، بينما يواصل مينا بحثه في جوه المارّة عن أب، بعد أن نفى تحليل البصمة الوراثية وجوده بين قتلى مشرحة زينهم، صارت أكثر أفكار الابن تفاؤلاً عنه أنه نسي طريق البيت.