صورة لسجن تدمر من الداخل قبل تفجيره من قبل تنظيم الدولة الإسلامية

القوقعة.. يوميات سوري في "السجن الصحراوي"

منشور الأحد 26 يونيو 2016

في منتصف عام 2015، قام ما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام بتفجير سجن تدمر الواقع في مدينة تدمر في وسط سوريا، والقريب من ريف مدينة حمص. ذلك السجن الذي كثيرًا ما يُروى عن الفظاعات التي كانت تحدث بداخله، وبالأخص مع المعتقلين الإسلاميين في ثمانينيات القرن الماضي، وذلك إثر الصراع الذي دار بين النظام الحاكم في سوريا والذي كان يترأسه حافظ الأسد والد الرئيس الحالي بشار الأسد من جهة، والإسلاميين وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين من جهة أخرى، ذلك الصراع الذي كان من بين تبعاته ما عُرف تاريخيًا بمذبحة حماة والتي ارتكبها النظام عام 1982، كما كان من بين تبعاته القبض على العديد من الإسلاميين والزج بهم في السجون، وبالأخص سجن تدمر الصحراوي. 

في روايته "القوقعة.. يوميات متلصص"، يروي - أو بمعنى أصح يوثق - مصطفى خليفة الفظاعات التي كانت تحدث فيما أسماه في روايته "السجن الصحراوي" كناية عن "سجن تدمر". ولد مصطفى خليفة بمحافظة حلب بالشمال السوري واشتغل بالسياسة في شبابه، ونتيجة لذلك اعتقله النظام السوري مرتين، وفي المرة الثانية قضى 15 عامًا تنقل خلالها بين أكثر من سجن، كان من بينها سجن تدمر، والذي تدور بداخله معظم أحداث الرواية إن لم تكن كلها.

 

غلافة رواية "القوقعة" لمصطفى خليفة، عن دار الآداب

تبدأ الرواية بمشهد توديع في إحدى المطارات الفرنسية بين بطل الرواية وصديقته، والبطل شاب سوري مسيحي أتم دراسته للإخراج بفرنسا وقرر أن يعود لبلده سوريا لأنه وكما قال لصديقته ظن أن البلد في حاجة إلى أمثاله، ولكن بمجرد وصوله للعاصمة دمشق، يُقبَض عليه ليتم ترحيله لمقر مخابراتي، ليجد نفسه متهمًا بالانضمام لجماعة الإخوان المسلمين، والتي كانت تخوض صراعًا مسلحًا ضد النظام السوري منذ منتصف السبعينيات حتى بداية الثمانينيات من القرن المنصرم، وكانت إحدى الحوادث الهامة في ذلك الصراع هو فتح النقيب بالجيش السوري إبراهيم اليوسف، وكان منتميا لتنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، النار على طلاب مدرسة المدفعية بحلب، وكانوا في معظمهم من الطائفة العلوية، واستمر ذلك الصراع حتى وقوع ما عُرف بمذبحة حماة في عام 1982، والتي نفذها رفعت الأسد شقيق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد وقائد ما كان يُعرف بسرايا الدفاع.

يجلس البطل، الذي لا نعرف له اسمًا طوال صفحات الرواية، في المقر المخابراتي بضعة أيام، يحاول خلالها أن يقنع المحققين، أو بمعنى أصح الجلادين، بأنه مسيحي، بل وملحد أيضًا، فكيف يكون عضوًا بالإخوان المسلمين، وأنه لا بد من وجود خطأ ما. ولكن كل ذلك لم يفد بشيء، إذ تم ترحيله إلى سجن تدمر. وبمجرد الوصول إلى السجن، بدأت حفلة استقبال الدفعة الجديدة من السجناء المكونة من 91 شخصًا، ونتج عن الحفلة وفاة 13 منهم، وأصيب اثنان بشلل دائم، وصار أحدهم أعمى لتلقيه ضربة كرباج على عينيه. كرر البطل محاولته إقناع الجلادين أنه مسيحي، ولكن تصريحه جعلهم يكثرون من ضربه، إذ اعتبر المساعد أن جريمته مزدوجة، فلماذا ينضم هو المسيحي لجماعة الإخوان المسلمين؟

توثق الرواية للعنف والتعذيب الممنهج الذي كان يُمارَس داخل السجن بحق المعتقلين وهم في معظمهم من الإسلاميين، حيث كان سجن تدمر شبه مخصص لتلك الفئة من المعارضة السورية، على عكس الشيوعيين الذي كانوا نادرًا ما يوضعون في سجن تدمر، وحتى إن وُضعوا هناك كان ذلك لفترت قصيرة كما حدث مع ياسين الحاج صالح الكاتب السوري، والذي قضى عامًا واحدًا في سجن تدمر من بين ستة عشر عامًا قضاها في السجون السورية كما أوضح في كتابه "بالخلاص يا شباب". 

ووفقًا لرواية "القوقعة" فإن التعذيب في سجن تدمر هو القاعدة وليس الاستثناء؛ فعندما يخرج المساجين للتنفس في ساحة السجن هناك تعذيب وإذلال يتفنن فيه السجانون، إذ تعرض بطل الرواية للبصق داخل فمه من قبل أحد السجانين، وأٌجبر على ابتلاع المُخاط، وأُجبر سجين أخر على ابتلاع فأر كان دهسه أحد الرقباء. وهناك قاعدة أخرى في السجن، وهي أنه لا يمكن للسجين أن يرفع عينيه في عيني سجانه، فيجب عليه أن يظل منكس الرأس وإلا تعرض للتعذيب في حالة مخالفة ذلك. وحتى حينما يخرج المساجين للاستحمام وبمجرد خروجهم من المهاجع عليهم أن يركضوا بين صفين من الجنود الذين يبدأون في ضربهم بالعصي والسياط.

 

فلاحو سوريا

 

تحيل الرواية أيضا إلى أمر كثيرًا ما يشار إليه في الأدبيات، وعلى رأسها على سبيل المثال كتاب حنا بطاطو "فلاحو سوريا: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم"، التي كتبت عن سوريا وبخاصة بعد وصول حافظ الأسد لسدة الحكم بعدما انقلب على صلاح جديد عام 1970، وهذا الأمر هو خلفية معظم المنتسبين للأجهزة الأمنية والعسكرية في سوريا، وهم في معظمهم أشخاص من الريف، وبالأخص من منطقة الساحل التي تعتبر معقل الطائفة العلوية في سوريا.

يوضح الراوي في "القوقعة" كيف يأتي معظم الجنود، والسجانون بشكل عام، من هذه المنطقة، ويوضح كيف كان يتم تحويلهم لوحوش تتعامل بكثير من القسوة والعنف مع المساجين، ووصلت تلك القسوة والحقد لأن يقوموا بضرب جثث المساجين بعد إعدامهم في ساحة السجن وهم يسألونهم "لماذا تعملون ضد الرئيس؟" وكأن لسان حالهم يقول: "أتريدون أن تعيدوننا إلى الجبال بعد أن حصلنا على السلطة؟ أتريدون أن تعيدونا مجموعة من الفلاحين المهمشين بعد أن أختبرنا حياة المدن والوظائف في البيروقراطية الحكومية والجيش؟"

تشير الرواية أيضا إلى نقطة أخرى ذكرت في كتاب بطاطو وهي مسألة سيطرة أبناء طبقة الفلاحين، وخاصة العلويين منهم، على الجيش، وما نتج عن ذلك من استغلال هؤلاء الأشخاص لنفوذهم للحصول على مكاسب مادية بطريقة غير مشروعة وهو الأمر الذي ارتبط أيضا باقتصاد القمع الذي نتج عن اختفاء أو حبس الآلاف من الأشخاص في سوريا، حيث يعمد أهالي هؤلاء إلى دفع مبالغ مالية ضخمة من أجل الحصول على معلومة تخص ذويهم أو لكي يتمكنوا من زيارتهم. وبالمناسبة فهذا الأمر مستمر حتى يومنا هذا، نتيجة للآلاف من حالات الاختفاء القسري الحادثة في سوريا، خلال الصراع الدائر منذ خمس سنوات. 

يتوقف الزمن في سجن تدمر وفقًا لأحداث الرواية، فلا زيارات تأتي لهؤلاء المساجين، لا كتب ولا أوراق ولا أقلام، ولكن أحد المديرين الذين تعاقبوا على السجن كان رحيمًا، وسمح بالزيارات، ولكن ثمن تلك الزيارة كان كيلو من الذهب يعطيه ذوو السجين لوالدة مدير السجن. وعندما قام المساجين بإحصاء كيلوات الذهب وفقًا لكل زيارة، وجدوا أن المدير حصل على 665 كيلو ذهب مقابل الزيارات. الأمر نفسه حدث مع طبيب السجن، الذي قتل كل زملاء دفعته من كلية الطب المحبوسين بالسجن، وذلك لأنهم كانوا شاهدين على واقعة محرجة حدثت بينه وبين فتاة أثناء الجامعة، فحينما تفشى الجرب في السجن ولم يوافق الطبيب على تدبر العلاج للمساجين، قام المساجين بجمع مبلغ كبير من المال أثناء زيارات ذويهم، وأعطوه للطبيب على سبيل الرشوة حتى يتدبر لهم الدواء.

عاش بطل الرواية طوال فترة تواجده في السجن داخل القوقعة، وأخذ يتلصص من خلال قوقعته تلك على باقي المساجين داخل المهجع، ويتلصص أيضًا على ما يجري في إحدى ساحات السجن من تنفيذ لإعدامات ميدانية وغيرها من الأحداث وذلك من خلال فتحة في الحائط المجاور للموضع الذي كان ينام فيه داخل المهجع، ولذلك سميت الرواية "القوقعة: يوميات متلصص". فرضت ظروف السجن على الراوي تلك القوقعة، وكذلك فرضها عليه المساجين الآخرون، الذين كانوا ينفرون منه لأنه مسيحي كافر، فكان لا يتكلم مع أحد ولا يكلمه أحد حتى أصبح يشتاق للكلام. ولكن سرعان ما وجد بطل الرواية رفيقًا له في نفس المهجع يُدعى نسيم والذي درس هو الآخر في فرنسا.

في نهاية الرواية يتم ترحيل بطل الرواية إلى فرع أمني في العاصمة ليكتشف أن خاله الذي ينتمي للحزب الشيوعي أصبح وزيرًا يحاول أن يساهم في الإفراج عنه، وتنقل بين عدة أفرع أمنية، واكتشف أن سبب توقيفه في المطار منذ ما يقرب من 13 عامًا هو تقرير كتب عنه من أحد الأشخاص أثناء تواجده في فرنسا.

خرج بطل الرواية بعد 13 عامًا قضاها في ذلك السجن الصحراوي، خرج ليُصدم بغربته عن ذلك العالم وعدم تفهمه له، وبعد فترة لحقه نسيم رفيق المهجع، فذهب للقائه في مدينته الساحلية لينتحر نسيم من فوق سطح البناية التي يقطن بها ويقول لرفيقه أنه يهديه موته.

تُصور الرواية المشاهد المفجعة من التعذيب والإذلال الذي كان يتعرض له السجناء في سجن تدمر، مما يجعلها من أروع، وفي نفس الوقت من أفظع، ما يمكن أن تقرأه. 

وللمفارقة فإن من دمر سجن تدمر في النهاية هم الأشخاص الذين نقلوا ممارسات السجن للعلن ولخارج الأسوار، فتنظيم الدولة الإسلامية يمارس نفس الفظاعات التي كان النظام السوري يمارسها في سجن تدمر، فيقطع التنظيم الرؤوس ويجلد المخالفين له في الشوارع علانية أمام مرأى الجميع. وكأن قدر السوريين هو أن يعاينوا بأنفسهم ما كان يحدث سرًا داخل الأقبية الأمنية والسجون، وهذه المرة ليس على يد النظام فقط ولكن على يد العديد من التنظيمات المتشددة التي تسيطر على مساحات كبيرة من الأراضي السورية.