لقطة من فيلم المحاكمة لأورسون ويلز المأخوذ عن راوية لكافكا بنفس الاسم

كافكا رئيسًا: نبوءة "فيسبوك" الساخرة.. واقعًا سياسيًا مصريًا

منشور الخميس 21 يوليو 2016

مصر بتقول لكم: مكاني مش إللي أنا فيه ده.. مكاني مش كده.. بقى أنا برضه حجمي كده؟ بقى أنا عندكم كده؟ أنا ماتحوجشي وإنتوا هنا.. مصر بتقول لكم ماتحوجشي.. يعني ماناكولشي؟ آه ماناكولشي! يعني منّامشي؟ آه منّامشي!(بحدّة) لاجل هي تاخد مكانها الحقيقي..  الرئيس عبدالفتاح السيسي. 3 يوليو/ تموز 2016

كارل، أوه، أنت كارلي..

في عالم تأخذ الأشياء فيه أحجامًا تتبدل بين آن وآخر، يرسم كافكا في الوقّاد (الفصل الأول من روايته أمريكا) مشهدًا مخاطيًّا، تتخذ فيه الخادمة يوهانّا برومر مع كارل روسمان دور الشّبِقَة التي تتصرف على نحو غرائبي، تمزج فيه بين المزاح والجدية بين رغبتها في امتلاك كارل؛ والعبث به كقطعة حلوى. ففي النهاية هو مِلكها، تتصرف معه على النحو الذي تريد: تضاجعه وتضغط على أنفاسه، تجبره على الاستماع لدقات قلبها، تعطيه أشياء لا يريدها، تضحك معه حين لا يكون هناك مكان للضحك.. يتماس هذا العالم المُتَقَيَّأ مباشرة من أحشاء كافكا مع خطاب الرئيس المرتجل الذي ألقاه في الثاث من يوليو/ تموز الجاري.. "كارل، أوه، أنت كارلي".

اقرأ أيضًا: ميلاد كافكا.. إرث الاغتراب الباقي

خطاب الرئيس بدا امتدادًا لمشهد المضاجعة الذي خطّه كافكا: الدّخان الذي يُطلق في الهواء ليسد فراغ ما بعد الاهتياج، والكلمة التي تقال بعد أن أهدر المرء صوته "كارل، أوه، أنت كارلي!". وأخيرًا هو المزحة الليلية التي تقال، فيأخذها المرء على محمل الجدية ويتأهب ليهمس بها في أذن العالم "مصر محملاني رسالة ليكم!".

منذ خروجه من البدلة العسكرية إلى الرداء المدني (قبل أن يعود للبدلة العسكرية في افتتاح تفريعة قناة السويس)، سيطر الخطاب العاطفي على كلمات الرئيس المتلفزة.

 

الرئيس السيسي في افتتاح تفريعة قناة السويس بصحبة طفل مصاب بالسرطان

الخطاب العاطفي في السياسة يستهدف أن تجري عملية الإدراك لدى المتلقي عبر مشاعره البدائية غير الناضجة، دون العقل. يستخدم تلك التربة الخصبة المهيأة لتمرير وتلفيق الأكاذيب، أو حتى قليل من المعارف التي تعوزها الدقة. عندما تتصدر العاطفة لا يعود هناك موضع للمنطق، فقط العاطفة هي الحكم في عمليتي الإدراك واتخاذ القرار.

ومن هنا يمكن أن نرى كيف يمكن لمتحدث أن يتحكم في ملايين البشر بكلمة، فيلعب على آلام الناس ويقنعهم بإمكانية شفاء أمراضهم المستعصية بجهاز يحوّل الفيروسات إلى أصابع كفتة مغذية، أو يداعب آمالهم فيقنعهم بأن دولتهم المنهارة بحسب كافة مؤشرات التنمية الاقتصادية والسياسية "هتبقى قد الدنيا"، وإثارة نعراتهم الشوفينية "بكرة تشوفوا مصر"، وتمرير إحساس زائف بالحب "نور عنينا". الجرعات العاطفيّة العالية تُسَكِّن الآلام دون أن تعالج أسبابها، وهي الأكثر حضورًا حين لا يجد المرء ما يقال.

 الخطاب العاطفي في السياسة رغم عدم أخلاقيته، إذن، يعطي للمتلقي- إن كانت لديه القدرة على التخلص من الانسياق وراء عاطفية الخطاب- القدرة على قراءة ما وراء الكواليس. والمتابع لكلمة الرئيس؛ يجد أنّها تحتوي على رسالة مجازيّة  تمّ التعامل معها- بحسب الكلمة نفسها على الأقل- بشيء من الجديّة، مما يفسح المجال لتأويلات تتعلق بحالة سرنمة1 في الرّواق الرئاسي.

تسيطر فكرة استجداء المشاعر على كلمة الرئيس، باعتبارها الملاذ الوحيد. في إيحاء بالافتقار إلى الإتيان بأي عمل منطقي من شأنه أن يساعد في كسب دعم المواطنين. فالرئيس لا يكتفي بخطاب عاطفي؛ بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ليستدر رأفة المواطنين ليعيد اكتساب شعبيّة بادية التراجُع.

 

كافكا 2011

الروح الكافكاوية* التي تسكن كلمة الرئيس المرتجلة ليست طارئة على المشهد السياسي المصري، فعقب الثورة المصرية مباشرة؛ كان كافكا حاضرًا وبقوة في العقل الجمعي. ورغم حالة البهجة التي عمت الشارع بعد تنحي مبارك، فإن أفعالاً سوداوية يمكن ردها إلى كافكا قد سيطرت على الشارع ذاته كحالات التحرش الجماعي وكشوف العذريّة، وغياب المعايير المنطقية عن اتخاذ الخيارات السياسية الجمعية. كما تبدت في ثورة الإحباطات التي عصفت بالآمال المصريّة. ليطل علينا وجه كافكا باستمرار تاركًا توقيعه على كل عمل فقد منطقه.

تحت شعار "تقسيم، تفتيت، تقزيم، هدم وإسقاط البلاد"، أنشئت صفحة عبر فيسبوك لدعم ترشيح "فرانز كافكا" لرئاسة جمهوريّة مصر العربيّة بعد الثورة.  

كافكا رئيسا للجمهورية

وصف القائمون على الحملة فكرتهم قائلين: "نظرًا لعبثية الأوضاع التي تمر بها البلاد، وفشل المجلس العسكري، وعصابته وبرلمانه. وعدم وجود مرشح محترم لرئاستها، قررنا المبادرة بترشيح ودعم فرانز كافكا رئيسًا للجمهورية، لما يتمتع به من صلاحيات وحنكة سياسية وأفكار هدّامة ستساعدنا جميعًا لإسقاط دولة العسكر وتخريبها وتفتيتها وتقسيمها وتقزيم دورها".

جاءت الحملة وسط عدد من الحملات الشبيهة التي انتشرت في تلك الفترة لترشيح عدد من المشاهير غير ذوي الصلة بالسياسة، أمثال الفنانين محمود المليجي والراقصة هياتم -وتلك الأخيرة كان لها صدى واسع في تلك الفترة- للتنافس على منصب رئيس الجمهورية، الذي رشح له وقتها 13 شخصًا فاز منهم محمد مرسي.

الحملة عبّرت- مع مثيلاتها من الحملات- عن الوضع الذي آل إليه عدد من المصريين بعد رفع سقف توقعاتهم إبّان ثورة يناير. هذه الحملة بخطاباتها الحاملة لمزيج كافكاوي- مصري، استطاعت استشراف المستقبل بارتداء نظارة كافكاويّة (سوداوية) للغوص في التفاصيل الدالة على مآلات الثورة.

التحرّش الجماعيّ والهوس الإسلاموي كانا من أشد الظواهر كافكاويّة إبان الثورة؛ فبإمكان المرء أن يرى كافكاويّة شديدة الوطأة في كتلة بشريّة- ككتل النّمل- تتحرك مطوّحة على غير هدى، وتقتات على إحدى الفتيات التي تعيش كابوسًا حقيقًا لا مجال للإفلات منه، حيث لا صوت يخرج من الحنجرة، والجسد قد أصبح ملكًا للجمع المهووس حولها جنس، جنس، جنس!

أما الهوس الإسلاموي بدأ مبكرًا منذ "الله وحده أسقط النّظام"، ذلك الشّعار الذي أحال فعلاً بشريًّا جماعيّا جادًّا إلى جهة غيبية وجعلها مهيمنة على الواقع، هادما بذلك أي محاولة جادة للتغيير. ومما يزيد من كافكاويّة  الطرح؛ أن أحدهم لم يسأل: لماذا لم يسقط الله وحده النظام طوال ثلاثين عامًا خلت؟

مصر.. مستوطنة عقاب

لا يمكن الخوض في هذا الحديث دون الاستعانة ببعض من خطب الرئيس ذاتها. التمعن في كلامه بجديّة- يمكن استدعاؤها بصعوبة- يجعلنا نتأكد من حقيقة حضور كافكا فيما وراء الخطاب السلطوي في مصر.

التكرار غير المبرر لبعض الكلمات، الجمل غير مكتملة المعنى، ثم القفز فوق فراغات يُطلب من المتلقي إكمالها حتى يستطيع فهم ما يجري. هذه بعض سمات الخطاب السياسي في مصر، الذي يتلاقى كثيرًا مع خطابات لشخوص كافكاويّة استخدمت طريقة مراوغة في التعبير، كنوع من التمرّد على التقييد اللغوي ربما، أو كطريقة للتأكيد على ضبابية المعنى.

كافكا مثلاً، يعتمد على التكرار لكتم أنفاس القارئ، وهي طريقة لتكريس معنى الاستبداد أو الهوس بأشياء تحوز قيمتها من فعل التكرار ذاته. لنقرأ هذه الترجمة الحرفيّة لمقطع من القلعة..

ومهما كان الأمر؛ فإن التِكرار في النهاية لا يقود سوى إلى نتيجة واحدة؛ هي الهذيان الناتج عن الدوران في فلك الأفكار المستعملة/ المبتذلة. ولعل أقرب مثال على هذا؛ هو احتواء كلمات معظم الأغاني التي توصف في الغالب بالهابطة- مع التحفظ على المصطلح- على عدد من التكرارات غير المُبرّرة، المكرّسة لفكرة تدويخ رأس السّامع حتى لا يسأل عن معنى ما تلتقطه أذناه.

الخلاصة؛ إذا كان التكرار عند كافكا ذا دلالة؛ فإن الأسوأ- والأكثر كافكاويّة (سوداوية) بالطبع- أن يكون التكرار في خطابات الرئيس بلا دلالة على الإطلاق!

الخطاب السلطوي للرئيس كرّس لثنائيّة «إحنا» و«أنتم» للتفرقة بين المدني والعسكري، أو الحاكم والمحكوم. وهي ثنائيّة تقوم بدورها في أدب كافكا على ثنائيّة أخرى هي الخضوع/ السيطرة، أو التقزيم/ التضخيم. جاء في خطاب الرئيس بكلمته في مؤتمر رؤية مصر 2030:

"إنتوا مين؟ إنتوا مين؟ هه! لا.. دول تسعين مليون! وأنا مسؤول قدّام ربنا إني أنا أقف قدامه يوم القيامة أقوله: أنا خليت بالي منهم.. عايزين تخلوا بالكم منهم «معايا»، أهلاً.. مش عايزين... لو سمحتوا.. اسكتوا.. اسكتوا".

هنا يضع الرئيس نفسه- مضخمًا من ذاته- مكافئًا للشعب ومسؤولاً عنه، ليس أمام القانون أو أمام الشعب ذاته، وإنما أمام قوة عليّا غيبية: "الله". ضاربا بذلك أي خطوة للمساءلة. ليظهر بمظهر القائد القديم في مستوطنة العقاب3، أو بمظهر مؤسسة التقاضي كاملة في المحاكمة4.  

 يتعدى الرئيس ضخامة شخوص كافكا؛ فشخوص كافكا- مهما بدا الأمر- يمتثلون في النهاية لقانون صارم أو مجحف. أما الرئيس فيمتثل لنصائح تلقاها في صغره من أقربائه. ووصوله إلى الحكم؛ جاء تلبية لحلم قديم. وهنا تتضح معالم- ليس كافكاوية الرئيس فقط باعتباره ضخمًا- وإنما كافكاويّة الشعب بدوره، باعتباره مادة لتحقيق أحلام فرد واحد، ومادة لتجربة نصائح الطفولة.

الخطاب السلطوي المصري المعتمد على الشوفينية  في كسب ود "الملايين"، يظهر على لسان شخصيات كافكا. فبينما يتحدث الرئيس عن الوطن بصفته "حضن"، يقول الضابط في مستوطنة العقاب "لكنها (آلة الإعدام) تعني الوطن بالنسبة لنا، ونحن لا نرغب في أن ننسى الوطن!".  

صفحة من رواية "في مستوطنة العقاب" المصورة

"جوزف.ك" المصري

 

كلام الرئيس لا يخلو من فكاهة رغم ذلك، لكنّها فكاهة غير مقصودة، وهنا تكمن المفارقة. شاهد طريقته في استدعاء الصبية المشاركين في الاحتفال بانتهاء أنشطة المؤتمر الاقتصادي، وتمعّن في ضحكته واستدعائه لأبوية لسنا بحاجة إليها على الإطلاق. وعلى كلّ حال فهذا أمر يجعل من المزيج الجروتسكي5 الكافكاوي متكامل الأركان: الطرافة، الوحشيّة، اللامعقول.

يقول ميلان كونديرا عن كافكا: "في رواياته وقصصه، يصف العقاب الفظيع لأولئك الذين لا يريدون أن يسمعوا الكلمة ولا يتّبعون الطريق القويم".**

وهكذا يرى الرئيس نفسه كمراقب في بانوبتيكون6 كبير يتسع للجميع: "مصر". حارس له سوط مهيأ للجميع، وحبل الإعدام يمكنه أن يتسع لرقاب كثيرين.  

لقطة من فيلم "المحاكمة" - أورسون ويلز- 1962

إن الطريقة التي يطرح بها الرئيس نفسه قد تعدت كافكا، الذي كان منشغلاً دومًا باللحظة الرّاهنة. بينما الرئيس دائما ما يتحدّث عن الماضي ويستدعيه بفخر، ويتحدّث عن المستقبل ويلهب أماني الشّعب بإنجازات كبيرة فيه، لكنه يسقط الحاضر بمن فيه من خطابه وخططه. يسألنا أن "نصبّح" بأموالنا على "مصر" لأجل الأيام القادمة في المستقبل، لكنه ينسى أننا نحتاجها لأجل الأيام الحالية، في الحاضر.

في مستوطنة العقاب التي تظهر بأنها في حاجة ماسّة إلى إجراءات إستثنائية، وأن النظام العسكري ينبغي أن يطبق فيها إلى أقصى حد، يظهر القائد القديم باعتباره الميكانيكي، الجندي، القاضي، الكيميائي، الرّسّام. ألا يذكرنا هذا بشيء؟ ربما بـ "المخلّص" كما وُصف؟ أو ربما بطبيب يعرف العلة ويصف العلاج ويلجأ إليه الفلاسفة؟

مرة أخرى تطرح الكافكاوية نفسها في الفترة الأخيرة بشدة، بل يتفوق الواقع المصري على الخيال الكافكاوي اللامعقول، ويتعداه إلى لا معقول مصري خالص. ولنبدأ من عند كافكا الذي يبدأ رواية المحاكمة بعبارة

هذا المقطع المصور عاليه؛ تجاوز في لامعقوليته ما للنص الكافكاوي من قوة. فبينما كان لجوزف. ك الحق في أن يماطل أو أن يوكل عنه محاميًا لو كان الأمر كله في إطار مؤسسي؛ فإن هذا الشاب المصري مجهول الهويّة فقد - لمجرد مروره بجانب سيارة الشُرطة- الحق في أي شيء. واستقبل جسده- كما يظهر- عددا من الضربات، لم يجد كافكا ما يبررها بالنسبة لجوزف ك. أمر آخر يشير إليه كافكا وهو احتمالية وجود من وشى بجوزف كي يتم اعتقاله، الأمر الذي لا يُحتمل في حالة الشّاب المصري.

هذا من جانب. ومن جانب آخر يلوح المسخ/ الانمساخ كمقابل لما حدث للشّاب باعتبار أن مقارنة هذا الشاب ببطل المحاكمة جوزف.ك هي مقارنة غير عادلة. الأمر الذي يجعلنا نقارن الشاب بجريجور سامسا، ذلك الشّاب الذي استيقظ ذات صباح من أحلام مزعجة ليجد نفسه قد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة.

الشّاب تماما كجريجور سامسا؛ لم يقترف شيئًا، ولم يؤذ أحدًا. الاختلاف يكمن في أن جريجور سامسا خرج من حلم مزعج، بينما ولج هذا الشّاب الحلم المزعج بقدميه حين مر بجانب سيارة الشرطة. حلم جريجور سامسا هو في النهاية حلم عاشه بشكل فردي، بينما الحلم المزعج الذي طال هذا الشّاب، عاشه ويعيشه آلاف الشباب والمواطنين المصريين.

الشّاب المصري يتنقل بين أعمال كافكا، حيث نراه أيضا في شخصية المحكوم عليه في "في مستوطنة العقاب"، الذي لم يجد الضابط سببًا كي يخبره بالحكم الذي يستحقه عقابًا على الذنب الذي اقترفه. ففي مستوطنة العقاب يمكن القبض على شاب ومعاقبته عقابًا غير محدود بتهمة عدم تأدية التحيّة العسكريّة.

مجتمعيًا؛ تحتل التيمة الأبويّة في الخطاب السلطوي وحتى الخطاب الجمعي والفرداني في مصر مكانة متقدمة، تستمد سلطتها من هيراركيتها الشاملة للمجتمع7. وهي تيمة طرحها كافكا في روايته "الحكم"، حيث يجد الابن نفسه محكومًا عليه بتنفيذ رغبات والده.  

يجد الابن نفسه محكومًا عليه بتنفيذ رغبات والده 

في الواقع المصري نجد أن الحاكم هو أب، والمجتمع أب، والأخ الأكبر هو أب للأخت/ للأخ الأصغر. نتيجة لذلك أنت مجبر على طاعته حتى لو طلب منك أن تغرق نفسك في اليم، أو أن تعطيه عنقك لينحره بحسب الأمثال الشعبية المتوارثة. يظهر في النهاية أن المصري/ المصريّة هي ابنة لعدد كبير من الآباء الذي يمارسون التسلط عليه/ عليها بأشكال مختلفة.

الدين في مصر أيضًا لا يقل كافكاوية عما سواه. فالتدين الشعبي المصري يختطف المصريين من الجديّة. وفي مناسبات عدة شَكّل الدين عقبة أمام محاولات التغيير، فأي جدوى من تغيير عالم زائل بالضرورة؟ وبهذا يصبحون عبيدًا للفناء، يتماهون مع فكرة كونهم ميتين يوما ما.

 المصري يرى نفسه مشروع ميت واجب الصيرورة، وعليه يترجم العقل الجمعي المصري هذه الصيغة إلى تصرفات تسير في الاتجاه نفسه. هذا الاتجاه الذي يدعّم هامشيّة الفرد وضآلته - مقارنة بالسلطويين الكبار دينيا وسياسيًا- يجعله يرتكب بعض الأفعال شّديدة الغرابة من تفاهتها، مثل حالات التحرّش بدُمى عرض الملابس (المانيكان). فهذا الفعل- بعيدًا عن تفسيرات فرويد- ليس ناتجا عن رغبة جنسيّة قويّة؛ بقدر ما هو ناتج عن إحساس بالضآلة والهامشيّة تبدت كثيرا في حياة وأدب كافكا.

لقد تجاوزنا كافكا منذ مدة كبيرة. وأصبح بإمكان الفرد الحديث عن حالة من الهوس، يمكن لكافكا- الذي هو أعتى الكتاب سوداوية- أن يقف أمامها عاجزًا.


(*)- الكافكاوية: يشار بها إلى العناصر الرئيسة في أدب كافكا، من مغالاة في اللامعقول ورسم الشخصيات في ظروف قاتمة ومربكة، يتعرضون فيها لقسوة غير مبررة. والمقصود هنا هو وجود حالة من مجافاة الواقع وفرض واقع جديد قاتم وقاس من خلال خطابات وقرارات رأس السلطة التنفيذية. 

(**)- ميلان كونديرا، الوصايا المغدورة، ترجمة "معن عاقل"، الأوائل للنشر والتوزيع، سوريا.

1 - السرنمة: مصطلح يختصر تعبير "السير أثناء النوم" والمقصود هنا هو تصدير خطاب مجافي للواقع، يوحي بوجود حركة، لكنها ليست فاعلة، ولا تحقق لصاحبها فائدة، تمامًا كالسير أثناء النوم.

2 -  في مستوطنة العقاب: قصة قصيرة نشرها كافكا في 1914. تطرح أفكارًا حول حب التسليم للسلطة وإن كانت مخطئة، ومقاومة التغيير.

3- المحاكمة: رواية لكافكا نشرها عام 1925، وفيها يخضع رجل يدعى جوزف.ك للمحاكمة على جريمة لا يعرفها ولا يتذكر تفاصيلها.

4 - الجروتسكية  grotesque: مصطلح يستخدم لوصف الأعمال الفنية التي تحتفي بالقبح والبشاعة. أو تبرزها باعتبارها حقائق حياتية لا ينبغي اقصاؤها أو التغافل عنها أو احتقارها.

5 -  البانوبتيكون: مخطط لسجن وضعه الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام. واستدعاه كثير من الفلاسفة على رأسهم ميشيل فوكو في مناقشتهم لأفكار السجن والحكم والمجتمع. ويعتمد تصميم السجن على أن فردا واحدا يمكنه مراقبة الجميع، بحيث يراهم ولا يرونه، وبعد فترة سيعتاد المساجين على الانضباط خشية مراقبة هذا الحارس، حتى لو كان برج المراقبة خاليًا من الحراس.

6 - الهيراركية: مصطلح يستخدم للدلالة على الترتيب الهرمي (الطبقى والأبوي) للمجتمع. والذي يتضح فيه مكانة المؤسسات والطبقات وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ببعضها البعض.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.