الصورة من فيديو لـ Cecilia Udden

في الخامس والعشرين من أبريل.. "أنا وطني وطني وبطنطن"

منشور الأربعاء 27 أبريل 2016

إحدى الدلالات الرمزية الرئيسية لأحداث الخامس والعشرين من أبريل/نيسان الماضي إشهار الإفلاس التام لـ"الوطنية" كما عرفناها على مدى قرن ونصف من الزمان. مشاهد الهتاف للمملكة العربية السعودية ورفع أعلامها في بعض ميادين القاهرة – بالتحديد في يوم من أيام الاحتفاء بـ"العزة" الوطنية المصرية – لخّصت بفجاجة جارحة حال التفسخ الذي وصلت إليه أيديولوجيا طالما ألهمت أجيال وأجيال من الراديكاليين.

لماذا آلت عقيدة فكرية كانت مددًا لنضالات عديدة على مدى عقود طويلة إلى ما آلت إليه؟ هذا سؤال يستحق البحث عن إجابة، ليس فقط إكرامًا للتاريخ، ولكن كذلك لتقصي الأشكال الجديدة للراديكالية في بلادنا بعد أن تحللت إحدى روافدها الرئيسية في العصر الحديث.

منطق الوطنية

 

كما أشرت حالًا، التصقت الوطنية بالراديكالية التصاقًا شبه تام على مدى عمر مصر الحديثة وحتى وقت قريب. بل أنه يمكننا القول إن الوطنية مثلّت الخيط الفكري الأهم في كل حركة جذرية شهدتها البلاد منذ إرهاصات الحركة العرابية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى هزيمة 1967، حين تلقت الوطنية (ومعها القومية) الضربة الأشد التي أزاحتها عن موقع الهيمنة التامة، وفتحت الباب لأيديولوجيات أخرى – تحديدًا الجهادية الإسلامية – لمزاحمتها في ساحة الراديكالية من منطلقات وعلى أسس مختلفة تمامًا.

هيمنة الأيديولوجيا الوطنية على التيارات الراديكالية في مصر كانت جزءًا من ظاهرة عامة شملت كل البلدان المستعمرة التي استيقظ الحس الجذري النضالي لدى طبقاتها المدينية الطالعة في مواجهة الاستعمار، والتي أعطى معظم مناضليها، حتى الشيوعيين منهم، "وحدة الجبهة الوطنية" أولوية على أي صراع داخلي بين المستغَلين والمستغِلين المحليين.

المنطق الداخلي للوطنية الصافية يقوم على اعتبار الشعب، بكل طبقاته وشرائحه وطوائفه وتياراته (فيما عدا "قلة خائنة")، كتلة متجانسة تواجه عدو ما على طريق تحقيقها لهدف ما. هذا المنطق ليس تقدميًا ولا رجعيًا بالضرورة وفي حد ذاته، وإنما يكتسب هذه الصفة أو تلك بناءً على المضمون الحي الملموس للصراع والعدو والهدف. فإذا ما توحّدت الأمة في مواجهة قوة كبرى تسعى إلى إخضاعها وإذلالها، بالاستعمار المباشر أو غير المباشر، كان هذا نضالًا تقدميًا في العموم. وإذا ما توحّدت الأمة في مواجهة شعب ضعيف في محاولة لإخضاعه وإذلاله، بالغزو والاحتلال مثلًا، كان هذا عملًا رجعيًا في العموم.

المشكلة أن هذا المنطق الداخلي للوطنية الصافية افتقر، حتى في عزه، إلى الاتساق الكامل. فالشعب ليس كتلة متجانسة في مصالحها ورؤاها، ومن ثم فإن علاقة مكوناته بـ"العدو"، ومواقفها منه، تتباين عبر مراحل الصراع. ولذلك فحتى أثناء العصور المجيدة للكفاح ضد الاستعمار كانت الحركة الوطنية تتعرض للتمزق والخيانة والانقسام، رغم أن كل المستعمَرين – أغنياء وفقراء – كانوا غارمين بهذا القدر أو ذاك.

لكن رغم هذا، فإن المذلة القومية، التي كانت تؤثر على الكل، وإن كان بدرجات مختلفة، حافظت في عهدي الاستعمار القديم والتحرر الوطني على زخم ما للوطنية كمضمون فكري حاضن للراديكالية السائدة. الأزمة الحقيقية بدأت مع انهيار أسس أي وحدة وطنية حتى لو في الخيال، وهذا ما حدث – في مصر – عندما قررت البرجوازية المصرية وحكامها، ولأسباب بنيوية غير عارضة، الانغماس بلا رجعة في علاقة شراكة استراتيجية مع الإمبريالية والصهيونية.

نهاية الوطنية

 

 

عندما أنشد عبد الرحمن الأبنودي في ثمانينات القرن العشرين "إحنا شعبين شعبين شعبين، شوف الأول فين والتاني فين، وأدي الخط ما بين الاتنين بيفوت" كان يعلن، بلا وعي منه، وحتى على خلاف مواقفه اللاحقة، نهاية الوطنية المصرية كما نعرفها. ليس المقصود هنا أن الإمبريالية انتهت، ولا أن الصهيونية اختفت، ولكن أن الوحدة الوطنية في مواجهة كلتيهما أصبحت مستحيلة. فماذا يتبقى من الوطنية؟ ماذا يتبقى من فكرة الشعب ككتلة متجانسة؟ ماذا يتبقى من فكرة القلب الصلب للدولة كحارس على القيم الوطنية المصرية؟ لا شيء عدا الوهم.

الأصل في الأمور أنه بعدما جرى ما جرى – أي بعد هزيمة "المشروع الوطني" والتحول الكبير في السبعينيات في استراتيجية البرجوازية المصرية – أصبح ما كان توترًا يمكن إخفاؤه مع ثمن فادح مدفوع، تفسخًا لا يمكن إخفاؤه حتى لو دُفعت أكبر الأثمان. الوحدة الوطنية باتت نقيضًا للتحرر الوطني وأساسًا للمذلة القومية، ومن ثم فالصراغ الداخلي أصبح، هو بالتحديد، المقدمة المنطقية الوحيدة لخوض الصراع الخارجي.

كان على الوطنية المصرية والحال هكذا أن تجدد نفسها وتطرح معان جديدة لفكرتها التي كانت راديكالية فأصبحت عائقًا في وجه الراديكالية. لكن ما حدث كان العكس في معظم الأحيان. فلما ظهرت راديكالية إسلامية تعصى الدولة من منطلقات طائفية ورجعية، واجهها التيار الأكبر لـ"الوطنية العلمانية" بالهروب إلى أحضان البرجوازية والدولة، فأنشأ بذلك "وحدة وطنية" مع العدو الأول لأي تقدم وتحرر ممكنين، ومن ثم انتهى به الحال جيفة عفنة نتنة الرائحة.

من مأساة إلى مسخرة

 

لكن المأساة تحولت إلى مهزلة باندلاع الثورة المصرية ومع هزائمها. التيار الرئيسي للوطنية المصرية أصبح مسخرة. أغلب رموزه هللت للانقلاب ورقصت على الدم حفاظًا على الوطن من "هجوم الهوية" الذي يشنه الإسلاميون. أفكار كانت في زمن سحيق لها وقع السحر في إلهاب النفوس أصبحت نكتًا سخيفة. أحداث كان التغني بها شرفًا أُقحمت لتبرر تفاهات حكام منسحقين ليس فقط أمام الإمبريالية والصهيونية، بل أمام العربية السعودية.

وكلما أمعن التيار الرئيسي للوطنية المصرية في البحث عن أساس للوحدة الوطنية، وعن أسباب لتمجيد الدولة، كلما غاص في مستنقع آسن من التفاهة والبلادة والرجعية والدموية، بل وأحيانًا الخسة. فالمضمون الحقيقي لمعركته لم يعد تحرريًا، حتى بأكثر المعاني تواضعًا، بل هوياتي رجعي، تمامًا كمن يصمهم بالهوياتية الرجعية من إسلاميين.

وعندما وصلت البرجوازية المصرية في انحدارها الطويل إلى نقطة الحاجة الماسة إلى قليل من الرضا من قلعة الرجعية العربية المسماة بالعربية السعودية، كان على التيار الرئيسي للوطنية المصرية أن يقبل بهذا، أو على أقل تقدير – وفي حالات نادرة من الجسارة – يرفض على استحياء، مع التأكيد على حبه للجنرال وعدم رغبته في مواجهة نظامه. بؤس في صورة مسخرة.

الحقيقة أن أعلام السعودية التي رفرفت في ميادين القاهرة لا تعبر قطعًا عن حركة شعبية أو سياسية جادة، معارضة أو حتى غير معارضة. هي فقط رمز يلخص قصة كانت حزينة فأصبحت ساخرة ومملة؛ قصة تقول: هذه هي دولتك وهذه هي برجوازيتك أيها الوطني، فإما أن تقصم ظهر الوحدة الوطنية، وتفض أسطورة الكتلة المتجانسة، وتبدأ الفرز الاجتماعي، أو فلتتقبل بصدر رحب أن يكون هدفك المشترك مع أخوة الوطن هو رفع أعلام الرجعية في سماء مدينتك.

 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.