ما بعد "وثائق بنما".. استقالة وتحقيقات ومظاهرات

منشور الأربعاء 6 أبريل 2016

نجح واحد من أكبر التحقيقات الصحفية أن يترك بصمته سريعًا في التاريخ المعاصر، ليسطر فصلًا جديدًا يختلف فيه العالم في ما بعد "وثائق بنما" عن العالم قبل تسريب تلك الوثائق. فمنذ الساعات الأولى لنشر صحفية زود دوتشه تسايتونج الألمانية بالتعاون مع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، عشية الأحد الماضي، تقرير عن تسهيل شركة المحاماة موساك فونسيكا، ومقرها بنما، تعاملات لمشاهير وقادة دول، بعضها بغرض غسيل الأموال، والتهرب الضريبي. ومنذ ذلك الوقت توالت ردود أفعال مشاهير السياسة والرياضة والمال، فضلًا عن شروع حكومات في إجراء تحقيقات حول الأسماء المتورطة.

خرج التحقيق للنور بعد عامين من تعاون 107 مؤسسة إعلامية في 78 دولة - ليس من ضمنها الولايات المتحدة - لتحليل الوثائق التي حصلت عليها الصحيفة الألمانية من مصدر سري، أسمى نفسه "جون دو" وهو الاسم الذي يشيع استخدامه للشخص الذي يرفض ذكر اسمه في المحاكمات في الأوساط الغربية، وعندما سألته الصحيفة عن سبب كشفه للمعلومات رد قائلًا: "أريد أن جعل هذه الجرائم معروفة". 

تغطى الوثائق النشاط اليومي للشركة البنمية خلال الأربعين عامًا الماضية. وعن توابع التسريب، قال جيرارد رايل، مدير المجمع الدولي للصحافة الاستقصائية ومنسق فريق العمل "أعتقد أن هذه التسريبات هي أكبر ضربة تلقتها الشركات الخارجية، بالنظر إلى حجم الوثائق".

أصبحت الوثائق حديث كافة وسائل الإعلام عبر العالم، وتصدر هاشتاج #PanamaPapers"قائمة الترند عالميًا عبر موقع تويتر. 

التسريب الذي ضم 11 مليون وثيقة شملت رسائل بريد إلكتروني ووثائق وبيانات مصرفية وصورًا من جوازات سفر، ضم أسماء نحو 12 من قادة الدول الحاليين، والسابقين ومعارفهم،  تحتفظ تلك الشخصيات بأموالها بطريقة سرية في الملاذات الضريبية الآمنة في جزر البحر الكاريبي، عن طريقة معاملات تمت من خلال الشركة البنمية مع 240 ألف شركة للمعاملات الخارجية في جميع أنحاء العالم. ومن ضمن المسؤوليم، قادة خليجيين ومقربون من زعماء عرب حاليين وراحلين، مثل الملك سلمان بن عبد العزيز، ومحمد حسني مبارك، ومعمر القذافي وأصدقاء للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأقارب لزعماء الصين وبريطانيا وأيسلندا وباكستان بالإضافة إلى رئيس أوكرانيا.

تفاوتت استجابة الأشخاص الواردة أسمائهم في وثائق بنما، ما بين رفض التعليق أو نفي ارتكاب مخالفات قانونية، أما الحكومات فبعضها بدأ في إجراء تحقيقات، وهناك حكومات تجاهلت التسريب مثل الحكومة المصرية، فيما اتهمت حكومات أخرى الإعلام الغربي بقيادة حملة مغرضة ضدها، مثل الحكومة الصينية.

تسونامي "بنما" يطيح برئيس حكومة آيسلندا

 

أقوى رد فعل على وثائق بنما، جاء من آيسلندا التي رضخ رئيس وزرائها ديفيد سيجموندور جونلوجسون للضغوط السياسية والشعبية، وقدم استقالته، أمس الثلاثاء. فجاء إعلان الاستقالة على لسان نائبه في رئاسة الحزب التقدمي، ووزير الزراعة سيجوردور إنجي يوهانسون، قائلًا: "رئيس الوزراء أبلغ الكتلة البرلمانية لحزبه في اجتماع أنه سيستقيل من منصبه كرئيس للوزراء وسأتولى أنا هذا المنصب مكانه".

جونلوجسون الذي أكد أنه لم ينتهك أي قانون، أظهرت الوثائق أنه وزوجته اشتريا عام 2007 شركة دولية في جزر فيرجن البريطانية. وعندما أصبح عضوًا في البرلمان عام 2009 باع 50% من أسهم هذه الشركة وهي شركة "وينترز إنك" إلى زوجته مقابل دولار واحد.

ولم يقدم رئيس حكومة آيسلندا على خطوة الاستقالة من تلقاء نفسه، إذ جاءت الاستقالة بعد أن تحرك شبعه فور إعلان اسمه ضمن المتورطين في وثائق بنما، إذ أطلق نحو 8000 مواطن ايسلندي دعوة عبر فيسبوك، للاحتجاج على رئيس الوزراء أمام البرلمان الآيسلندي، ووقّع أكثر من 22 ألف على عريضة إلكترونية للمطالبة باستقالته. ومن أمام البرلمان الآيسلندي، يوم الإثنين، تظاهر آلاف الآيسلنديين مطالبين باستقالة جونلوجسون. وبالتزامن تقدم نواب المعارضة بمذكرة لحجب الثقة عن الحكومة، الذي خضع رئيسها لجلسة استجواب في البرلمان.

 

قادة الدول والمشاهير: لم نرتكب مخالفات قانونية

 

من ضمن قائمة قادة الدول وأسرهم المذكورين في وثائق بنما، والد رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون، وبعد يومين من تجاهل التسريبات قال المتحدث باسم رئيس الوزراء أن الشؤون الضريبية لعائلة كاميرون "مسألة خاصة". ثم عاد وصرّح يوم الأربعاء أن كاميرون وزوجته لن ينتفعوا في المستقبل بالأموال أو الصناديق الموجودة بالخارج. 

وجاء رد فعل الحكومة الصينية على كشف الوثائق عن أسماء أقارب 7 قادة صينيين سابقين وحاليين بوصفها للوثائق على أنها "ادعاءات لا أساس لها"، وذلك على لسان الناطق باسم وزير خارجيتها. كما اتهم الإعلام الصيني الرسمي نظيره الغربي بأنه مدفوع من قبل الولايات المتحدة لاستخدام هذه التسريبات لمهاجمة الاهداف السياسية في الدول الموجودة خارج المنظومة الغربية.

ولم تتوقف الصين عند النفي، بل فرضت قيودًا على التغطية الصحفية لأخبار الوثائق وحجبت البحث عن كلمة "بنما" في موقع "ويبو" للتدوين القصير في الصين، والذي يعتبر واحدًا من أشهر مواقع التواصل هناك. 

وعلى نفس المنوال، جاء الموقف الروسي الرسمي من كشف التسريبات لشبكة غسيل أموال تضم مقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فقال المتحدث باسمه دميتري بيسكوف، إن الأدلة "ملفقة"، وإن الرئيس بوتين ضحية تضليل إعلامي.

وتكررت على لسان العديد من المشاهير المذكورين في الوثائق عبارة "إن ذلك لا يخالف القانون"، مبررين تعاملاتهم مع الشركة البنمية، بأن القانون لا يمنعهم من تملك عقارات في الخارج. من هؤلاء، ابن رئيس الوزراء الباكستاني حسين نواز شريف، والرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، الذي وردت أسماء أبنائه على أنهم يملكون شركات في الخارج، والرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو الذي قال إن أعماله تدار بشفافية كبيرة، وإنه لا يدير أرصدته مباشرة، حتى لا تتضارب مصالحه مع عمله، وذلك منذ تعيينه رئيسًا للجمهورية، و الرئيس الارجنتيني ماوريسيو ماكري.

من المسؤولين العرب، لم يعلق على التسريب سوى رئيس الوزراء العراقي الأسبق، إياد علاوي، الذي أصدر مكتبه بيانًا ينفى صحة الاتهامات الموجهة إليه، قائلًا: "نود أن نبين أن العقار المذكور في اوراق بنما هو السكن الشخصي للدكتور علاوي والذي قام بشرائه في ثمانينيات القرن الماضي، قبل أكثر من 30 عاما ومن ماله الخاص".

الحكومات تتحرى صحة الادعاءات

 

منذ عشية الكشف الصحفي وحتى الآن، سارعت حكومات بالتحقيق في الادعاءات، منها: فرنسا وأستراليا ونيوزيلندا والنمسا والسويد وهولندا. أحدثها، طلب وزير المالية التونسي سليم شاكر، الأربعاء، من  الإدارة العامة للديوانة والإدارة العامة للادعاءات لفتح تحقيق فى ملف "وثائق بنما" الذي شمل رجال أعمال وسياسيين تونسيين. ومن الدول التي وعدت بإجراء تحقيقات في أمر البيانات المسربة بعد فحصها، بريطانيا، وباكستان وإسرائيل التي كشفت وسائل إعلامها عن 600 شركة إسرائيلية وبنكين كبيرين ضمن الوثائق.

وفي عالم الرياضة، أعلنت لجنة القيم التابعة للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) والمسؤولة عن مكافحة الفساد في الاتحاد، إنها قامت بفتح تحقيق أولي مع أحد أعضائها، وهو خوان بيدرو دامياني، وذلك  بسبب وجود علاقة عمل محتملة بينه وبين يوجينيو فيجيريدو من أوروجواي، أحد المسؤولين الكرويين الذين تم اعتقالهم في زيوريخ العام الماضي.

أما ألمانيا التي كشفت الوثائق تورط مئات من رجال الأعمال في عمليات التهرب الضريبي، شدد مكتب مكافحة الجريمة الاتحادي الألماني على حاجة ألمانيا إلى اللحاق بالركب العالمي في مجال مكافحة جرائم غسيل الأموال.

إجراءات جديدة لمواجهة التهرب الضريبي

 

إلى جانب التحقيقات الجارية، أعلنت عدة دول عن الحاجة إلى إجراءات جديدة تواجه هذه النوع من التحايل الضريبي. فذكرت الولايات المتحدة أنها تتخذ إجراءات جديدة لمنع المجموعات المتعددة الجنسيات من التهرب من دفع الضرائب عبر إقامة مقارها في الخارج عن طريق شراء شركات.

فيما قررت السلطات الفرنسية إعادة بنما مرة أخرى على القائمة السوداء للبلدان غير المتعاونة في مجال الضرائب.

أما بنما التي أصبحت تحت أضواء الإعلام الدولي منذ نشر التسريبات، قال رئيسها خوان كارلوس فاريللا إن حكومته لا تتسامح مع الأنشطة المالية غير المشروعة، مؤكدًا، إن بلاده مستعدة للتعاون مع أي تحقيق في هذه القضية.

في الوقت الذي نفت فيه الشركة البنمية ارتكابها أي مخالفات قانونية، مشيرة إلى أنها ستطلب من المدعى العام التحقيق في تعرضها لعملية قرصنة.