صورتان، أعلاهما هي الصورة التي نشرتها الاعرام في سبتمبر 2010 بعد تعديلها لوضع مبارك في المقدمة، والسفلى هي الصورة الحقيقية

إصلاح الإعلام يبدأ من الأهرام

منشور الأحد 19 يونيو 2016

في زمن ليس ببعيد، ظهر الرئيس الأسبق مبارك على السجادة الحمراء، متقدمًا أوباما والملك عبد الله وغيرهما، في صورة مزيفة نشرت في جريدة رسمية  بعدما عبثت بها أيدٍ غير مهنية، تملقًا للرئيس، الذي كان في الصورة الأصلية آخر الرؤساء في صف ضيوف الرئيس أوباما خلال قمة للسلام استضافها منتجع شرم الشيخ في سبتمبر 2010. مثّل نشر تلك الصورة التي عُرِفَت بالصورة التعبيرية ؛ أوج عصر اضمحلال الصحافة الرسمية، عصر بدأ بظهور سوءاتها مع بزوغ جرائد سُمِّيَت وقتها "المستقلة". ليس لأنها بلا انحيازات سياسية؛ ولكن لأنها بدت أكثر احتراما لقواعد المهنة.

ففي مهنة الصحافة، تأتي المصداقية - ومن ثم المبيعات - من تحقق المهنية، وتتآكل المصداقية مع تراجع الالتزام بالقواعد المهنية، وليس بسبب الانحيازات السياسية. لكن في لحظة لاحقة، شهدت مصر تحولاً في الاتجاه العكسي، حيث عادت الصحف الرسمية تتصدر المبيعات، في مقابل تراجع الصحف الخاصة لنفس السبب: نقص المهنية في الصحف الخاصة.

في أيامنا الحاضرة، تعود إلى الأذهان صورة ظن قراء الصحف الرسمية أنها ذهبت إلى غير رجعة، بعد خمس سنوات من عملية الإصلاح المعلنة للمؤسسات الرسمية، وعلى رأسها الأهرام. فماذا حدث؟ لماذا تظل الجرائد الرسمية ومن قبلها قنوات ماسبيرو إذاعة وتليفزيونًا، وكأنها حبيسة الدور الأوحد؛ دور ميكروفون الدولة؟

ويستدعي السؤال المقارنة الأشمل: لماذا يظل الفارق بين قنوات البي بي سي وقنوات ماسبيرو قرونا ضوئية؟

 فعلى الرغم من أن كليهما ممولان من جيوب المواطنين، إلا أن الأولى هي وسيلة إعلام خدمة الشعب (إعلام الخدمة العامة) في حين تظل الثانية وسيلة إعلام الدولة. فلماذا لا تتمكن قنوات ماسبيرو من تحقيق المعادلة الهادفة إلى تقديم المعلومة والتعليم والترفيه inform, educate, entertain  التي هي شعار إعلام خدمة الشعب؟ لنبدأ بالإجابة على السؤال الأهم..

 

لماذا ماسبيرو؟

 

مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون في مصر - ماسبيرو

يتساءل البعض: لماذا الاهتمام بهذا الديناصور العملاق المريض؟ أليس من اﻷفضل تركه إلى الانقراض؟ في الواقع لا.

تأتي كثير من الدعوات الحالية بإبادة التليفزيون الرسمي، أو إعادة هيكلته بحيث يتم عمليًا بيعه للقطاع الخاص، أو تركه يحتضر على فراش الموت، متأخرة عن مثيلاتها العالمية عشرين عامًا، حين كانت الليبرالية الجديدة في أوج مجدها، تنادي بأن مستقبل الإعلام شأنه كأي سوق- هو للقطاع الخاص الأكفأ.

 ولكن ثبت من التجارب الدولية في خصخصة "سوق" اﻹعلام في انجلترا وأستراليا وكندا ودول أوروبا الشرقية وألمانيا، أنه لا غنى عن إعلام خدمة الشعب، وذلك بعد أن سادت البرامج الهادفة للربح ذات المحتوى المتشابه شاشات العالم، في حين غابت برامج أخرى يحتاجها المتفرجون. مثّل هذا فشلاً للسوق، يستلزم وجود إعلام الخدمة العامة.

خلال العقود الماضية، نجحت قنوات إعلام الخدمة العامة حول العالم في الصمود، على الرغم من فتح السوق أمام المنافسة الشرسة للقطاع الخاص. ففي حين لم يعد أحد يشاهد أو يسمع الإذاعات والقنوات الرسمية المصرية؛ تشير التجارب الدولية أنه في وجود إعلام خدمة الشعب، عبر وسائل البث التقليدية (إذاعة وتليفزيون) والحديثة (إنترنت)، فإنه يحوز على النسب اﻷعلى للمشاهدة والتعرُّض؛ حيث تصل نسب مشاهدة المواطنين لإعلام الخدمة العامة إلى 90٪، في كل من ألمانيا وانجلترا وفرنسا وجنوب أفريقيا والنرويج واستراليا وكندا واليابان، بحسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.

وتقول نفس المنظمة في أحد تقاريرها الصادر في عام 2011 : "من الواضح أن الساحة الإعلامية العالمية صارت محصورة بين نموذج الإعلام المسيطر عليه من الدولة؛ حيث تتحكم النُخب الحاكمة فيما يبث كي تقوي من قبضتها على السلطة السياسية، والنماذج التجارية؛ التي لا تلتفت إلا لمنطق الربح وعائدات الدعاية والإعلان. ومن ثم فإن السبيل الوحيد هو حماية وتشجيع الصالح العام من خلال تقوية إعلام الخدمة العامة".

ماسبيرو لا غنى عنه إذن.

أولا: لأن وجوده ضروري لتصحيح أخطاء السوق. فالباحث عن الربح يتجه إلى إنتاج أنواع محددة من البرامج، ومن ثم يبقى الطلب على أنواع أخرى من البرامج في السوق الإعلامي غير مُلَبَّى. فعلى سبيل المثال لن تجد في القنوات الخاصة البرامج التي تقدم نصائح شراء للمستهلكين، وتوضح أضرار ومزايا المنتجات والخدمات المطروحة في الأسواق. وذلك على الرغم من أنها قد تعجب جمهورًا واسعًا ويُقبل عليها. ولكنها لن تعجب شركات الدعاية واﻹعلان، ﻷن الشركات المنتجة والمعلنة قد تغضب من كشف سوءاتها. ومن ثم فلن ينتج القطاع الخاص مثل تلك البرامج، على الرغم من وجود طلب كبير عليها.

ثانيا: يلعب إعلام خدمة الشعب دورًا مكملاً للسوق، حيث توجد نوعية أخرى من البرامج، لا يوجد عليها سوى طلب ضئيل. ولعل أشهر مثال هو البرامج الثقافية والفنية. أو تلك التي يقل الطلب عليها بسبب عدم معرفة الجمهور بأهميتها، مثل برامج تربية اﻷطفال الغائبة عن التليفزيون المصري. هذه النوعية الاخيرة بالذات يُخشى أنه في حالة تصدي القطاع الخاص لإنتاجها؛ فإنها قد تخضع لضغوط من الشركات المعلنة لترويج منتجاتها الخاصة باﻷطفال، حتى لو لها أضرار عليهم.

كما ترون، لا يتعلق الأمر أبدا بأمور السياسة وحدها، بل بالتنوع في المحتوى.


أين صوتي وصورتي؟

 

توضح تجربة انتشار القنوات الخاصة في مصر تقلصًا كبيرًا في تنوع البرامج. في البدء سادت برامج التوك شو السياسي الشاشات كلها، ثم كان التحول الجماعي إلى برامج ترفيه متشابهة، مثل النسخ المختلفة من المسرح التليفزيوني أو من مسابقات المواهب الفنية. كما تستبعد تلك البرامج الكثير من فئات الشعب اﻷقل دخلا، حيث تركز على الموضوعات والشخصيات التي تهم فئات الدخل العليا، باعتبارها الأكثر قدرة على شراء المنتجات المُعلن عنها في تلك القنوات. هذا إلى جانب تحقُّق ظاهرة تعرف عالميا بأَسْر الإعلام  media capture، حين ينتمي أصحاب القنوات الإعلامية إلى الشرائح الأغنى من المجتمع، فلا يعبرون إلا عن مصالحهم وحاجاتهم.

وتأتي سيطرة القنوات الخاصة، المدعومة من حكومات، كما في الحالة المصرية، في الوقت الذي فشلت فيه كل محاولات إصلاح ماسبيرو من خلال منهج تغيير القيادات مع الإبقاء على نفس عقيدة اﻹعلام الرسمي. ومع اشتداد المنافسة، صارت القنوات الحكومية تحاول تقليد القطاع الخاص، وذلك بدلاً من التميز عنه عبر التمسك بالسمات الثلاثة لإعلام الخدمة العامة؛ وهي الاستقلالية والتنوع والتعددية، مع تحري الإبهار عبر جودة نوعية المحتوى. والنتيجة: لم يعد المشاهد يثق في نوعية المعلومات التي يتلقاها عبر ماسبيرو.

كما لا يجد أغلب المواطنين، على تنوع أقاليمهم وأشكالهم وأعمالهم وأعمارهم، لا أصواتهم ولا حيواتهم ممثلة في برامج ومسلسلات تلك القنوات. وأخيرًا، لا تضيف قنوات الإذاعة والتليفزيون الرسمية التي تفوق الخمسين أية إضافة إلى معارف هذا الجمهور بشكل راقٍ ومسلٍ.

لهذا كله، عادت إلى الضوء من جديد؛ حسنات إعلام الخدمة العامة حول العالم. وعزز من الاعتراف بأهميته؛ فشل تجارب خصخصة الصحف في أوروبا الشرقية وسواها من تجارب خصخصة الإعلام حول العالم. فإذا كنا لا نستطيع أن نتخلص من تلك الوسائل فلا مناص من إصلاحها.


اﻷهرام؛ بالونة اختبار

 

جانب من أحد مباني مؤسسة الأهرام 

على عكس ماسبيرو، عادت الأهرام لتتربع على عرش الصحف. عادت مدفوعة بعدد من الإصلاحات، على رأسها إطلاق مواقع إليكترونية ذات خط تحريري مستقل نسبيًا، مما جذب شريحة جديدة من القراء الشباب. كما تخلصت المؤسسة من طبقات من الفاسدين إداريًا وصحفيًا، عبر إزاحة عدد من القيادات الصحفية والإدارية خلال السنوات الخمس الماضية، مما حسن من سمعتها. وسبق ذلك كله؛ اعتراف بالذنب المهني الأكبر الذي ارتكبته في حق قرائها خلال تغطيتها المنحازة لأخبار ثورة يناير. فكان الاعتذار في صبيحة تنحي مبارك متمثلا في مانشيت "الشعب أسقط النظام".

وهكذا، بعد تغيير ست رؤساء مجلس إدارة، وست رؤساء تحرير؛ صارت الأهرام في وضع أفضل من حيث الاستقلال المالي والحوكمة الرشيدة، وذلك يجعلها أقرب إلى استيفاء اثنين من الشروط الأربعة اللازمة للتحول إلى إعلام خدمة الشعب. ولكن يبدو كل ذلك الآن مهددًا بسبب غياب رؤية الإصلاح عبر مبادئ إعلام الخدمة العامة، حتى في مشروع القانون الذي يقدمه المجلس الأعلى للصحافة حاليًا تحت اسم قانون الصحافة والإعلام المُوَحَّد. لماذا؟ فتش عن الخوف.

هو الخوف الذي يدفع أمثال مصطفى بكري لأسخف اقتراح ممكن تخيله، وهو أن تتركز سلطة اختيار أقطاب الرأي والتعبير (رؤساء تحرير الصحف) في يد رئيس الجمهورية، ضمانًا للولاء.

والنتيجة معروفة سلفًا، لأننا نعيشها. فالقيادات لا تنشر سوى ما يرضى عنه الحاكم- الحكام، والجمهور يتحول إلى غيرها بحثا عن المصداقية والمهنية.

الخوف كل الخوف من إعلام مستقل حر، لا يوجه رسالة من طرف واحد إلى المتلقين، ولكن يسعى إلى أن يقيم حوارا بين طرفين، وذلك بحسب دراسة للبنك الدولي (2011) عن الإعلام في الدول التي تمر بانتقال نحو الديموقراطية. ويكون الضامن لنجاح الإصلاح هو إتمامه. أي تبني الشرطين الآخرين المتعلقين بضمان استقلال التحرير، والذين يتميز بهما إعلام خدمة الشعب..

والدافع من وراء اختيار الأهرام، كنقطة بداية، أنها مؤسسة كبيرة وقوية بما يكفي لأن يغري نجاحها بتكرار التجربة، (وهو ما سنتناوله تفصيلاً في مقال لاحق)، ولكنه صغير بما يكفي، بالنظر إلى محدودية عدد القراء (بضعة مئات من الآلاف) نسبة إلى 90 مليون مشاهد ومستمع لماسبيرو. وبذلك فإن الأهرام يصلح كبالونة اختبار. من شأن نجاح الإصلاح فيها أن يطمئن الأجهزة الحكومية التي تخاف من تحويل ماسبيرو إلى جهاز إعلام خدمة الشعب. فما مسرح الإعلام إلا أهرام كبير.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.