كيف يرى ستيفن سبيلبرج السياسة الأمريكية الحديثة؟

منشور الاثنين 4 أبريل 2016

قبل "جسر الجواسيس"، كان آخر أفلام سبيلبيرج هو "لينكولن"، الذي قدّم نظرة مثيرة للاهتمام والفضول للمدى الذي تغيّرت فيه رؤاه السياسية على مرّ السنوات.

 

في "جسر الجواسيس" أحدث أفلام المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرج يوجد مشهد نرى فيه المحامي جيمس دونوفان (توم هانكس)، العائد مؤخرًا من ألمانيا الشرقية، ينظر من نافذة المترو ويرى مجموعة من الأطفال الذين يلعبون، إذ يتسلقون سياجًا واحدًا بعد الآخر.

تستدعي اللقطة مشهدًا سابقًا ومختلفًا جدًا من الفيلم، نرى فيه دونوفان على متن قطار يعبر ألمانيا المقسّمة إلى دولتين، وذلك من أجل إجراء مفاوضات تستهدف بلورة صفقة تبادل للسجناء حيث يقوم بالدفاع عن جاسوس سوفيتي مزعوم متهم بالتجسس يُدعى رودولف آيبل (مارك رايلانس)، يشاهد أسرة تُقتَل بالرصاص لمحاولة أفرادها تسلق جدار برلين للوصول إلى الحرية التي وعد بها الغرب. في الشرق، يتسلّق الناس الحوائط للهروب من القمع ويتم قتلهم من أجل ذلك، بينما في الغرب، تسلّق الأسوار بالنسبة للأطفال يبقى تعبيرًا عن حريتهم اللا محدودة وسلامتهم المضمونة.

إنها صورة سياسية بشكل سافر في عمل يمتليء بالصور السياسية الصريحة أحيانًا والمتوارية في أحيان أخرى. هذه الثيمات يمكن تتبعها في المسيرة الإخراجية الطويلة لسبيلبرج وصولًا إلى بدايتها. في ثاني أفلامه الطويلة"Jaws" أو كما عُرف وسط الجمهور المصري بـ "الفك المفترس" الذي لاقى إقبالًا جماهيريًا عظيمًا وقت ظهوره في عام 1975  في أعقاب حرب فيتنام وفي خضم فضيحة ووترجيت، يتعامل الفيلم مع صورة متشائمة جدًا للولايات المتحدة ويحيك نفس ذلك التشاؤم بداخل حكايته بتقديمه عالمًا يتمّ فيه تحويل التهديدات الخارجية المنظورة إلى شواطيء الولايات المتحدة، وهذه ثيمة شهيرة جدًا في تعامل الأفلام الهوليوودية مع المخاطر والإتيان بها إلى قلب الواقع الأمريكي. يقرّر واحد من المسؤوليين المتنفذّين أن الدخل الحكومي أهم من حماية الأرواح وكنتيجة لذلك السعي فإن أشخاصًا جدد يدخلون في عداد الضحايا. وعندما يكلّف كوينت وبرودي (ضابط شرطة وعالم بحريات) بتقصّي وقتل سمكة القرش القاتلة، يذهبان إلى ما وراء البحار ليتحوّلان إلى ما يشبه الأعداء ويدخلان في مشاجرة تذكّرنا بالقتل المتعمّد بالقنابل اليدوية في حرب فيتنام.

بطبيعة الحال، نحن نتحدث عن فيلم أُنجز قبل 40 عامًا بواسطة مخرج في العشرينيات من عمره، وربما تعتبر هذه الفترة الأكبر سُخطًا من قِبَل الشعب الأمريكي في التاريخ الحديث، وبالتالي فالمخرج الشاب كانت لديه القدرة على أن يكون أكثر تشاؤمًا ونقدًا للولايات المتحدة بالمقارنة مع فيلمه الأخير الذي يصير المخرج فيه الآن متحققًا وناجحًا وفي السبعين من عمره. قبل "جسر الجواسيس"، كان آخر أفلام سبيلبرج هو "لينكولن"، الذي قدّم نظرة مثيرة للاهتمام والفضول للمدى الذي تغيّرت فيه رؤاه السياسية على مرّ السنوات.

 

من فيلم لنكولين - إخراج سبيلبرج - إنتاج 2012

مشهد بعد مشهد في "لينكولن" نرى الرئيس الأمريكي السادس عشر يلقي خُطَبًا ملهمة حول إمكانات أمريكا لتصبح عظيمة: "كل ما فعلناه هو أن نظهر للعالم أن الديمقراطية ليست فوضى، أن هناك قوة غير مرئية عظيمة في اتحاد الشعب"، يقول إبراهام لينكولن ذلك في أحد المشاهد في بيان حماسي يمكن أن نتصوّر خروجه من الفمّ الوطني للغاية لدونوفان في "جسر الجواسيس".

"لينكولن" مثل "جسر الجواسيس" ليس مجرد فيلمًا تاريخيًا أو يدور في زمن ماضٍ. ثيمات الفيلم حول "إمكانية أمريكا" تملك الكثير من الأصداء الحديثة الواضحة (عُرض الفيلم في الصالات الأمريكية أثناء الانتخابات الرئاسية الأمريكية في (2012) وكاتب السيناريو توني كوشنر، الكاتب المسرحي للسلسلة الرائعة "ملائكة في أمريكا" حول أزمة الإيدز في منتصف الثمانينيات، يؤكد على التضمينات المجازية في نصّه السينمائي والتي تمتدّ إلى حقوق المثليين. "هل تعتقد أننا نختار الأوقات التي نولد فيها، أو أننا لا نناسب العصر الذي ولدنا فيه؟" يسأل لينكولن.

الاختلاف بين "لينكولن" و"جسر الجواسيس"هو أن أبطالهما، بعيدًا عن إيمانهما الذي لا يتزحزح بالمُثُل الأمريكية، يعملان على جانبين مختلفين من الخط الحكومي والرسمي. إذا كانت الحكومة في "لينكولن" تصبح بمثابة الضامن للحريّات المدنية، فإن "جسر الجواسيس" هو قصة حكومة تعصي القانون بشكل صارخ، تجهز دليل الإدانة للجاسوس السوفيتي المزعوم ثم تريد قتله كوسيلة لعلاجه على حد قولها. بعبارة أخرى، هم يؤمنون أن الشموليين السوفيت يمكنهم علاج المجرمين. يُدفع دونوفان لتقديم مُثُله الأمريكية كمواطن عادي وهو ما يجعله بطبيعة الحال في موقع الصوت الوحيد المناصر للقيم والأخلاق.

 

من فيلم ميونيخ لسبيلبيرج - إنتاج 2005

هذا المزيج العكر من السياسة والأخلاقيات قد يجلب إلى الأذهان فيلمًا آخر لسبيلبرج وأعني فيلم ميونيخ الذي يقدّم دراسة قاتمة لمذبحة 1972 في دورة الألعاب الاولمبية الصيفية في ميونيخ بألمانيا الغربية؛ حيث قام مجموعة من الفلسطينيين بخطف وقتل 11 رياضيًا إسرائيليًا. يتابع الفيلم أفنير كوفمان الذي قطع علاقته الرسمية بجهاز الموساد الإسرائيلي حتى يتمكّن من قيادة الفريق الذي قام باغتيال أعضاء منظمة "سبتمبر الأسود" المسؤولين عن الهجوم الإرهابي. في البداية، يؤمن كوفمان بالمهمة المكلّف بتنفيذها، ولكن مع الوقت لا يرى طائلًا من ورائها. يتمّ استبدال كلّ هدف من المقتولين بآخر، وتنتقم المنظمة الفلسطينية بقتل المزيد. آخرون يذكرونه بأن إسرائيل أيضًا مذنبة بارتكاب جرائم ضد الأبرياء، ويتدمّر إيمانه بالقيم العليا لبلاده. بحلول نهاية الفيلم، يجد كوفمان نفسه وقد حلّ به الدمار وهو يبحث باستمرار فوق كتفيه عن رصاصة القاتل وقد سُكن تماما بأفعاله غير الأخلاقية حتى لم يعد قادرًا على التواصل الجنسي مع زوجته.

ميونيخ الذي قُدّم في 2005، حين كانت الأصوات المعارضة للحرب على الإرهاب تعلو رويدًا رويدًا، ينتهي بلقطة لمركز التجارة العالمي وحجة سبيلبرج واضحة: سعي أمريكا المماثل للعدالة كان –بطريقتها الخاصة- دفاعًا عن النفس.

لاحقًا بعد عشر سنوات، يقدّم "جسر الجواسيس" أخلاقية مماثلة: الأطفال اللاهون الأحرار يتسلّقون السياج جنبًا إلى جنب مع التحدّي الذي يواجهه دونوفان؛ مقدّمًا صورة للحلم الأمريكي وقد أتلفه الزمن والظرف المعقّد، وكأنه تذكير بأن كل لحظة حرية تجلس جنبًا الى جنب مع محو أمريكا الانتقائي لقيمها.