مُتَرْجَم| إنترنت "هيرتزوج".. رحلة المُخْرِج إلى اللانهائية وما بعدها

منشور الأربعاء 24 أغسطس 2016

 

أنتوني لاين- نيويوركر

صناعة فيلم وثائقي عن الإنترنت يتطلب الكثير من الشجاعة، وأن تفعل ذلك وأنت حتى لا تهتم بالهواتف الخلوية، فإن هذا يتطلب مزيجًا من البراءة والقدرة على الإقناع، بالإضافة لبعض من الجنون. وكل هذا يعني أن فيرنر هيرتزوج الذي يبلغ من العمر الآن 73 عامًا هو الشخص المناسب لأداء هذه المهمة. والنتيجة.. "انظر واندهش.. أحلام العالم المُتَّصِل".

 الفيلم مقسم إلى عشرة أجزاء، لا تدع تفكيرك يقودك إلى كونها وصايا مقدسة[1]. أفلام هيرتزوج الوثائقية دومًا ما تطلق في مشاهدها الكثير من العجب والدهشة، فهو يصنعها بشغف من يريد التعلم لا تربوية من يملك المعرفة ويرغب في استعراضها.لو أنه اصيب بعمى الالوان غدًا فسيبدأ فورًا في صناعة فيلم عن ماتيس.

الجزء الأول يحمل اسم "الأيام الأولى"، يقودنا فيه هيرتزوج برفق إلى موضع ميلاد الانترنت، في غرفة مُعاد بناؤها في جامعة كاليفورنيا "شيء أشبه بالمعبد" كما يقول هيرتزوج، وهو ذلك المخرج الباحث دائمًا عن تلك الهالة المثيرة للأشياء، التي يُحب الناس الطواف حولها عندما لا يكون الرب متاحًا للتعليق. هذه الإشارة الروحانية فرضها البرفيسور ليونارد كلينروك، أستاذ علوم الحاسب الذي كان حاضرًا في ما أسماه بـ"الغرفة المقدسة"، في التاسع والعشرين من أكتوبر 1969، عندما تم بث إشارة لمؤسسة ستانفورد للأبحاث "من مضيف إلى مضيف". لو أنك ما زلت تعتقد أن أهم أحداث ذلك العام هو الهبوط على القمر، عليك أن تراجع عقلك. الجنة الحقيقية ظهر قبس منها هنا.. على الأرض.  

في الفيلم يحاور هيرتزوج مُتعبدين آخرين في الكنيسة الرقمية[2]. أحدهم، داني هيليز اللطيف[3]. يتذكر داني وقتًا كان يمكن فيه حصر مستخدمي التكنولوجيا الجديدة، بعناوينهم الجغرافية وأرقام هواتفهم، كل هذا في دليل صغير الحجم. "كان هناك اثنان آخران يدعيان (داني) على الإنترنت، وكنت أعرفهما بشكل شخصي".

كيف تطورنا إذن من بضع دواني (أشخاص يدعون داني)، إلى حالة من التشابك والاتساع تجعل من ذلك الدليل النحيف القديم مخطوطة يبلغ سمكها  72 ميلاً (حوالي 116 كيلومتر). وصار كل كلب صيني لديه حساب على تويتر؟ 

لا يفاجئنا أبدًا أن قصة هذا التطور هي ملحمة عظمى، يصعب رصدها حتى على هيرتزوج، وهو يفضل -في الأجزاء التسعة الباقية من الفيلم- أن يطلق سلسلة من الهجمات الذكية الطريفة، على ما تتضمنه تلك الملحمة من مفارقات، أو أن يستعرض تلك الطفرات، وحتى السقطات المثيرة للدوار، التي شهدتها الحياة على الإنترنت. لذا فسوف نرى "عظمة الشبكة"، "الحياة بلا شبكة"، و"الجانب المظلم"،  و"نهاية الشبكة"، و"غُزاة الأرض"، "الإنترنت على المريخ"، و"الذكاء الاصطناعي"، و"إنترنتّي الشخصي"، و"المُسْتَقْبَل".

بعض هذه العبارات تحمل عبق الخيال العلمي، وكما لاحظ أحد شخوص فيلم هيرتزوج؛ فإن أحدًا لم يكن به من النبوة ما يكفي للتنبؤ بالانترنت، إلا "هربرت جورج ويلز"، الذي قد يعترض قراؤه المخلصون على هذا الطرح.

 في مقاله المطول المنشور في كتاب "عقل العالم" 1938، تخيل ويلز حقبة "يمكن لأي طالب فيها في أي مكان في العالم أن يجلس مرتاحًا على مكتبه أمام شاشته، ويطالع أي كتاب أو وثيقة من خلال نسخة طبق الأصل من هذا الكتاب أو تلك الوثيقة".

 واحدة من مصادر المتعة المضمونة في أفلام هيرتزوج الوثائقية؛ هي موهبة هيرتزوج نفسه في تقديم من يبدون متفردين مثله، وفي هذا الفيلم ينجح هيرتزوج كما ينجح دائمًا في هذه المسألة، فهو يقدم خليط من الأشخاص العاديين الخائفين، الذين لا يريدون الاقتراب من الكمبيوتر أو الاضطرار للتعامل معه. ويقدم إلى جانبهم مجموعة من الطموحين اللامعين، الذين يريدون أن يحولوا الكمبيوتر إلى جهاز فائق القدرة يقوم بكل شئ بالنيابة عنا. يقول سباستيان ثرون الذي كان يعمل في جوجل ويعمل الآن بجامعة ستانفورد: "بمجرد أن ترتكب سيارة ذاتية القيادة خطأ ما، فكل السيارات الأخرى المماثلة تعرف به أوتوماتيكيًا، وكذلك تعرف به كل السيارات ذاتية القيادة التي ستصنع في المستقبل"، وهذا يخلط بين الخطابات الرنانة لرافضي الإجهاض بقصة قادمة من عالم بيكسار. يضيف سباستيان "قدرة السيارات على تطوير ذكاءها الصناعي، أكبر بكثير من قدرة الناس على تطوير أنفسهم لمواكبة هذا التقدم".  

إذن فالأمر محسوم، الإنسانية ستُقهَر؛ ولكن ليس على وقع الأقدام المعدنية لشوارزنيجر[4] بل على همهمات سيارة بيريوس خالية من الركاب. ما سيكون عليه المستقبل خاضع لما تميل إليه قلوب المبشرين بالتكنولوجيا الذين يتحدث إليهم هيرتزوج، هذه الصورة المستقبلية تُمثِّل نبض الكوميديا المثيرة للرجفة التي تسري في فيلم هيرتزوج.

في الفيلم نقابل شاب يدعى جويديب بيسواس، وهو اسم لم يكن توماس بينشون نفسه ليقدر على الإتيان به. جويديب يوزع روبوتات متخصصة في لعب كرة القدم في جامعة كارنيجي ميلون ببنسلفانيا. يقول جويديب وهو يهدهد واحد من روبوتاتة الصغيرة "نحن فعلا نحب روبوت 8"، وبينما يفضي باعترافه؛ تطوف الكاميرا بتفاصيل ابتسامته الخبيثة اللعوب.

يتمنى بيسواس أن تصير روبوتاته قادرة على هزيمة ابطال العالم في كرة القدم بحلول عام 2050، ما يجب عليه التفكير فيه مليًا – في رأيى- هو إن كانت هذه الأجهزة يجب برمجتها لتؤدي وظائف وأدوار أخرى، كي تواكب مطالب مشجعي كرة القدم. مثلاً؛ هل سيتمكن "روبوت 8" المستقبلي من سب المنافسين والسقوط على الأرض ممسكًا بدائرة تشغيله، صارخًا في تظاهر بارع بالألم الشديد، بعدما يصطدم حذاء بشري بإحدى عجلاته في الملعب؟ من السهل تقليد مواهبنا، وحتى خطايانا ونقاط ضعفنا، ولكن الكبوات والأخطاء العارضة المرتبطة بحقيقة كوننا فانين؛ هذا أمر يصعب استعارته أو تقليده.

 

"انظر واندهش" بحكم نطاقه السردي (عشرة أجزاء) هو واحد من أكثر محاولات هيرتزوج تشظيًا. وينقصه ذلك التركيز المميز الموجود في أفلام للمخرج نفسه ومنها "النشوة العظيمة لشتاينر حفار الخشب" 1974، و"الرجل الأشهب" 2005 الذي نبش خلاله في أعماق روح أول بطل سويسري للتزلج بالقفز، والذي قضى السنوات الأخيرة من حياته بين الدببة الشهباء حتى مات بمخالبها.

 أيضًا يتجاهل الفيلم المادة الثرية المتصلة بموضوعه، أو يحوم حولها دون أن يمسها، أن تصنع فيلمًا عن الإنترنت دون أن تتعرض للجنس ولو بشكل طفيف؛ هو كأنك تكتب مؤلفًا ضخمًا عن تاريخ الحدائق دون أن تتكلم عن الورد.   

شبكات التواصل الاجتماعي كذلك لا تأخذ من هيرتزوج أكثر من نظرة خاطفة، رغم أنه من الجائز أن ننتظر من هيرتزوج الذي دعى لـ" حرب حقيقية ضد الإعلانات، وحرب حقيقية ضد برامج التوك شو" أن يكون لديه الكثير ليقوله عن خنق المعرفة باستخدام الرأي كما يحدث على السوشيال ميديا.

لدى هيرتزوج قصة مهمة في الفيلم حول غواية السبق الرقمي، يقدم لنا هيرتزوج عائلة مزقها فقد ابنتها في حادث سيارة، هذا الفقد تضاعف فورًا عندما التقط أول مار صور لجثة الفتاة المشوهة، وبثها على الإنترنت لتعرف الأسرة خبر موت ابنتها من رسالة بريد إلكتروني محملة بصور الجسد الميِّت. لم يُرِنَا هيرتزوج وجه الفتاة، لا في حياتها ولا بعد موتها، واختار أن يُصَوِّر "أماكن أحبتها في بيت العائلة".

بالتاكيد هناك الكثير من روح هيرتزوج وعلامته المميزة في التعليق الصوتي المصاحب للصورة، وهذا كاف لجذب معجبيه. من المستحيل أن يجمع مُنتَج فني بين التباطؤ وجودة المونتاج، لكن بشكل ما؛ استطاع هيرتزوج أن يفعل هذا. أما متابعة تعبيرات وجوه علماء الأعصاب الذين يقابلهم هيرتزوج؛ فهو أمر ذو لذّة. "هل من الممكن أن الإنترنت بدأ يبني أحلام عن نفسه؟" يجري هيرتزوج مقابلة مع إلون ماسك، الذي يمول أبحاثًا عن السفر في الفضاء من ثروته الخاصة.   

يبدأ ماسك حديثه مع هيرتزوج بقوله: "الآن، لا يمكننا حتى أن نصل بشخص واحد إلى المريخ، إذن فمن الواضح".. يقاطعه هيرتزوج: "أنا يمكنني أن أسافر.. لن تكون لدي مشكلة، هي تذكرة ذات اتجاه واحد". يخيم الصمت، وعندها تظهر على وجه ماسك نصف ابتسامة متوترة، وكأن أحدهم يقدمه لأول مريخي يراه في حياته.

 ولكن، لم لا.. أي اختيار أفضل من الرجل الذي أخرج "فيتزكارالدو" 1982 ملحمة الاستحالة الجنونية؟ هذه هي- في اعتقادي- فكرة هيرتزوج عن الرحلة الأعظم.. إلى اللانهائية ما بعدها.   

 

[1] - إشارة إلى الوصايا العشر في الكتاب المقدس، وفيلم "ديكالوج" الممتد على عشرة أجزاء للمخرج البولندي كريزيستوف كيشلوفسكي.

[2]الكنيسة الرقمية: كنيسة افتراضية موجودة على الإنترنت، يقدم نفس الخدمات الروحية التي تقدمها الكنائس الحقيقية ولكن عن طريق برامج ومواقع التواصل الاجتماعي. ولكن المقصود بها هنا هو "معبد التكنولوجيا" والإيمان بقدرة البرمجيات والإنترنت على تقديم خدمات عديدة، حتى الروحية منها، للعالم.

[3] -  داني هيليز اللطيف: استعارة لطريقة تسمية الرهبان والقديسين التي تقرن اسماءهم بصفات محددة ارتبطت بهم في التاريخ الكنسي.

[4]  - إشارة لسلسلة أفلام the terminator  التي قام ببطولتها شوارزنيجر وقدم فيها شخصية رجل آلي قاتل ذو قدرات فائقة.