ميدان التحرير خلال ثورة 25 يناير، وكورنيش الإسكندرية، مسجد السلطان حسن وصورة تاريخية لمدينة حلوان

ثلاث حكايات عن المكان.. والذكريات التائهة في فوضى السياسة

منشور الأحد 29 مايو 2016

 

 

تتلقف الحواس روائح وألوانًا وأصوات، وتستبين ملمسًا للموجودات، وتخلط ذلك كله بالمواقف والخبرات، لتصنع الانطباعات والذكريات التي تبني تلك العلاقة المعقدة بين الناس والأماكن. 

في دراستها "ما هو الحس المكاني" الذي نشرته الأمريكية جنيفر كروس، الباحثة بقسم العلوم الاجتماعية في كولورادو، تقول كروس: "إن تعبير الحس المكاني تعبير ملغز، يستخدم لوصف كل شئ يتصل بالمكان بدءً من تقدير مشهد طبيعي خلاب، إلى الاستخدام الدعائي في بيع المنازل في المناطق الحضرية المترفة. لكننا نجلب إلى الأماكن أفكارنا المسبقة المحملة بموروثنا ومفاهيمنا الثقافية، ونشكل من خلالها استجابتنا للمكان، وأحيانًا نعيد تشكيل تلك الأماكن، كي توافق مفاهيمنا المسبقة".  

لا تختلف رؤية الباحثة الأكاديمية كثيرًا عن الكاتب السكندري علاء خالد، صاحب مجلة "أمكنة"، المطبوعة المصرية الوحيدة التي تحتفى بالأماكن وروحها، وإن كانت نظرة الشاعر السكندري، تتخذ أبعادًا أكثر رومانسية. ففي كتابه وجوه سكندرية ينسج الشاعر تفاصيل تربط بين الأماكن والبشر، عبر ما تضفيه ذاكرة الناس على تلك الأماكن. فهم يحبونها أو يكرهونها بناءً على مواقف مروا بها في تلك الأماكن، بشخوصها وتفاصيلها من أصوات وألوان وحكايات. ووفقًا للرؤيتين المتقاربتين للشاعر السكندري والباحثة الامريكية اللذان ربما لا يعرفا بوجود بعضهما البعض على نفس الكوكب؛ فإن روح المكان ودلالته تختلف باختلاف الأشخاص وخلفياتهم وخبراتهم مع ذلك المكان عينه.

تتقلب مدننا ومبانينا وأوطاننا وتتغيّر على وقع الإيقاع السياسي والإقتصادي للمجتمع الذي تنتمي إليه، مرات بالتدريج، حيث كل الأشياء تنسحب وتتبدل وأخرى تضاف بهدوء، لتجد نفسك في مكان مختلف. ومرات أخرى تختار تلك التقلبات شكلاً عنيفًا في التحوّل، لتضعك أنت والمكان في واقع يُأرجحك بين ذكرياتك؛ وبين ما يبدو أنك مضطر للاعتياد عليه. وهو ما تكشفه قصص شريف حسين، وندى القصبي وعوض محمد، الذين جمعتهم بالشوارع والمساجد والأوطان علاقات متقلبة، ومثيرة للتأمل.

الحكاية الأولى: الحياة في رحاب "السلطان حسن"

عشرين عامًا أو يزيد، دأب شريف حسين الذي تخطي الأربعين بأعوام قليلة على خوض الرحلة اليومية بين بيته بدار السلام أقصى جنوب القاهرة حيث ولد وتربى، وموقع مسجد السلطان حسن بالدرب الأحمر بالقاهرة القديمة، ليجلس على كرسي بجانب قريبه صاحب الكشك المطل على المسجد الذي طالما تعلق قلبه به: "عند هذا المسجد رأيت زوجتي لأول مرة من أكثر من عشرين سنة، لأحبها ونتزوج، وننجب أولادي الأربعة".

مسجد السلطان حسن

ساعات طويلة يقضيها يوميًا في مواجهة المسجد العتيق الذي بناه السلطان حسن بن محمد بن قلاوون عام 1356. والذي يعد من أجمل المساجد المملوكية في مصر. جمال عمارته وتميزه يدفعان شريف لقطع المسافة الطويلة بين بيته في دار السلام والدرب الأحمر حيث المسجد، لأجل التفاصيل والروح التي يقول أنه لا يجدها في مكان آخر. فالبيوت التي لازالت تحتفظ ببعض البهاء الغابر للعمارة الإسلامية، بمشربياتها الخشبية وأبوابها المزخرفة، تختلط حكاياتها بما حفظته عيناه من قصص شخصية تتصل بحياة أبنائه وحياته.

الحكاية الثانية: حب الوطن "مش فرض عليا"

كانت الأعوام التي تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير، بمثابة خط فاصل في حياة ندى القصبي، يقطع بين مصر التي كانت تمثل لها: "الحلم والمكافأة اللي كنت استناها من السنة للسنة" عندما تأتيها في إجازة من السعودية؛ وبين مصر "التي لا يعمِّر فيها سوى الفساد واالظلم". 

كورنيش الاسكندرية

عندما اندلعت الثورة كانت ندى لا تزال في الثانوية العامة، وفي اللحظة التي نقلت فيها الفضائيات الغربية والعربية هتافات الثورة، رفعت ندى عينيها عن كتب الثانوية، ولم تستطع إزاحتها عن الشاشة التي تنقل هتافات الميدان. وتؤكد أنها لم تشعر بالاقتراب والانتماء لمصر كوطن إلا عندما سمعت تلك الهتافات ورأت - عبر الشاشة - تلك الحشود: "كنت أبكي أمام التلفاز من مشهد التحرير وأتساءل عمّا أفعله هنا [في السعودية] في وقت يمتلئ فيه الميدان بكل هؤلاء؟ أتذكر أني حادثت ولدًا لا أعرفه على فيسبوك، فقط لأطلب منه تقبيل زملائه في التحرير".

الحكاية الثالثة: وداعًا يا "شقا العمر"

خمسة وثلاثين عامًا كدّ فيها عوض محمد، قبل خروجه للمعاش في سن الستين، خلف عجلة القيادة لنقل انتاج شركة حلوان للحديد والصلب. ابتنى خلالها بيتًا، كان حلمه أن يجمعه بأبنائه بعد زواجهم، ويرتاح فيه بعد الوصول لسن المعاش.

بيوت حلوان 

لكن توقفه عن العمل كان له تبعات أخرى، حين أجبره أبناؤه على ترك البيت بعد معركة بينه وبين زوجته، والدتهم، انتهت بطرد الأبناء لأبيهم خارج البيت.

يحكي عوض: "أربعة طوابق بنيتها بكل جنيه كسبته من العمل سائقًا في مصنع الحديد والصلب لوقت طويل. كنت أحلم أن أعيش فيه مستورًا، لكني الآن بعيد عمّا بنيت".