صورة أرشيفية من حريق قطار الصعيد عام 2002 

الشِعر في قطار الصعيد

منشور الأحد 17 يوليو 2016

أجد الشِعْرَ، هذه الأيام، في الأماكن التي لا يوجد فيها الشِعر عادة. يخيّل إلىّ أن السبب في هذا هو أنني أبتعد بنفس القدر عن التصوّرات القديمة عن ما هو "شِعْرِيّ"، وما هو ليس كذلك. لا زال بعض الشعر بشكله التقليدي يطربني؛ لجودة التعبير، أو حلاوة الإيقاع، وأستعيده. لكن المسألة أنني لم أعد أفهم الأسباب التي يحدث ذلك بسببها، ولم أعد أقبل الأمر بتلقائية كما كان يحدث في السابق.

بدأت منذ عدة أيام، في قراءة ديوان لشاعر أميركي يُدعى آيه.آر. آمونز A.R Ammons. الديوان له إسم شاعري بشكل كلاسيكي: "الوريقات تطير من الأشجار كالعصافير". يمكن بالطبع ملاحظة ما فعل الشاعر هنا: شبّه أوراق الشجر بالعصافير، وبدلاً من السقوط على الأرض، فإن الأوراق تطير (تُحَلِّق لفظ أكثر شاعرية طبعًا) في السماء هذه المرة. صورتان مجازيّتان شديدتا البساطة، مزج بين العصافير ووريقات الشجر، والطيران والسقوط.

 لم يعجبني الديوان، وجدته "شعريًا" أكثر من اللازم، مُحمّلاً بكثير من المجازات التي لا تحمل أي شيء إلا لعبها المستمر بالألفاظ. ما شعرت به بالضبط؛ كان شعورًا سلبيًا يصعب وصفه أو التعبير عنه ببساطة. ربما يمكنني التحايل بإستخدام المجاز أنا الآخر، يمكن أن أقول: إنني شعرت أن المعاني -هذا الشيء البعيد غير المدرك- تُمتَهَن، أن الألفاظ تُقحم عنوة لتتحدث عن معانٍ لم تكن لتتحدث عن نفسها بهذا الشكل. هذه هي المرة الثانية التي أستخدم فيها المجاز.

لكنني وجدت الشعر في تصدير الشاعر للديوان، فيما أسماه هو: "الصورة الشعرية الأقوى التي عرفها". يحكي آمونز في هذا التصدير عن وفاة شقيقه الأصغر، الذي يصغره بسنتين ونصف. لم يكن قد مر على وفاته سنة ونصف السنة؛ عندما وجدت والده آمونز آثار أقدام الطفل الراحل على الطين في ساحة المنزل حيث كان يلعب. وشاعِرَة -بالطبع- بألم يتجاوز القدرة على التعبير أو الوصف، حَاوَلت أن تبني حول آثار الأقدام هذه سياجًا وسقفًا، قبل هبوب الريح عليها، الأمر الذي ربما يؤخّر لحظة اختفائها.

هذه ليست صورة شعرية؛ هذا هو الشعر نفسه. هذا الفعل بالذات. ليس وصفه، أو الحديث عنه، ليس أي شيء آخر.

في أحد الكتب الأولى والشهيرة عن الشعر، كتاب "فن الشعر"، يتحدث أرسطو عن أن الشاعر لا يروي ما حدث، لكنه بالأحرى يروي ما يجدر به الحدوث. اعتنقت هذا الرأي لفترة، لأنه يسمح بالخروج عن اللحظة، العلوّ فوقها وتأملها، ربما الإستعلاء عليها، والتأمّل في كل ما يحيط بها من بعيد، وكذلك في احتمالات لحظات أخرى أجمل. لكنني -ربما باستمرار الخيبات- تسللت إلى نفسي فكرة أن الانتباه للحظة مهم، وأن المعاني لا تصنع نفسها، ولا يمكن البحث عنها، وبالتالي فالعثور عليها مستحيل. وكذلك؛ أن الأشياء التي لم توجد منذ البداية، لن توجد أبدًا. ربما يمكنني اختراع مثل له لغة شعرية يُعبّر عن هذا: "التأمّل المستمر في النهر، لن ينبت تفاحة من الماء".

الشعر يحوّل العام المحايد اللامبالي، إلى الخاص الحميمي. الشمس تشرق من أجلك أنت، ربما لأجل عينيّ حبيبتك الواسعة-التي تشبه بئرًا للعطشان- لو كنت تحب وقتها، وليس لأنها نجم ملتهب تدور حوله الأرض، بينما تدور حول نفسها. 

لا يعني هذا أنني أريد أن أفقد المجاز، أعرف قيمة هذه الأداة جيّدًا، وكيف يتحول الإنسان إلى صخرة من غيرها، وأن للتشبيه قوة وأساسًا متينًا في النفس البشرية، وتاريخًا عبر رحلتها الطويلة من الرسم على جدران الكهوف إلى التعبير عن المشاعر بوجه تعبيري على شاشة هاتف ذكي. وأعرف مدى خسارة أن تكون وسيلة التعامل الوحيدة مع الواقع هي الواقع نفسه.

 أريد أن أقرأ القصائد وأن يعجبني الشعر. ربما الأمر هنا، هو أنني مع الوقت، وتكرار الخيبات؛ أريد شعرًا يصف فيه الشاعر عينيّ حبيبته ببئر للعطشان، وهو يدرك أن هذا البئر غير صالح للشرب منه، وأن يقول هذا في نفس الجملة. إنه بئر يعيش في اللغة وينتمي إليها، وأن الوسيلة الوحيدة للحصول على بئر يمكن الشرب منه، هو بحفر واحد، ربما مع نفس الفتاة التي تشبه عيناها فوهة بئر، لو أردنا اكتمال المجاز.

في قطار الصعيد، أحد أكثر وسائل الانتقال شاعرية؛ تزيد مدة السفر عن الأربع عشرة ساعة، سامحة للملل بكسر الحواجز بين الناس بالتدريج، جلس بجواري شاب بسيط الملبس، شديد نظافة الثياب في نفس الوقت. عندما رأي كتابًا في يدي، حكى لي، دون تمهيد مناسب، عن أمه، التي كانت واحدة من أهم المتعلّمين في عائلته، رغم أنها خرجت من المدرسة في المرحلة الإعدادية.

 ماتت أمه في سن مبكرة نسبيًا بعد مرض لم يستمر طويلاً. أخبرني أنها كانت تحفظ الكتب غيبًا، كانت موهوبة بشكل لا يُصدّق. قدرتها على الحفظ والإسترجاع، كانت تثير الغيظ، يخبرني وهو يضحك. كان يشعر بالغيظ من قدرتها على استعادة مقاطع طويلة من النصوص التي كان يقرأها عليها بمجرد سماعها مرة واحدة، تمامًا كما تحكي القصص التراثية إياها.

كانت ترتجل القصائد والأمثال، وتحفظ أشكال الصفحات، وتتذكر ما درسه في السنين الماضية. يتحول الأمر إلى استعراض من نوع ما، وليس مساعدة في المذاكرة. تتحرك هي من مكان لمكان في البيت، تفعل هذا الشيء أو ذلك، وهو ورائها، يحمل الكتاب ويتابع بعينيه السطور، مقارنًا بينها وبين ما يسمعه منها، وهي تضحك مستمتعة. يتعثر أحيانًا في الأثاث وما أُلقي في الأرض، وينتظر أن تُخطيء، لكنها لم تفعل: "أبدًا"، قال لي بتأكيد، "بالفاصلة والنقطة".

ثم أنها ماتت، وأذهله أن كل ما كانت تحفظه، قد ذهب معها. لم يعرف إلى أين بالضبط.

يحكي لي أنه أصيب بحالة تشبه الجنون، أحاط نفسه لعدة شهور، بكل الكتب التي يتذكر أنها ساعدته في استذكارها منذ عدة سنوات، ونسي عنها كل شيء، محاولاً -لسبب لا يعرف عنه أي شيء- أن يحفظها بالكامل. يهز رأسه أن كل هذا انتهى الحمد لله، لكنه في ذاك الوقت، بدا الشيء الوحيد الذي من المنطقي فعله - خصوصًا أنها لم تتخلّص أبدًا من كتبه الدراسية-  أن ينقل كل ما كان في رأسها إلى رأسه. لم تفلح المحاولة بالطبع في أي شيء.

ستظل هذه واحدة من أقوى الـ"صور الشعرية"، التي هي في واقع الأمر، أقوى من الشعر نفسه. الولد الذي يجلس على الأرض في بيته، ممسكًا كتبًا دراسية قديمة مهترئة، محاولاً وضع كل شيء يراه أمامه في رأسه، سياج آخر حول آثار أقدام ستمحوها الريح.

 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.