محمد منير.. سردية نوبية لن تراها فى "المُغَنِّي"

منشور الاثنين 20 يونيو 2016

عاد إلى ضفاف النهر.

مشيدًا قصر منيف فوق صخرة تطل على نيل أسوان، لا يحجبه عن النهر شىء.

وصار أحد معالم المدينة الهادئة، عُرف بين أهلها وزوارها باسم بيت منير

القصر يمكن رؤيته كإشارة رمزية، فى سياق تفسير العلاقة الملتبسة بين منير وأهله من النوبيين، الذين يطالبون منذ أكثر من 118 عام بالعودة لقراهم الأصلية على ضفاف النيل دون جدوى

بعكس منير، الذي عاد للنهر وحده، بعد مشوار فني ناهز أربعين عامًا.

قد تبدو الإشارة غير منطقية، والمقاربة بعيدة بعض الشيء.

وقد يُرى القصر كتتويج لمشوار طويل فى عالم الغناء، بذل فيه منير الكثير من العرق والجهد. مؤسسًا لمشروع مختلف ولتجربة ثرية، ستخلد في تاريخ الأغنية المصرية.

.هذا صحيح إلى حد بعيد، ولكن تبقى بعض الرتوش

 اللحظة التأسيسية لمشروع منير الفني قامت على محورين رئيسين:-

- اختار- أو صرفت له - كلمة جديدة، متمردة تحمل دعوة صريحة على التحريض.

- أعتمد الميلودي النوبية، والسلم الخماسي الإفريقي بوجه عام، كدستور موسيقي له.

فى هذا السياق، تعامل منير مع الموروث الفنى النوبي كخزانة مجوهرات. التقط منها الغالي والنفيس من الألحان النوبية، بمساعدة الفنان أحمد منيب، ليقوم بتعريب بعض الأغاني بشكل كلي أو جزئي محتفظًا بنفس اللحن النوبي.

 بغية البحث عن لون جديد ومختلف على الأذن العربية. لا بغرض الإضافة أوالتطوير لهذا الموروث الفني

وهو ما قد يعده البعض تشويهًا للأصل وترسيخًا للنسخة البديلة في الذهن الجمعي

وثمة أغان نوبية شهيرة لمبدعين نوبيين عظام، تم تعريبها بالكامل مثل أغنية الكون كله بيدور وأغنية حتى حتى. وأغان أخرى تم تعريبها جزئيًا كالشمندورة مثلاً.

 

 ونلاحظ هنا أن الأغنية يتم تداولها بالتسمية المنيرية العربية التي طغت على الأسم الأصلي للأغنية

 

 شمندورة باطا وشمندورة منير والتعريب  

قد يغيب عن القارىء أن الأغنية النوبية تلعب أدوارًا متعددة أهم كثيرًا من كونها وسيلة ترفيه، فالأغنية هى آخر حصون اللغة النوبية وهي البحر الذي في أحشائه، تكمن درر مفرادت وتعبيرات تلك اللغة الكوشية العتيدة.

وفى ظل هاجس إندثار اللغة الذى ينتاب النوبيين بعد التناقص المطرد فى أعداد الناطقين بها كأحد الأثارالسلبية الكارثية للتهجيرات النوبية المتتالية، والذين يراقبون بتوجس وأسى زحف اللغة العربية الحثيث على لسانهم. تظل الأغنية هي ملاذهم الأخير.

وتلك إشكالية كبرى يبدو واضحًا غيابها التام عن ذهن منير فى تعاطيه مع الأغنية النوبية.

فأغنية الشمندورة على سبيل المثال نموذج واضح على دور منير فى تقويض اللغة النوبية فى قدس أقداسها (الأغنية) بعد أن مارس التعريب فيها بخفة شديدة، متقمصًا دور الزمن ومستبقًا عجلة التاريخ.

منير والقيمة المضافة للأغنية النوبية   

فى حالة منير لغة الأرقام كاشفة بشدة. فخلال أربعة عقود تشكل عمر منير الفني، قدم خلالها ما يقرب من 350 أغنية، لم يقدم منير أغاني نوبية جديدة تتجاوز أصابع اليد الواحدة.

وتظل سياسة منير ومهارته التجارية الحاذقة فى التعامل مع التراث النوبي.

اختيار حر لا يملك أحد محاسبته عليه. لكن من حق كثير من النوبيين أيضًا أن يروه اختيار أناني لأبعد الحدود، ويحمل قدرًا معتبرًا من الإنتهازية.

 

 منير مطرب نوبي ؟!!

 

قد يكون مدهشًا للبعض أن منير ليس رقم 1 أو2 أو 10 حتى على الساحة الغنائية النوبية.

وإذا روادت البعض رغبة فى حضور حفلة نوبية صافية قد يكون منير الإختيار الأخير.

فى الواقع منير أبعد ما يكون عن إرضاء الذائقة النوبية القُح

حيث أن أغلبهم لا يستسيغون سماع الأغنية النوبية مختلطة بكلمات عربية كما فى شمندورة منيرـ

وربما لو كان سألهم منير قبل أن يغنى يا رايحين لحلب ..

 لردوه قائلين : فلنولينك قبلة تنساها 

وبدلوها إلى .. يا رايحين المحس .

 فحلب ودبى وبيروت يا ابن شلالات النيل لهم من يذكرهم 

- والمحس لمن لا يعرف تشكل مع دنقلا الظهير النوبي العميق. وآخر أقاليم النوبة التاريخية

 بعد أن استقرت باقي أجزاءها (الكنوز- العرب – الفاديجكا /حلفا) فى قاع بحيرة النوبة.

 

وتلك النوعية من النوبيين لا تستهويهم لغة منيرالنوبية الركيكة بعض الشىء. والتى يخطئ فى كثير من كلماتها، لظروف نشأته ربما، أو لكثرة ما غنى بالعربية وللعربية.

بالمناسبة منير كان بارعًا الفترة الأخيرة فى غناء أمجاد يا عرب، ويا أهل العرب والطرب.

لكل هذا وذاك، لم يعد منير مطرب نوبي فى نظر البعض.

 ثمة إضطراب هوياتي؟ ربما. 

منير صوت النوبيين؟

 

من جانب آخر غُـرست على المدى بذرة توتر مكتوم بين منير وأهله، عندما افتقدوه كسند حقيقي

فالنوبيين الذين تعرضوا جيلاً وراء جيل لمعاناة أربع تهجيرات قسرية، وينادون منذ مئة عام أو يزيد بحقوق كثيرة على المستوى القانوني والثقافي. لم يجدوا فى منير ظهيرًا واضحًا يدعمهم.

لا بالغناء .. ولا بالتصريح

فمنير لم يقدم طوال تاريخه، أى عمل فني غنائي يتناول التهجير أويناقش أزمة ذوبان الهوية النوبية المطرد، وتهميش التاريخ النوبي.

أما على مستوى التصريح

 وبعيدا عن تصريحه المقتضب الشهير لعمرو الليثي فى برنامج واحد من الناس

والذى جاء مواكبًا لموجة غضب نوبية كانت قد فرضت نفسها وأصبح عسيرًا أن يتخطاها منير، فإنه سئل فى عام 2008 عن المشكلة النوبية. فى فيديو خاص لمنتدى البيت النوبي على موقع يوتيوب ورد على محاورته قائلا:

" إيه مشكلة النوبيين! مفيش مشكلة.

فيه حالة عتاب. ما تكبريش الموضوع."  

 الغضب النوبي المكتوم انفجر عندما ظهر أخيرًا باسمه وشخصيته الحقيقية فى مسلسل المغني حاكيًا سيرته الذاتية التى تتقاطع رغمًا عنه مع السردية النوبية للأحداث التي واكبت تلك الفترة.

ونقل تلك الأحداث بشكل يحمل كثيرًا من الخفة والتزييف

هل توقع منير رد فعل آخر؟

كان لسان حال النوبيين: لا يا منير.

هذا ليس تاريخك الشخصي ولا سيرتك وحدك .. تلك مأساتنا الكبرى..

وتفاصيل التهجير القسرى للنوبيين واضحة وموثقة بما لا يدع مجالاً للتحريف.

فهناك شهادة ننقلها بتصرف عن السيد /عبد الراضى عبد الصبور

أحد عمال السد العالي، وهو غير نوبي بالمناسبة، وتصادف وجوده في النوبة القديمة أثناء التهجير لظروف عمل والده كناظر مدرسة بقرية أدندان

 " كنت فى قرية أدندان فى النوبة القديمة .

كان الجميع فيه حالة بكاء مطلق. واختلط صوت المعيز بصوت الرجال بصوت البقر والجمال والناس. الكل كان بيبكى وعينه مصوبة ناحية المكان اللى سابوه. المهم اللواري نقلتهم لمركز ناصر وأنا روحت أسوان وهناك لاقيت الناس بتتكلم عن السد بحب عكس ما شوفت فى أدندان " من كتاب التاريخ الإنساني للسد العالي – تأليف يوسف فاخوري إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة 2016 .

 

الأمر لا يقتصر على الشهادات الحية لمن حضر تلك الأحداث

بل أن هذه الأحداث وثقت على شاشة السينما فى فيلم الناس والنيل، إنتاج 1972 إخراج يوسف شاهين

شتان الفارق فى المستوى الفني والحرفية ونقل الحدث بصدق وأمانة بين فيلم شاهين ومسلسل منير. على مستوى اللغة مثلاً

لا وجه للمقارنة بين نوبية خالصة ولهجة عربية مكسرة تابعناها فى فيلم يوسف شاهين،

وبين لهجة صعيدية تحدث بها النوبيون فى مسلسل المغني

يذكر أن فيلم شاهين وردت فيه جملة " فاطو.. هالصيمى. " على لسان أحد المهجرين

 ومعناها فى اللغة العربية إسرعى يا فاطمة

 تلك الجملة بمخارجها الصوتية لا تغيب عن الأذهان فعليًا، من فرط صدقها وحرص صناع الفيلم على نقل الواقع بدقة

 

هل كان غضب النوبيين على منير مفتعلاً؟

نظن أن الرأى العام النوبي الغاضب على منير يحمل وجاهة ما

فالنوبيين الذين اتخذ منير موروثهم الغنائي سلم للصعود عليه لا للتطوير فيه

تجاهلوا اغترافه من هذا التراث الثري دون إضافة تذكر

وكتموا استيائهم جراء التعريب الكلي والجزئي لأغانيهم الشهيرة

تجاوزوا عن تقصيره فى تخليد تضحياتهم التاريخية، ولو بعمل فني واحد. وقد لا يغفروا لمنير تناوله لأهم حدث مفصلي فى تاريخهم الحديث بهذا الكم من الجهل والتزييف المشوب بالاستفزاز خلال أحداث مسلسل المغني.

بقي القول أن مسألة منير تستدعى الحيرة والدهشة 

فعلى مستوي الخاصة المنيرية؛ فقد محمد منير مكانة هائلة صنعها عبر رحلة فنية طويلة

وذلك بعد أن نفذ بداية من الألفية الأولى تحولاً مفاجئًا ورهيبًا عن كل الأفكار والقيم التى غنى لأجلها. فمنير الذي عوض غياب عبد الرحيم منصور بنبيل خلف. انتهى به الأمر إلى اتخاذ موقف رمادى باهت من ثورة يناير أثار حفيظة كل عشاقه. بعد أن ظل يصف نفسه طوال الوقت بأنه محرض.

هل كان يعي علاما يحرض؟؟

وعلى مستوى الظهير النوبي الضخم لمنير

يخرج بمسلسل صادم لمشاعرهم 

هكذا فعل منير بأهم محورين أسس عليهم مشروعه الفنى أو قصره المنيف

ثم خرج قائلاً : أنا محمد منير.

ويفرض علينا السؤال.. 

لماذا يا منير؟

انتهى. 

 

 

 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.