لماذا لن يسدل الستار على "أفراح القبة"؟

منشور الأحد 19 يونيو 2016

"اللعنة على الماضي والحاضر، اللعنة على المسرح والأدوار الثانويّة". تلك العبارات التي يرددها طارق رمضان - يقوم بدوره إياد نصّار- في مسلسل "أفراح القبة"، هي مفتاح قراءة أسئلة المسلسل.

في "أفراح القبّة"، تكاد تتلاشى الحدود الزمنية  والمكانية على حد سواء. لا نعرف إن كان ما نراه على الشاشة ينتمي لماضي الشخصيات؛ أم لحاضرها. وما إذا كانت تفاصيل المأساة التي تستعرض نفسها أمامنا قد حدثت في واقعهم؛ أم على خشبة المسرح. فالماضي هو تاريخ الحاضر، والمسرح هو كل مكان نتصارع فيه على الدور البارز والبطولة. لكن كل هذا الصراع يدور في الزمن الميّت الذي تتحرك فيه أحداث المسلسل، بينما تحتكر المأساة وحدها دور البطولة.

والمأساة هنا ليست مصرع تحيةّ/ منى زكي؛ وإنّما حقيقة ميلاد "تحيّة" جديدة كل يوم، وحقيقة مصرعها كل يوم، طالما استمر تحالف القهر السياسي والاجتماعي مع التواطؤ، لينتجا في نهاية اليوم حالة من التطبيع مع ذلك التحالف المشوه.

منى زكي في دور تحية عبده 

هذا التعدد الزمني، إلى جانب تلاشي الحدود الفاصلة بين الأحداث التي تدور على خشبة المسرح، وبين واقع شخصيات المسلسل خارج المسرح؛ خلق تعددًا في مستويات السرد داخل المسلسل، تعامل معها كاتب النص الدرامي بحرفية شديدة دون تلفيق أو مبالغة أو إدعاء. خاصة إذا أضفنا لتلك المعادلة الدرامية: العلاقة بين النص الأصلي الذي كتبه نجيب محفوظ وتاريخيته؛ وبين اللحظة الحالية التي يُعرض فيها المسلسل.

يمكننا القول أن تعدد مستويات السرد داخل أحداث المسلسل ينطلق في ثلاث اتجاهات رئيسة؛ فعلى مستوى السرد السياسي يبدو المسلسل للوهلة الأولى وكأنه ملتزم بتقديم معالجة درامية لشهادة روائية سطرها "نجيب محفوظ" في الثمانينات عن الحقبة الناصرية وماتلاها من زلازل سياسية واقتصادية واجتماعية عنيفة رافقت الحقبة الساداتية. إلا أن المسلسل أثبت حتى الآن أنه أكثر طموحًا من أن يكتفي بذلك، فصناع المسلسل لم يكتفوا باستلهام روح النص الأصلي فقط، بل استدعوا كثير من الأرواح المسكون بها أدب نجيب محفوظ، ليقدموا في النهاية مأساة إنسانية من المقام الرفيع، فحواها قادر على السفر بين الأزمنة، بحيث يظل جوهر تلك المأساة قابل لإعادة القراءة والاستكشاف، وقادر على إذابة كل الحواجز بين نص نجيب محفوظ وملابساته التاريخية وبين الواقع الذي نعيشه اليوم.

 من ناحية ثانية، فإن النص الدرامي يمكن قراءته على أكثر من مستوى، فيمكن التعامل على أنه عمل يروي قصة حب بالغة العمق والتعقيد بين "تحية" و"طارق"، أو باعتباره عملًا يحكي عن "بدرية"-  سوسن بدر وبناتها، وعن كيف لعب الفقر واستغلال الرجال لهنّ ولأجسادهنّ أدوار البطولة في حياتهنّ. أو قراءة قصص الحب والفقر في سياقها السياسي والاجتماعي الأوسع لتكتشف أن ما يعرف ب"نكسة 1967"، لم يكن مجرد هزيمة سياسية أو حربية فقط، وإنما هي محصلة منطقية لمزيج من قمع سياسي وتواطؤ اجتماعي وهزيمة فكرية، تحالفوا سويًا ليتركوا لنا دوائر مغلقة، يلعب أدوار البطولة فيها أشخاص لا يجمعهم سوى ماضٍ يحمل في طياته علاقات إنسانية مشوهة.

 

سوسن بدر في دور بدرية 

كذلك يمكنك التعامل مع المسلسل على أّنه تراجيديا نبيلة عن أزمة الإنسان الكلاسيكية في مواجهة القدر والاختيار، وأقصد بالتحديد شخصيات "تحيّة" و"طارق"، فرغم أن تحية كانت طوال الوقت فاعلة وقادرة على أن تخلق لنفسها خيارًا مهما كلفها الأمر؛ إلا أن طارق على النقيض هو المكتفي بما يُختار له وإن كان غير راضٍ به، فظل ممثلاً ثانويًا على خشبة المسرح وفي الحياة. ومع ذلك، وبمنتهى التعسف والقسوة، كان القدر ظالمًا بما يكفي لكي يساوي بين من تصور أنه يملك الاختيار وبين المستسلم للأقدار.

 من ناحية ثالثة وعلى مستوى تقنيات السرد، يمكننا القول أن صناع المسلسل استفادوا من خلق عوالم متوازية بين المسرحيات التي يلعب بطولتها ممثلو المسرح الذي تدور فيه أحداث المسلسل، بما في ذلك مسرحية "أفراح القبة" التي كتبها "عباس كرم يونس- أحد شخصيات المسلسل".  وبين واقع وماضي نفس تلك الشخصيات. هذه الاستفادة لم تكن نتيجتها خلق مستويات متداخلة من السرد الدرامي داخل العمل  فحسب، وإنما الحصول على فرصة ذهبية للتجريب على مستوى التقنيات البصرية والدرامية للسرد، حيث تتداخل وتتضافر تقنيات التصوير السينمائية، مع أساليب الأداء المسرحية، مع سمات الكتابة التليفزيونية، لتكون محصلة ذلك التجريب لوحات فنية مدهشة مؤلمة ومربكة، بسلاسة تشدنا إليها بشكل يومي وكأنه اللقاء الأول بيننا وبين المسلسل.

 

رانيا يوسف ومنى زكي في أحد مشاهد المسلسل 

يُحسب لمسلسل "أفراح القبة" كذلك أنّه يهز الأركان التي طالما استقرت عليها أحكامنا الأخلاقية التقليدية، بل أنه يتحداها بشكل جذري على مستويين رئيسيين. المتسوى الأول متعلق بأسئلة الجنس والجسد، التي تطرح نفسها بقوة من خلال أفكار وتصورات شخصيات المسلسل وكذلك علاقاتهم ببعضهم البعض. يبدو ذلك جليًا في الخيط الدرامي المرتبط بشخصية بدرية وبناتها الثلاثة، فالفقر هنا لا يبدو دافعًا وحيدًا وراء دفع "بدرية" ببناتها نحو الاعتماد على أجسادهن من أجل كسب الرزق، وإنما الأمر أشبه بفلسفة تجعلها تتعنت في قبول زواج ابنتها الكبرى من رجل يريد أن يصبح هو "قوّادها"، لأنها تريد أن تظل هي المتحكمة في ذلك الجسد، وأن تظل ملكيته في يدها هي كامرأة، دون الرجال.

 في مشهد آخر تنبه بدرية ابنتها الصغرى أن: "الرجالة زي الكلاب ليه ترميلهم لحمة لما ممكن ترميلهم عضمة"، وفي مشهد ثالث تحاول اقناع بنتها الوسطى أن الفن لا يختلف كثيرا عن تجارة الجنس. فلسفة بدرية تتلخص في أنّه طالما كان الناس ينظرون إلى أجسادهن على أنها سلع تُباع وتُشترى، فالأفضل إذن أن يصبحن هن مالكات القرار، والمتحكمات في رأس المال، طالما أن الغاية هي مقاومة الفقر وسلطة الرجال على أجسادهن على حد سواء.

"تحية" تأخذ سؤال الجسد إلى مستوى أكثر راديكالية عندما تقرر الارتباط ب"طارق" خارج إطار الزواج، حيث يبدو الحب لها كأنه "تحرر" من سلطة الفقر ورجال الكباريهات واستغلال أمها في آن واحد.

الابتعاد عن تقليدية الطرح الأخلاقي تبدو واضحة على مستوى آخر، مرتبط بكيف عمل صناع المسلسل على بناء شخصيات وأحداث المسلسل بحيث لا يمكن تصنيفها في إطار ثنائيات الخير والشر، أو النقاء والفساد على حد سواء. ربما لأن هذه التصنيفات تفترض أن الخيار كان مملوكًا لتلك الشخصيات منذ البداية، رغم أنّه في النهاية؛ كل حركاتهم على خشبة المسرح وفي الحياة كانت رهن إشارة "السلطة".  سواء كانت سلطة سرحان الهلالي- جمال سليمان مدير المسرح، أو سلطة النظام السياسي اليت يخضع لها صاحب المسرح أيضًا.

لا يمكننا القول أن الكل في "أفراح القبّة" جانٍ أومجنيّ عليه، ولكن يمكننا القول أن الكل متواطيء اختياريًا أو إجباريًا مع المأساة، التي تصنعها الاقدار ويصنعها ذلك النظام السياسي ونخبته المهترئة "سرحان الهلالي- جمال سليمان" و"فؤاد شلبي- مصطفى حشيش، الصحفي الفاسد"، وكذلك مع المنظومة السياسية التي تعرف أن بقائها وتوحش سلطتها مرهون باستمرار المأساة ودوائر التواطؤ على حد سواء.

"أفراح القبة" هو عمل ملحمي، تتحد فيه سلاسة وعمق السرد مع جماليات الصورة والإخراج ورهافة الموسيقى التصويرية، طارحة رؤية تتسم بوعي إنساني وسياسي مُخلِص لهذا المجتمع وتاريخه وحاضره. لتكون النتيجة مسلسلاً أقل ما يوصف به هو أنه الإبداع في أفضل صوره.