خلق آدم لميكيلانجلو

متى ظهر المطلق.. ولماذا يستمر؟

منشور الخميس 28 أبريل 2016

كتب الدكتور مراد وهبة مقالًا بالأهرام، في يوم الثلاثاء 12 أبريل/نيسان 2016، بعنوان: هل ماتت الحقيقة المطلقة؟ وبدايته كانت: "كن جريئًا في إعمال عقلك إذا كنت تريد إحداث ثورة دينية أو ثورة فكرية". وهذا هو شعار ومعنى التنوير كما سبق وعرضت له في مقالي السابق هنا عن المجال العام. ومقال الدكتور مراد وهبة في الحقيقة ملهم لاستكمال التفكير والكتابة، لكن هذه المرة عن الدين وبدايته وعن الحقيقة المطلقة.

في البداية أود الإشارة إلى أن للدكتور مراد وهبة كتيبات صغيرة وبسيطة وتعريفية عن الفكر، يضعها في شكل قصص، وكان منها كتيب "قصة الفلسفة"؛ ويحكي فيه لكل محب للفلسفة قصة هذا العلم أو الفن منذ بدايته إلى ما وصلنا إليه (الكتيب صدر عام 1968)، وفيه يقول إن الفلسفة هي سؤال عن المطلق، كانت البداية عندما أطلّ على عقل الفيلسوف اليوناني القديم طاليس سؤال عن المطلق تحديدًا؛ ما هو المطلق؟ وهل للمطلق معنى إلا بمقابل "النسبي"؛ وما هو ذلك النسبي؟ إن الصلة (أو "الجدلية") بين "المطلق" و "النسبي" هي "أن الإنسان يبحث عن المطلق دون أن يقتنصه" وتلك هي قصة الفلسفة كما يكتبها ويراها مراد وهبة ببساطة.

ولوهبة كتيب ثان بنفس الأسلوب والبساطة عن "قصة علم الجمال" وبعض قضاياه دون تعقيد أو تبحر في المناهج والنظريات. وأخيرًا، له كتاب عن "قصة الديالكتيك" وفيه يحكي قصة الجدل وتطوره عبر العصور، منذ العصر اليوناني القديم ومرورًا بالعصرين الوسيط والحديث، حتى وقتنا الراهن. على كل حال في هذه الكتب وغيرها، تشغل دائما العلاقة الجدلية بين المطلق والنسبي، وبين المذاهب الفلسفية المغلقة والمذاهب الفلسفية المفتوحة عقل وتفكير الدكتور مراد. وهو نفسه يشير في أحد أشهر وأشمل كتبه التي توضح رؤيته، "مُلاك الحقيقة المطلقة"، إلى أن الفكرة المحورية في فلسفته كانت دائمًا هي النضال ضد الروح الدوجماطيقية أي تلك التي تتوهم اقتناص الحقيقة المطلقة.

نعود لسؤال المطلق. في الفتوحات المكية يعتقد محيي الدين بن عربي أن الإنسان اكتشف الله بعد أن ظهر - هذا الإنسان - بعشرة آلاف سنة. هذا السؤال دائمًا ما يشغل بال الفلاسفة والمتكلمين وبعض المتصوفين؛ بداية ظهور الإله بشكل عام، ما هي تلك اللحظة التي ظهر فيها هذا المطلق.

في البداية كان ثمة نوعين من المطلق، الأول هو المطلق الأسطوري أو الخرافي؛ زيوس وآبائه وإخوانه وأبنائه. قد تكون بداية ظهور هذا المطلق الأسطوري، والمقصود به الإله غير الطبيعي المفارق للوجود العيني، في أشعار هوميروس، وهذه الأشعار بدأت حوالي القرن التاسع قبل الميلاد وتطورت وأصبحت نصوصًا ثابتة في القرن السادس قبل الميلاد. وشخصية هوميروس نفسها لا يوجد دليل على وجودها من عدمه وحولها خلافات تاريخية وعلمية كبيرة. وحتى الأشعار والملاحم التي تركها، على الأغلب، تعتبر تراكمًا لقرون من الحكي الشفاهي؛ وبالتالي فمن الجائز أنه لم يوجد في أي وقت هوميروس هذا. ومع ثبات الأشعار والملاحم المنسوبة لهذه الشخصية التاريخية في القرن السادس قبل الميلاد، بدأت تظهر بعض الأفكار حول هذا المطلق الأسطوري ونفى بعض الفلاسفة وجوده لصالح مطلق آخر طبيعي. فقال طاليس مثلًا بأن الماء هو أصل الأشياء. ثم جاء بروتاجورس في القرن الخامس قبل الميلاد وكتب في مقدمة كتاب له بعنوان "الحقيقة" أنه لا يستطيع أن يعلم إن كانت هناك آلهة أم لا لأسباب كثيرة أهمها غموض المسألة وقصر الحياة. وتم اتهام بروتاجورس بالإلحاد ومن ثم تم الحكم عليه بالإعدام. وهو ما تكرر مع سقراط والذي تم اتهامه بإنكار الآلهة وإفساد الشباب.

وفي مقال الدكتور مراد وهبة الذي تحدثت عنه في البداية، يشير إلى أن الفيلسوف الألماني كانط في عام 1793 نشر كتابًا بعنوان "الدين في حدود العقل وحده" ويناقش فيه كانط، علاقة الأخلاق بالدين، وعلاقة الدين بالطبيعة الإنسانية وبطريقة استعمال الإنسان لحريته. وكيف يكون إيمان الإنسان الحر في دولة مدنية. ويفرق كانط بين الإيمان كدوجما استعلائية، وبين الإيمان العقلاني أو في حدود العقل وحده، إيمان "يخجل من الانزلاق في أيّ نوع من (الأفكار المفارقة) التي تتخطى حدود عقولنا".

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1794 أرسل الملك فردريك فلهلم الثاني رسالة إلى كانط يرفض فيها كتابه هذا وما فعله من تشويه وحط من قدر للعقائد الجوهرية في المسيحية، ويطلب له الحسنى وأن يقدر مسؤوليته، وأن يكف عن ذلك في المستقبل وإلا تعرض لإجراءات صارمة. ورد كانط وتعهد بالتوقف عن الكتابة في مثل هذه الأمور وقال: "إن إنكار واستنكار ما يقتنع به المرء أمر مهين دنيء، لكن السكوت في حالة كهذه هو واجب المحكومين، وحتى لو كان كل ما يقوله الإنسان صحيحًا فليس من الواجب أن يصرّح بكل الحقيقة علانية". لكنه عاد للكتابة في هذا الموضوع بعد وفاة هذا الملك.

ونكمل مع مقال الدكتور مراد وهبة الذي يشير بعد كانط إلى كتاب حديث للاهوتى بريطاني هو دون كَبِت والكتاب بعنوان رئيسى هو "ما بعد الله" وعنوان فرعى "مستقبل الدين". يحكي هذا الكاتب قصة عن تصورات البشر قديما عن الله فيقول إنه "كان شبيهًا بالإنسان وجالسًا على عرش في معبد حجري فى قلب المدينة ومحاطًا بكهنة مهمتهم تنفيذ ما يصدره من قوانين. ومن هنا كانت السلطة الإلهية هى مصدر جميع السلطات". ثم يكمل كَبِت أن المشكلة هي "أن البشر أنفسهم هم بناة المدينة بل هم بناة المعبد، وراسمو صورة الله، وبعد ذلك أسسوا المعتقد ثم أعلنوا فجأة أن الله نفسه هو الذى اختار موقع المدينة وهو الذى صمم المعبد وهو الذى عيَن الكهنة". والحقيقة أن الباحث في هذا الأمر يجد العديد من النظريات والتصورات حول بداية ظهور الإله، الخالق الأول، بل وحتى هناك نظريات وتصورات كثيرة حول تطوره، ثم بداية ظهور الدين فيما بعد. وهذا التعدد والتشعب "إنما يدل أوضح دلالة على ما في المشكلة الأصلية من عمق وطرافة"

وهذا هو ما قاله الدكتور سامي النشار في كتابه الطريف والبسيط عن "نشأة الدين". والدكتور سامي النشار كان أستاذًا للفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة فاروق الأول [الإسكندرية الآن]، وله كتاب آخر مهم بعنوان "نشأة الفكر الفلسفي"، وصدر عن دار المعارف. وأصدر كتاب "نشأة الدين" 1948 وأعاد مركز الإنماء الحضارى نشره في 1995 . يذهب الدكتور سامي في بحثه إلى أن الأفكار الرئيسية المسيطرة على النظريات الدينية هي فكرة التطور مقابل فكرة التوحيد أو الوحي الأول. وبشكل عام فإن الراجح هو أن الله وُجد قبل أن توجد طريقة عبادته: الطقوس/ الدين/ المراسم المقدسة. ويذهب التطوريون إلى تحليل ظهور الله والدين من خلال تحليل تطور حياة الإنسان نفسه. فالله – كما نعرفه الآن - لم يظهر مرة واحدة بل أخذ يتطور، من المادى الذى يسهل إدراكه، إلى تلك الفكرة الروحية الأكثر تعقيدًا؛ فكما أن التطور يسود الحياة البيولوجية للإنسان فإنه يسود أيضا الحياة العقلية له. إن الكائن ينتقل طبقا لقانون التطور من ماهية أدنى إلى ماهية أسمى ومن نوع بسيط إلى نوع أعلى وأكثر تعقيدًا؛ ومن ثم فمن الأولى أن يتطور هذا الإنسان في حياته الفكرية وأن تنتقل من طور إلى طور حتى تصل إلى كمالها النسبي لو جاز التعبير. وعلى العكس من ذلك نادى أصحاب فكرة التوحيد أو الوحي الأول بفطرة فكرة الله وأنكروا إنكارا باتًا نظرية التطور. واستندوا في ذلك على ظهور آثار وجود الله لدى المجتمعات البدائية كافة، "وعلى ما ندركه في أنفسنا من ناحية أخرى نحو هذه الفكرة الجليلة النبيلة "الله"". هذه الفكرة النبيلة والجليلة والمفارقة فيما يرى بعض علماء الأنثروبولوجي كان السبب الأول في ظهورها في طفولة الفكر الإنساني في البداية هو الخوف. وإليكم الحكاية: لقد كان الإنسان الأول يواجه ظواهر كثيرة دون أن يملك تفسيرًا لها، وكانت تلك الظواهر بالنسبة له مفزعة، بالإضافة إلى كونها غامضة؛ وهكذا - بشيء من التبسيط الاضطراري - صارت عادته أن يعبد ما لا يملك له تفسيرًا. هذا العقل لم يكن فقط عاجزًا عن تفسير الظواهر التي تحدث حوله، بل أيضًا لا يستطيع أن يعبد غير ما يراه، الشمس، القمر... بل وبعض الحيوانات أحيانًا. هناك أيضا من كان يعبد الأسلاف، الآباء، الأجداد، شيوخ القبيلة. ثم ارتقى هذا الإنسان وارتقى عقله وارتقت معه فكرة وجود إله أعلى.

بعد سؤال متى ظهر المطلق، ثمة سؤال آخر ما زال يحتاج إلى تأمل، مع كل هذا التقدم العلمي والمعرفي والصناعي الذي صنعته البشرية لنفسها وبنفسها، لماذا تظل هذه المشكلة الفلسفية موجودة وقائمة؟ ما هي الضرورة لوجود إله ووجود دين؟ 

يقول كانط إن الأخلاق تستطيع أن تقول لنا ماذا نفعل لكن الإنسان أيضا بحاجة لمعرفة "لأجل ماذا نفعل"، وثمة خيط رفيع يربط بين "ماذا" و "لأجل ماذا" فالربط بين ما يجب على الإنسان وبين نتيجة ذلك الواجب وغايته؛ يحقق السعادة لهذا الإنسان، شرط أن تكون الغاية حرة:  "يمكن أن تساعد الإنسان على التّفكير في (غاية نهائيّة لواجباته) أوسع نطاقًا من مجرّد واجبه الخلقي، إلاّ أنّها (ناتجة عن تلك الواجبات ذاتها)". نفهم من هذا النص أن كانط، أهم فلاسفة التنوير، كان على شيء من التذبذب، ولم يصل إلى إنكار وجود الله إنكارًا مطلقًا، حتى في كتابه "نقد العقل العملي" حين قال "إن وجود الله فكرة يبعثها العقل المجرد، لكن لا يوجد لدينا سببًا وجيهًا لقبول والتسليم بهذه الفكرة تسليمًا مطلقًا". بل إنه، بعيدًا عن قضية وجود الله من عدمها، قال بضرورة الإيمان بوجود الله، الله المرتبط بمفهوم المثال الأسمى ومفهوم الخير، وكذلك السعادة والفضيلة. وله بحث و"ملاحظات عن الشعور بالجميل والجليل" والذي هو الكائن الأسمى، والفكرة النبيلة، الله.

وعلى مستوى الدين والإيمان، يرفض كانط إيمان "السُخرة" والذي لا يمكن النظر له بوصفه إيمانًا مخلصًا أبدًا؛ لأنه ليس خلقيًا. إن الإيمان المخلص بحق يجب أن يكون أولًا حرًا، ويجب أن يكون في حدود مجرد العقل. وهذا الإيمان الحر يحمل الفكرة النبيلة، "الله" الجميل والجليل، في قلب الإنسان بوصفه الخير الأقصى الممكن للبشر. وأنه ليس ثمة مخرج من الاستبداد الديني إلا بالإشارة والتنبيه بوجود مبادىء خلقية كونية للإيمان متقاسمة بين كافة عقول البشر.