إيمانويل كانط

ما هو المجال العام؟

منشور الاثنين 11 أبريل 2016

في عام 1784 كتب إيمانويل كانط مقاله الشهير بعنوان: "ما هو التنوير؟"، والذي كان في سياق المناقشة التى طرحتها المجلة الألمانية المعروفة في هذا الوقت "مجلة برلين الشهرية"  Berlinische Monatsschrift على مجموعة من المفكرين الألمان. وكان رد كانط موجهًا للسؤال الذى طرحه أحد القساوسة البروتستانت وهو يوهان فريدريش تسولنر وذلك في معرض انتقاد الأخير لفكرة الزواج المدني ودفاعه عن الزواج داخل الكنيسة باعتبار ذلك أفضل للدولة. وقد طرح هذا القس في مقاله وبعبارة تهكمية استفسارًا حول تعريف التنوير وهو ما لم يجده لدى دعاة التنوير، على حد وصفه، فكيف ينادى البعض بالتنوير قبل أن يعرفه لنا؟!

وقبل أن يكتب كانط مقاله الشهير في الرد على هذا القس، سبقه موسى مندلسون بمقال بعنوان: "حول سؤال: ما معنى التنوير؟"، وكتب تعريفًا عامًا للتنوير قال فيه: "إن كلًا من المعرفة والثقافة والتنوير هي بمثابة تعديل للحياة الاجتماعية.. ويهتم التنوير بالمعرفة العقلانية والموضوعية وقدرة الذات على التفكير في الأشياء الموجودة في الحياة الإنسانية تبعًا لأهميتها وتأثيرها في تحقيق حياة الإنسان".

ثم كتب كانط مقاله الشهير والأكثر شمولًا والذي يجيب فيه عن سؤال: ما هو التنوير؟ في هذا المقال تظهر ولأول مرة عبارة "المجال العام" والتي سوف تأخذ تعريفها –وكذلك- شهرتها فيما بعد من كتابات هابرماس كما سنرى لاحقًا. ولا أظن أنه يمكن ذكر مقولة "المجال العام" كما أشار إليها كانط دون النظر إلى تعريفه للتنوير نفسه، فقد عرّف كانط التنوير بأنه هجرة الإنسان من القصور والذي يرجع إلى الإنسان ذاته، والقصور هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله دون معونة من الآخرين. هذا القصور سببه الإنسان ذاته، فهو لا يعود إلى قصور في الفهم أو العقل، ولكنه نقص في الإرادة وفي الجرأة في استخدام العقل دون الاعتماد على أحد. إن شعار التنوير هو ببساطة: كن جريئًا في استخدام عقلك. وبالتالي يستطيع الفرد أن يتحرر من الوصاية ويصبح متنورًا بالجرأة على التفكير واستخدام العقل. ثم يكمل كانط فكرته عن التنوير بأنه يمكن أيضا للجمهور – المكون من مجموعة من الأفراد في النهاية- أن يستنير طالما أنه حر، لكن لا يمكن للجمهور أن يبلغ التنوير بنفس القدر من السرعة التي تحدث للفرد؛ وهنا يبرز أن كانط، والذي كان مؤيدًا للثورة الفرنسية بلا شك، كان، مع ذلك، يعتقد أن طريق الاستقلال العقلي عن الآخرين يحتاج إلى وقت لبناء العقل النقدي وهو الأمر الذي لا يتحقق بالثورة التي تحدث كتغيير مفاجيء.

ومن أجل هذا التنوير، سواء للفرد أو للجمهور، يتطلب الأمر حرية "الاستعمال العمومي للعقل" في كل الميادين. في هذا السياق يُعتبر مفهوم "المجال العمومي" من مفاهيم القرن الثامن عشر، وكان يُقصد به مجموع الناس الذين يجتمعون في مكان عام. ثم عاد ليظهر المصطلح مرة أخرى في عام 1961 عندما أصدر هابرماس دراسته الرائدة والتي جاءت بعنوان "التحول البنيوي للمجال العام" ويقصد بالمجال العام في هذه الدراسة: الفضاء المستقل عن الأجهزة الإدارية للدولة ذات الطبيعة التدخلية، الانضباطية، والمستقل كذلك عن السيطرة العائلية وغيرها من أشكال الروابط الأخرى كالقبيلة والعشيرة..إلخ. هذا الفضاء هو الذي نجده في الأسواق، والمقاهي، والصحافة، والمحكمة وكتابة العرائض، وغيرها من الفضاءات العامة التي تدور فيها النقاشات.

ويرى هابرماس أن هذا المجال العام بدأ في الظهور في القرن الثامن عشر تحديدًا بوصفه فضاء مستقلًا عن الدولة بمعناها الحديث ومجمل أجهزتها، بحيث يمكن للأشخاص أن يتواصلوا في هذا المجال فيما بينهم كمواطنين مستقلين وأحرار من أجل التداول والتفاهم حول الصالح العام. ومن ناحية أخرى يمكن الربط بين مفهوم "المجال العام" ونظرية العقد الاجتماعي التي تعني ببساطة أن أفراد مجتمع ما اتفقوا وأصبحت لديهم إرادة عامة على إنشاء مجتمع سياسي يخضع لسلطة عليا هي الدولة، بمعنى أن الدولة وُجدت نتيجة لهذا العقد ولهذ الاتفاق الطوعي. ويعتمد المجال العام على وجود العقد الاجتماعي باعتباره أحد نتائجه، وعلى وجود الدولة باعتبارها طرفًا في هذا العقد.

وللاهتمام بالشأن العام، الذي تطور في العصر الحديث إلى مجال عام أوسع وأكثر تعقيدًا وتأثيرًا، أساس في الحضارة الغربية قبل القرن الثامن عشر، فكانت هناك مناقشات تجري للأمور العامة في نوادي القراءة والصالونات. لكن أصبح المجال العمومي يناقش الأمور والقضايا السياسية التي كانت في الماضي أمورًا خاصة فقط بالدولة، كما أصبح على نحو ما شريكًا ومكملًا للدولة في النظام الديمقراطي وليس في مقابلها. وإذا عرفنا المجال العام بأنه هو المساحة أو الفضاء المديني العقلاني العام؛ فإن هذا الفضاء هو ساحة لصراع عدة أطراف وقوى داخل المجتمع، وهو أيضا ليس موزعًا بالعدل بين الفئات، ولا يمكننا تصوره كتعبير عن ثقلها العددي فقط، لكن كذلك ثقلها الرمزي والسلطوي والاقتصادي والتاريخي وغير ذلك. ويقدم المجال العام على هذا النحو وبهذا الفهم، للقوى الاجتماعية المتصارعة باختلاف أوزانها، أدوات سلمية وديمقراطية لإدارة صراعها. والمجال العام في أي مجتمع ينشأ ويتطور ويتسع ويضيق في سياق وظروف تاريخية، ويتم بناؤه وفق صراعات اجتماعية معينة، وبالتالي فإن فكرة المجال العام هي بالضرورة حدث تاريخي وليست مفهومًا متعاليًا معلقًا في الفراغ.

أخيرًا، إن المجال العام هو أساس المشاركة الديمقراطية في المجتمع الحديث، وهو الذي يؤدي إلى خلق حياة سياسية وحزبية ومواطنة وانتماء بالتعريف، فلا ديمقراطية بلا تعددية.