الممثل الأمريكي هيرد هاتفيلد في دور دوريان جراي - من فيلم صورة دوريان جراي 1945

الجمال لعنة.. أم طريق إنقاذ؟

منشور الخميس 14 يوليو 2016

أنا منشغل منذ فترة بفلسفة الجمال. أُفكر في صورة "دوريان جراي" لأوسكار وايلد؛ إنه شخص وسيم بشكل مذهل جدا. هناك شيء في وجه هذا الشخص يجعلك تثق وتؤمن به فورا. لكن ذلك كان قبل أن يسلك طريق الفجور والجريمة.

كانت له صورة معلقة في غرفة الاستذكار القديمة رسمها له بازل هالوارد، أصبح من ينظر لها يراها تزداد قبحًا فوق قبح كلما أصبحت سلوكياته أكثر شناعة، بالرغم من أن صورته تظل كما هي في الحقيقة. كانت أمنية هذا الشاب أن يعيش شابًا وسيمًا على النحو الذي صوره عليه بازل، هكذا للأبد، وتحققت أمنيته. لكن اللورد هنري- صديق الرسام بازل- عبث بعقل دوريان جراي، علمه الشر باعتباره الجمال والمتعة. أفسد روحه وأسقط عنه كل مسئولية بدعوى أن تلك هي السعادة. ومع أن دوريان يظل في الحقيقة وسيمًا وشابًا كما تمنى؛ إلا أن صورته في اللوحة تصبح قبيحة كلما قام بفعل قبيح.. أصبحت الصورة تفشي فساد روحه.

يعجب دوريان غراي بإحدى الممثلات وهي سيبيل فين، ويتخيل أنه أحبها، يذهب لأستاذه اللورد هنري ويخبره عن تلك الفتاة وكم هي عبقرية في التمثيل، فيقول له هنري: لا توجد امرأة عبقرية النساء جنس زخرفي لا أكثر، ليس لديهن ما يقال لكنهن يقلنه بأسلوب ساحر. وهكذا كان دائما ما يفعل اللورد هنري بهذا الشاب الغر، بآرائه التي تبدو جميلة لكنها تحتوي على السم؛ هكذا كان الشاب يفسد يوما بعد يوم، وتفسد روحه.

بعد أن خطب دوريان تلك الفتاة دعى صديقيه- الرسام وهنري- لحضور مسرحية من تمثيل خطيبته، لكنها تخفق لسبب ما، فذهب لغرفتها ووبخها بقسوة وهي تتوسل إليه ألا يتركها، لكنه يرحل فتنتحر تلك الفتاة. وبعد أن يعرف أنها انتحرت يلوم نفسه لوما بسيطا ثم يكمل حياته. ويصفه أوسكار وايلد في نص الرواية: "عندما يلوم نفسه بعد ذنب يقترفه، يرى نفسه قد تخلص من ذنبه وأصبح نقيًا من الذنوب. ومن ثَم يذهب عنه الإحساس بالذنب، ولا يأبه لارتكاب ذنب آخر.

يذهب دوريان غراي لينظر في صورته فيجدها تغيرت، وظهرت في ملامحه القسوة، رمزًا لفساد روحه وسوء أخلاقه، فيحاول أن يخفيها حتى لا يفتضح أمره، حتى أنه قتل من رأى الصورة وعرف حقيقته. مع الوقت تعوَّد على القبح والفساد.

يقول أوسكار وايلد إن دوريان مع الوقت: "يزداد إدراكاً لجماله وإدراكا لخراب روحه". لكنه في النهاية يحاول أن يقتل تلك اللوحة ليتخلص من كل فساد ماضيه، ترى هل يقدر؟

هذه الرواية هي رواية رمزية عن فترة في حياة أوسكار وايلد نفسه. في "مرحلة شريرة" من حياته، مرحلة صراع الرغبة ضد الأخلاق. إنها رواية عن حب الجمال والسعادة والحياة، لكن مع فساد الروح. أوسكار وايلد نفسه انتهت حياته مبكرًا، بعد خروجه من السجن*، وانتقاله شبه هاربٍ من إنجلتر إلى فرنسا، وموته على نحو مأساوي.

إن الرغبة تكون في الشئ الجميل، الذي نراه يحقق متعة لنا، لكن هل كل استسلام للمتعة والرغبة هو فعل جميل بالضرورة؟ من يضبط الجمال غير الرغبة الصرف؟ وهل يمكن أن يساعد الجمال وفهمه وإدراكه كل فرد منا، فيصبح هذا الجمال وسيلة للتحرر وطريقة للتعاطي مع الحياة؟ وهل للجمال معنى مطلق ومتحرر من التاريخ؟

الفيلسوف والكاتب والشاعر الرومانتيكي الألماني فريدريش فون شيلر يقول لنا: إن هناك دافعان للمتعة أو للاستجابة للمتعة، أحدهما حسِّي أو حالي، وهو الرغبة. والآخر عقلي؛ ويعنى القواعد العقلية المجردة (هناك عرض شيق ومستفيض في مقال "الحياة الجميلة" لجون آرمسترونج، من ترجمة أحمد شافعي). وهو يُعرِّف علم الجمال باعتباره: المصالحة بين الأجزاء الحسية والعقلانية، وهو بهذا يحل تناقضات كانط بين العقل والحواس، أو بالأحرى يحاول أن يُقدم حلا يوفق به بينهما.

   يرى شيلر في الجمال وسيلة انقاذ: "يجب أن يستعيد الإنسان نفسه من جديد في كل لحظة عن طريق الحياة الجميلة". أفكار شيلر هي امتداد -على نحو ما- لفلسفة وأفكار كانط، وكذلك هي امتداد لشاعرية صديقه جوته. هي أفكار الفلسفة المثالية التي تعتبر الوجود هو بمثابة انعكاس لأفكار عقلية أو مُثل أفلاطونية.

 إن أفكار شيلر وروايات وايلد، تعتبر أن الشر والقبح  يأتيان من داخل الإنسان. وكما أن أن القبح ذاتي؛ فإن الجمال أيضا يأتي من الذات. ويستطيع الإنسان أن يُنقذ نفسه من قبحه بالانتصار للجميل فيه. وكأن هناك معنى مثالي غائي للجميل هذا. ومن ثم؛ يصبح الجميل على هذا النحو متعاليًا.  

فريدريش فون شيلر

إن مشكلة هذه الأفكار المثالية: أنها تقف على رأسها- بعبارة ماركس في سياق آخر- ولو حاولنا أن نُعدِّل منها لنجعلها تقف على قدميها؛ سنجد أن الجمال لا يستمد وجوده من عالم الفكر والمثال، وإنما يستمد وجوده من الواقع الاجتماعي والتاريخي. إنه التبدي الكامل للحياة؛ ويتحقق حين يتحرر الإنسان من اغترابه في هذا العالم، وكل خطوة في طريق هذا التحرر هي فعل جميل. ليس التحرر بالانتحار كما فعل بطل أوسكار وايلد؛ لكن بتغيير هذا الواقع وتحسين شروط العيش فيه.

إننا يمكن أن نُخمن على نحو ما صورة المجتمع الحر، الذي لا تقوم العلاقات فيه بين الأفراد على الاستغلال، أو الإرهاب أوالعنف أوالقسوة أوالقمع. نعم، إن الجميل، بهذا المعنى، يمكن أن يصبح وسيلة للإنقاذ بمعناه الحقيقي.