كيسنجر بصحبة فيديلا خلال زيارة كيسنجر للأرجنتين

مُتَرْجَم| هنري كيسنجر.. استعادة التاريخ الأسود لرجل بلا ضمير

منشور الاثنين 22 أغسطس 2016

جون لي أندرسون- صحيفة النيويوركر

في مارس/آذار الماضي، عندما سافر الرئيس باراك أوباما إلى الأرجنتين للقاء الرئيس الجديد للبلاد "موريشيو ماكري"، ووجه ظهوره العلني بمتظاهرين علا صخبهم للمطالبة بالشرح والاعتذار عن السياسات الأمريكية الحالية وما انتهجته أمريكا في علاقتها مع دولتهم في الماضي.

هناك بلدان قليلة في الغرب يعبر الناس فيها عن رفضهم للأمركة، وأعلاهم صوتًا هي الأرجنتين. فثقافة الغضب الجماعية المُسَيَّسَة، تطورت بحيث تُلام الولايات المتحدة على العديد من مشكلات الأرجنتين. لدى اليسار على وجه الخصوص، يوجد احتقار مستمر للولايات المتحدة بسبب دعم حكوماتها المستمر لليمين العسكري الأرجنتيني، الذي استولى على الحكم في 1976، وأطلق "حربًا قذرة" ضد اليساريين، ما أدى لإنهاء حيوات آلاف المواطنين خلال سبع سنوات، تلت الانقلاب.   

زيارة أوباما تزامنت مع الذكرى الأربعين للانقلاب. وبفطنة واضحة، أعرب أوباما عن أسفه لضحايا الانقلاب بزيارة نصب تذكاري بُنِي لتكريمهم على الحدود الخارجية للعاصمة بوينس أيريس. وفي خطاب ألقاه عند هذا النصب التذكاري؛ اعترف أوباما بما اعتبره "خطايا  الغفلة الأمريكية"، لكنه توقف قبل تقديم اعتذار صريح. قال أوباما: "على الديمقراطيات أن تتمتع بشجاعة الاعتراف عندما تقصّر في الالتزام بالقيم التي تعلن إيمانها بها". وواصل" لقد تباطأنا في الدفاع عن حقوق الإنسان، وهذا هو ما حدث هنا".

في فترة الاستعداد لزيارة أوباما، أعلنت سوزان رايس مستشارة الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي، عن اعتزام الحكومة الإفراج عن آلاف الوثائق العسكرية والاستخباراتية المتعلقة بتلك الفترة المضطربة من تاريخ الأرجنتين. كانت هذه بادرة حسن نية، تدلل على جهد أوباما المتواصل في تغيير ديناميات العلاقات الأمريكية مع دول أمريكا اللاتينية "لدفن آخر بقايا الحرب الباردة"، كما قال في هافانا خلال الرحلة ذاتها.

الأسبوع الماضي، تم الإفراج عن أول دفعة من تلك الوثائق. وكشفت عن أن مسؤولي البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية، كانوا على علم بالطبيعة الدموية للنظام العسكري الأرجنتيني. وأن بعضهم كان مذعورًا مما كان يعرفه، والبعض الآخر، وعلى رأسهم كيسنجر، لم تصبهم أية ذرة من الرعب.

في برقية دبلوماسية مؤرخة بالعام 1978؛ كتب السفير الأمريكي راؤول كاسترو عن زيارة كيسنجر لبوينس أيريس، حين كان ضيفًا على الديكتاتور خورخي رافييل فيديلا، وقتما كانت الأرجنتين تستضيف بطولة كأس العالم. يقول السفير في برقيته: "قلقي الوحيد، هو أن مديح كيسنجر المتكرر لتصرفات الأرجنتين في القضاء على الإرهاب، ربما نقل رسالة بعينها لمضيفيه". وواصل السفير في عصبية: "هناك خطورة في أن يستخدم الأرجنتينيون مديح كيسنجر المبالغ فيه لتبرير المزيد من التشدد ضد حقوق الإنسان".

ما تكشَّف مؤخرًا، يستكمل صورة كيسنجر كمشجع مخلص -إن لم يكن متآمرًا فاعلاً- في قيام الأنظمة العسكرية في أمريكا الجنوبية بجرائم حرب في حق شعوبها. في أدلة ظهرت خلال الإفراج السابق عن وثائق خلال فترة حكم بيل كلينتون؛ ظهر أن كيسنجر لم يكن فقط يعلم بما تقوم به الأنظمة العسكرية؛ بل كان يشجعها بشكل فاعل.

بعد يومين اثنين من الانقلاب العسكري الأرجنتيني، تلقى كيسنجر تحذيرًا واضحًا من وليام روجرز مساعد وزير الخارجية لشؤون العلاقات الأمريكية (يختص بالعلاقات مع دول الأمريكتين الشمالية والجنوبية) قال له روجرز: "أعتقد أنه علينا أن نتوقع قدرًا كبيرًا من القمع، ودماءً كثيرة في الأرجنتين في وقت قريب. أعتقد أنهم لن يهاجموا الإرهابيين فقط، وإنما سيقمعون بشدة المعارضين من ممثلي النقابات العمالية والمتضامنين معهم من الأحزاب السياسية". رد عليه كيسنجر "أيًا كان ما سيفعلونه، إنهم يحتاجون لقليل من التشجيع .. أنا أشجعهم، فأنا لا أريدهم أن يشعروا بأن الولايات المتحدة تترصد لهم".

 

فيديلا يلقي القسم الرئاسي بحضور المجلس العسكري القائم بالانقلاب في 1976

بناء على توجيه كيسنجر، لم تترصد لهم الولايات المتحدة. بعد الانقلاب مباشرة، أرسل كيسنجر للجنرلات رسائل التشجيع، وتحول التشجيع في الرسائل إلى دعم فعلي، عندما أرسل كيسنجر وفودًا أمنية أمريكية لمساعدة القادة العسكريين الجدد. وفي لقاء جمعه بوزير الخارجية الأرجنتيني بعد شهرين اثنين؛ نصحه كيسنجر –وفقًا لمذكرة للخارجية الأمريكية عن سير المقابلة-  بقوله: "نحن نعلم أنكم تمرون بفترة صعبة، هذا وقت غريب تختلط فيه الأنشطة السياسية بالإجرامية بالإرهابية، دون حدود فاصلة بينهم بشكل واضح. نحن نتفهم أنكم تريدون فرض سلطتكم. لو أن هناك أي شيء تحتاجون للقيام به لأجل تعزيز تلك السلطة فقوموا به سريعًا".

الجيش الأرجنتيني قام بانقلابه بهدف توسيع ومأسسة حرب كانت جارية بالفعل ضد المقاتلين اليساريين والمتعاطفين معهم. أطلق العسكريون على حملتهم اسم "عملية إعادة التنظيم الوطني" أو اختصارًا "إل بروسيسو" el proceso. خلال تلك الحرب القذرة، وكما صار معروفًا لنا، جرى اختطاف أكثر من 30 ألف شخص، تعرضوا للتعذيب، ثم أُعدموا على يد قوات الأمن. مئات المشتبه بهم دُفنوا في مقابر جماعية غير معروفة، بينما آلاف غيرهم جُردوا من ملابسهم وسُحلوا على الأرض وأُلقوا في طائرات عسكرية، وألقي بهم في البحر أحياءً من الطائرات ليموتوا. مصطلح "لو ديسابارسيدو" los desaparecidos، أو المختفين[1]. وأصبح هذا المصطلح واحد من إسهامات الأرجنتين في المعجم العالمي.

في وقت الانقلاب، كان جيرالد فورد هو الرئيس الأمريكي المؤقت، وكان كيسنجر يشغل منصبي وزير الخارجية ومستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، وهما ذات المنصبين الذين شغلهما في عهد نيكسون. وبمجرد وقوع الانقلاب في الأرجنتين، وبناء على نصائح كيسنجر؛ وافق الكونجرس الأمريكي على تقديم مساعدة قدرها 50 مليون دولار للمجلس العسكري الحاكم، وقبل نهاية العام، تلقى العسكر 30 مليونًا آخرين.

تمت الموافقة كذلك على تنسيق برامج تدريب عسكرية، ومبيعات طائرات عسكرية تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات. وفي 1978، بعد عام من بدء رئاسة جيمي كارتر، توقفت المساعدات العسكرية الأمريكية بعد تزايد التخوفات من اتساع نطاق انتهاكات حقوق الإنسان في الأرجنتين. وسعت الإدارة الجديدة لاحقًا لقطع المساعدات الدولية عن القيادات العسكرية الأرجنتينية. وفي بداية 1981، ومع وصول ريجان للبيت الأبيض، تم رفع هذا الحظر.    

وطوال الوقت الذي مر منذ تلك الأحداث، لم تكن هناك أية عواقب قانونية لما فعله كيسنجر في شيلي[2] حيث قتل ثلاثة آلاف شخص على يد عصابات بينوشيه. كما لم يسائله أحد عن جرائمه في فيتنام أو كامبوديا، اللذين أمر فيهما بقصف مناطق واسعة بالطائرات، ما تسبب في قتل آلاف المدنيين. 

كيسنجر وبينوشيه

 واحد من أكثر ناقديه صراحة هو الراحل كريستوفر هيتشنز، الذي نشر كتابًا عام 2011 بعنوان "محاكمة هنري كيسنجر". طالب فيه هيتشنز بمحاكمة قضائية لكيسنجر لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية "وكل الانتهاكات التي جرت للقوانين الوضعية والعرفية والدولية، بما فيها التآمر لارتكاب جرائم قتل وخطف وتعذيب".

خلال الحرب القذرة في الأرجنتين، كان الجنرالات بالطبع ينفون قيامهم بأي شئ قذر. عندما سُئل عن "المختفين" قال قائد الانقلاب فيديلا بلهجة غامضة تثير الخوف والرجفة: "المختفين هم مجرد مختفين. هم ليسوا أحياءً ولا أموات.. هم مجرد مختفين ". ضباط آخرين ادعوا أن المختفين هاربين للقيام بعمليات إرهابية ضد وطنهم. في الحقيقة؛ فإن الأغلبية كانوا يتعرضون لانتهاكات في السجون على يد موظفين تدفع لهم الحكومة، وبعد الانتهاك والتعذيب، يُقتلون.   

 وكما حدث في ألمانيا خلال الهولوكوست، معظم الأرجنتينيين كانوا يعرفون ما الذي يحدث فعلاً، لكنهم تواطؤوا بالصمت، أو الخوف. دولة "كل شيء على ما يرام"، تبناها هؤلاء الأرجنتينيون الذين رأوا جيرانهم يُؤخذون من بيوتهم على يد رجال بملابس مدنية، ولا يعودون أبدًا " Algo habrán hecho- أكيد عملوا حاجة".  

خورخيه رافاييل فيديلا 

لقد استعرضنا العديد من الأدلة على قسوة كيسنجر. بعض تلك الأدلة صادمة، ولا يوجد أي تبرير أو تفسير لها. هناك زهو ذكوري في العديد من تصريحاته، كان يمكن تفسيره لو لم يكن كيسنجر قد حاز السلطة بالفعل كما في حالة المرشح الرئاسي الذي لا يتوانى عن كيل الإهانات، دونالد ترامب. وندرك تمامًا، أن كيسنجر رغم كونه الأطول بقاءًا على مقعد "أكثر شخصية منبوذة ومكروهة" في تاريخ أمريكا المعاصر؛ إلا أنه مجرد واحد من رجال عديدين ينظر إليهم بخوف واحتقار، لانعدام أخلاقهم خلال خدمتهم في مناصبهم ومواقعهم، لكنهم في الوقت نفسه، حققوا بخدماتهم تلك استقرارًا للبنية السياسية للولايات المتحدة. من هؤلاء الرجال أتذكر وليام شيرمان، وكيرتس لي-ماي، وروبرت ماكنمارا ومؤخرًا: دونالد رامسفيلد.  

في فيلمه الوثائقي المميز "ضباب الحرب" المعروض في 2003، يرصد إيرول مورس أن ماكنمارا الذي بلغ الثمانين في ذلك الوقت، صار رجلاً معذبًا، يحاول التكفير عن ما فعل ولكن بلا جدوى، بسبب العبء الأخلاقي الثقيل لما يتحمل مسؤوليته منذ عمل وزيرًا لدفاع الولايات المتحدة خلال الحرب على فيتنام.

 كتب ماكنمارا مؤخرًا مذكراته التي يتناول فيها تركته الثقيلة. خلال تلك الفترة أجرى صحفي يدعى ستيفن تالبوت مقابلة مع ماكنمارا في واشنطن، وتمكن الصحفي لاحقًا من الحصول على فرصة لمقابلة كيسنجر. كتب تالبوت لاحقًا عن مقابلته المبدئية مع كيسنجر وقال: "قلت له إني انتهيت لفوري من مقابلة ماكنمارا في واشنطن، استحوذ هذا على اهتمامه، توقف عن مضايقتي، ثم فعل شيئًا غير متوقع تمامًا: بدأ في البكاء.. ليس بكاءً حقيقيًا لم تكن هناك دموع. أمام عيني، أخذ كيسنجر في دعك عينيه وهو يقول: (وااااء وااااء... ألا زال يواسي قلبه؟ هل ما زال يشعر بالذنب) واصل كيسنجر حديثه الساخر بلهجة مستخفة بينما يربت على قلبه".

 مات ماكنمارا في 2009، عن نفس العمر الذي بلغه كيسنجر اليوم، 93 عامًا. لكن صراعه العلني مع ضميره ساعد في إحياء سمعته المُلَطَخَة. الآن وبينما يقترب من نهاية حياته، لا بد أن يفكر كيسنجر فيما سيخلفه وراءه. عليه أن يرقد مستريحًا لأن دعمه الراسخ لمشروع  "القوة العظمى الأمريكية" قد أتى ثماره، وإن كان ثمنه مدفوعًا بأرواح وحيوات الكثيرين. سيكون هذا جزءًا كبيرًا من ميراثه الذي سيخلفه وراءه.

على عكس ماكنمارا الذي حاول أن يجد تكفيرًا أخلاقيًا أثار سخرية كيسنجر؛ فإن كيسنجر نفسه لم يبد شيئًا يذكر فيما يتعلق بمسألة الضمير هذه. ولهذا السبب فيبدو أنه من الصعب أن يعفو عنه التاريخ.    


[1] -  المختفون: هم المغيبون قسريًا في الأرجنتين، والذين اختطفهم قادة الانقلاب العسكري وعلى رأسهم الديكتاتور خورخي فيديلا. واستخدم العسكر في الأرجنتين الاختطاف والإخفاء القسري لإسكات عشرات الآلاف من المعارضين. الذين ما زالت مصائرهم غير معروفة حتى اليوم.

[2] -  بدعم من الولايات المتحدة استولى الديكتاتور العسكري أوجستو بينوشيه على الحكم في شيلي مطيحًا بالرئيس الديمقراطي المنتخب سيلفادور أليندي ذي العقيدة السياسية الاشتراكية. ودعمت الولايات المتحدة الجنرال اليميني، الذي مارس القمع والقتل والإخفاء القسري ضد معارضيه. وأدت عمليات القمع الدموية إلى مقتل 3000 مواطن شيلي بحسب الإحصاءات التي استطاعت منظمات حقوق الإنسان توثيقها. وإن كان يرجح ان العدد يزيد عن هذا الرقم.