سيد قطب

الإسلامويون والتعامل مع الآخر

منشور الأحد 10 أبريل 2016

لم يعد خافيًا عن الأنظار –خاصةً بعد صعود الحركات الإسلاموية عقب الربيع العربي- أسلوب تعامل الإسلامويين مع الآخرين ممن لم ينضموا إلى التنظيمات الإسلاموية، أو أسلوب تعامل تلك التنظيمات مع بعضها: بدءًا من التكفير والتبديع والتفسيق والهجوم اللفظي والتشهير، ونهايةً بالعنف، واستحلال الدماء، والأموال، والأعراض، والحرق، والهدم، والتخريب. مما يدعو إلى القيام بقراءة هذا الأسلوب، ومحاولة تفسيره وتحليله، لبيان نظرة الإسلامويين إلى الآخر، وتعاملهم معه.

بادئ ذي بدء يجب أن نفرِّق بين الإسلامي والإسلاموي، "فالإسلامي نسبة إلى ما هو عقائدي وتعبدي (إيمان وشعائر) وإلى القطعيات المعلومات من الدين بالضرورة، أما (الإسلاموي) فهو تعبير عما هو فكري وأيديولوجي"[1]... بمعنى أن الفاعل/الناشط الاجتماعي –فردًا أو جماعة- الذي ينطلق من باب نشر العقيدة الصحيحة وتعريف الناس بتعاليم الإسلام العامة والتعبدية، ينطبق عليه وصف (الإسلامي). أما إذا تحرك من منطلق دعوة المسلمين (الذين يفترض في عمومهم صحة العقيدة وسلامتها) إلى تطبيق تعاليم الإسلام في حياتهم المعاصرة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا في ضوء فهمه واجتهادات من يعتبر رأيه من العلماء المعاصرين، فهو (إسلاموي)".[2] كما ينبغي الإشارة أن التسمية (إسلاموي) "قد لا تكون سليمة تمامًا؛ من حيث الاشتقاق اللغوي"،[3] وإن كانت تستخدم للتفرقة.

في البداية، يقرأ الإسلامويون التاريخ منذ بدء الخليقة باعتباره سلسلة من الصراعات، أو بالأحرى صراع أزلي، بين الخير والشر-الإيمان والكفر، وهو بحسب تعبير محمد محمد حسين: "ظاهرة كونية تعمل على مر الأزمان، واختلاف البيئات، وهو بعض ما يتضمنه قول الله تبارك وتعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) وقوله تعالى (كذلك يضرب الله الحق والباطل)"[4].

 وأما البشر فينقسمون إزاء هذا الصراع إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا كفر فيه، وفسطاط كفر لا إيمان فيه. ومن الواجب على المرء في هذا الصراع الأزلي أن يحسم أمره، وينضم بصورة واضحة لا لبس فيها إلى أحد المعسكرين، أو ما يسمى بـ"المفاصلة"، وهي كما يُعرِّفها سيد قطب: "الافتراق الذي لا التقاء فيه، والاختلاف الذي لا تشابه فيه، والانفصال الذي لا اتصال فيه، والتمييز الذي لا اختلاط فيه.... مفاصلة كاملة شاملة، وتميز واضح دقيق".[5] ويقول: "وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية، وضرورية للمدعوين".[6] فـ "بغير هذه المفاصلة، سيبقى الغبش، وتبقى المداهنة، ويبقى اللبس، ويبقى الترقيع، والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة، إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح".[7] "وأنه ليس هناك أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق".[8]

 ويجب على المرء أيضًا أن يتبرأ من كل من يخالف ما هو عليه، وأن يوالي كل من معه، وهو ما يتجلى في ما يُدعى بـ "عقيدة الولاء والبراء"، وما يترتب عليها من أحكام.

أدى ذلك إلى نشوء الحركات الإسلاموية في عزلة عن مجتمعاتها، أو بتعبير سيد قطب: "الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه".[9] كما فرضت طبيعة التنظيمات المغلقة ظروفًا ساهمت في تشكيل سلوك الفرد الإسلاموي، وميله إلى الانعزال، والانكفاء على الذات، والابتعاد عن مواطن الفتن، وتجنب الشبهات، والارتياب، والتمايز عن الآخرين في الزي، والسلوك، والمظهر الخارجي، ونمو الشعور بالاستضعاف، والهوان، والمظلومية.

هذا كله جعل الإسلامويون يستخدمون مفتاح "المؤامرة" لفتح مغاليق الواقع، وقراءته. فثم مؤامرة على الإسلام والمسلمين، يحيكها أعداء الأمة المتربصين ليل نهار، في دأب لا يكلون ولا يسأمون، لعرقلة نهضة الأمة، وتفتيتها، والسيطرة عليها. أو كما يصرح سيد قطب أن هذا الدين "يحاربه أعداء البشرية، في كل مكان على وجه الأرض، بشتى الخطط والمؤامرات والأساليب!"[10] في معركة تقودها الصهيونية العالمية والصليبية العالمية كذلك "للقضاء عليه نهائيًا" و"لا يسمحون أبدًا –بما لديهم من سلطات عالمية ضخمة خافية وظاهرة- بقيام مجتمع إسلامي –ولو صغير- في ركن من أركان الأرض –ولو جزيرة بالمحيط!"[11].

وهكذا يعتقد الإسلامويون أنهم مرابطون، يقفون على ثغور الإسلام، بوصفهم الممثلون للإسلام الصحيح، وهم وحدهم الواعون بالمؤامرة، وما يدبر للأمة، وأنهم الجديرون بقيادة الأمة في هذا الصراع الذي يدور أواره، بما يملكوه من إيمان، وعلم، وفقه، وفهم، ووعي. وعلى المسلمين أن يبقوا دائمًا حذرين من الأعداء المحيطين، وواعين بالمخاطر المحدقة بهم، ومؤمنين بأن الله معهم، وواثقين بأن النصر حليفهم. أو كما يعلن سيد قطب: "إلا أن هذه الحرب المشبوبة على الإسلام لا تفقدنا الثقة المطلقة في أن المستقبل لهذا الدين".[12]

إن الإيمان بالمؤامرة يريح عقل الإسلاموي كثيرًا: فهو أولًا يريحه من عناء التفكير في تعقيدات الواقع وتفاصيله، ويختزله في ثنائية ساذجة خير/شر – إيمان/كفر- هدى/ضلال. وثانيًا: ينتحل من ذلك مبررًا –وليس سببًا في الحقيقة- لهزائمه وفشله، فما الحيلة والكل يتآمر عليه؟ وثالثًا: يجعله يقضي على الآخر بدم بارد –في حال التمكن-، فما جزاء المتآمر؟.

وبالتالي فعلى الفرد الإسلاموي أن يدافع عن الأمة، ويذب عن الإسلام، ويرد الشبهات، ويصد الهجمات. وهنا تبرز أهمية العقيدة باعتبارها قوام الجماعة الإسلاموية، أو السمط الناظم لمجموع الإسلامويين، أو الحبل المتين الذي يعضون عليه بالنواجذ، وهي أيضًا أداة في يد القادة لتحقيق انصياع أفراد الجماعة، ومعيار لتحديد مدى التزام الأفراد، ويجب العناية بها، وتلقينها، وإزالة الشكوك، ورد الشبهات عنها، فإنها إذا اختلت، انفرط عقد الجماعة. والفرد لا يتوانى أبدًا في الدفاع، ويحذر أشد الحذر أن يؤتى الإسلام من قبله، وعليه دائمًا أن يحمل هم دعوته، مدافعًا عن الحق، لا يبالي شيئًا.

أينعم يعيش الإسلامويون معنا في المكان والزمان نفسيهما، إلا أنهم يحيون بغربة نفسية، فلا الزمان زمانهم، ولا المكان مكانهم. فالإسلامويون ينشدون العودة إلى الماضي، إلى ما قبل الصراع، في الفردوس، قبل أن يوسوس إبليس إلى آدم وحواء، قبل الهبوط. ويعملون على تحقيق هذا الفردوس على الأرض، هذا هو الحلم الإسلاموي: فردوس أرضي، حيث لا صراع، ولا مؤامرة، ولا آخر، أو إيمان لا كفر فيه.

إن أية دعوة للتقارب مع الإسلامويين، إو إدماجهم في المجتمع، لهي محض وهم وسراب. فهم يطالبون الآخر دائمًا بالتنازل –أو التوبة- عن معتقداته، ولا يقبلون أبدًا أن يتنازلوا عن معتقداتهم، أو يتزحزحوا قدر أنملة عن مواقفهم. فهم على حق، والآخر على باطل، فلا يعطوا الدنية أبدًا فيما يعتقدون، كما يقول سيد قطب: "وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس. شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء، لهم دينهم وله دينه. لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم، ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير!"[13].

 فأنتَ كي تتقارب مع الإسلامويين عليك أن تتطهر من الخطيئة، وتعلن توبتك، ومن ثم تعتنق جميع آراءه، وأفكاره، ومعتقداته، وإلا لا سبيل للالتقاء أبدًا.

أما ما يبدو في بعض الأحيان من إبداء بعض التنازلات، أو المرونة في المواقف، أو الزعم بإجراء بعض المراجعات في الأفكار، فهو لا يعدو أن تكون مناورة لتحقيق غرض ما، وفور نوال الغرض، سرعان ما تظهر حقيقة نواياهم، وهو ما يسمونه "التدرج" في الوصول إلى أهدافهم. وهذا يفسر لماذا فقدت سريعًا التيارات المؤمنة بالوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات، إيمانها بالديمقراطية، وأعلنت كفرها بآلياتها، بعد عزلهم من السلطة.

من هنا تنشأ إشكالية التعامل مع الإسلامويين. فمن ناحية لا سبيل إلى التقارب معهم، أو إدماجهم، أو حتى التعايش معهم على الأقل. ومن ناحية أخرى لا يمكن الانجرار إلى معاركهم التي يصنعونها، كما أن مواجهتهم بالعنف لن تجدي، وستترك آثارًَا سلبية على وحدة المجتمع واستقراره. وهم لا يتساءلون كيف سيقودون مجتمعًا انفصلوا عنه، وتبرءوا منه؟ إن الإسلاموي يردد بلسان حاله كلام سيد قطب: "أنا هنا وأنتم هناك، ولا معبر ولا جسر ولا طريق"[14].

 لذا فالسلطة توظفهم في تحقيق مصالحها، وتعظيم منفعتها، وتثبيت دعائمها، وفرض سيطرتها. والعلاقة بينهما ليست ساكنة، فتتدرج أساليب التعامل معهم من القمع المفرط إلى التدجين، وربما يكون القمع لبعض التيارات، والتدجين للبعض الآخر في الوقت نفسه. وربما يصل الأمر أيضًا إلى التحالف المرحلي وعقد الصفقات.

ولا سبيل للخروج من هذه الإشكالية إلا بتجاوز الأطروحة الإسلاموية، بعد فشلها على كافة الأصعدة، وضرورة إعادة النظر في بنية تلك التيارات، وإيجاد بديل أكثر نفعًا.


[1] إسماعيل الإسكندراني، الثورة المصرية كلاحركة بعد إسلاموية ص10.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه.

[4] محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية ص13.

[5] سيد قطب، في ظلال القرآن ص 4676.

[6] المصدر نفسه.

[7] سيد قطب، في ظلال القرآن ص4677.

[8] المصدر نفسه.

[9] المصدر نفسه.

[10] سيد قطب، المستقبل لهذا الدين ص71.

[11] سيد قطب، الإسلام ومشكلات الحضارة ص186.

[12] سيد قطب، المستقبل لهذا الدين ص71.

[13] سيد قطب، في ظلال القرآن ص4677.

[14] سيد قطب، في ظلال القرآن ص4676.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.