"وورلد تريكو".. الحياكة طريقًا للنضال الاجتماعي

منشور الاثنين 28 مارس 2016

 

في محاولة للابتعاد عن الممارسات الاستهلاكية واتباع أسلوب عيش أكثر توازنًا، راجت في العقد الأخير موجة ممارسات تظهر فيها الرغبة للعودة إلى زمن مضى، باستعادة هوايات وممارسات كادت أن تندثر. ظهر هذا في الاتجاه لإعداد أطعمة خالية من المكونات الصناعية ولا تحوي الكثير من عمليات التحويل، وانتشار وصفات التجميل منزلية الصنع أو إعادة استخدام الملابس والأطعمة والأثاث بعد إدخال تعديلات جديدة عليها (إعادة تدوير). هذه الممارسات التي تميل إليها قطاعات من الشباب في دول "العالم الأول"، يبدو بعضها مناقضًا لنضال نساء الدول النامية من أجل التعلم وترك الأعمال الزراعية والمنزلية، والاتجاه لتتبع خطى الحياة الغربية.  

و التريكو Tricot مثل أي عمل يدوي؛ يساعد على الاسترخاء والتركيز والشعور بالرضا، كما أن الحرف الإبداعية تحرك الخيال وتعطي قدرًا من الاعتزاز بالنفس. لكن هل يمكن أن يصبح التريكو نضالاً نسويًا اجتماعيًا؟

الشهر الماضي لفت انتباه المهتمين بالتريكو والحياكة عودة أعمال مشغل وورلد تريكو الفرنسي، ورغم كونها عودة متواضعة؛ إلا أن هذه التعاونية الفرنسية المهمة، لم تحد عن رؤيتها بعد كل ما واجهته من صراعات. فكما أعلنت مؤسسته السيدة كارمن كول سيشمل المشغل مع عودته افتتاح مدرسة عالمية للتدريب المهني للتريكو الفاخر بالشراكة مع مدرسة خياطة سويسرية، قبل أن تضيف: "[المشغل] يعدّ مكتبة فريدة من نوعها لغرزات التصميمات القديمة، التي يعود بعضها لعصر نابليون الأول".

يعتبر البعض هذه العودة -رغم تواضعها- انتصارًا مهمًا للمشاريع الصغيرة والتعاونيات الاجتماعية وأيضًا للعمال المحليين والنساء والمهاجرين. وهي نظرة ترتبط بعدة عوامل منها نشأة "وورلد تريكو" في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، على يد كارمن كول، الناشطة الاجتماعية المنحدرة من أصول إيطالية.

 

كارمن كول داخل مشغل وورلد تريكو

 

خلفية كول الاجتماعية ربما تكون ذات أثر في مبادرتها لإنشاء هذا المشغل. فقد تركت كول المدرسة في سن مبكرة لتلتحق بالعمل في المعامل. كانت كول تبحث عن تمويل لإيجار شقة لعائلة مهاجرة، فقالت لها إحدى صديقاتها مازحة : "اشتغلي بالتريكو أنتِ ونساؤك المهاجرات". دون تردد، تحمست كول للفكرة، وبدأت الإعداد لافتتاح المشغل والبحث عن التمويل اللازم. الدعم جاء من الأوساط الناشطة في العمل المدني، سواء ذوي الخلفية الدينية الكاثوليكية كالأب بيير، وهو ناشط فرنسي ومقاوم قديم من أيام الاحتلال الألماني (الحرب العالمية الثانية)، كما أنه مؤسس لدار تحمل اسمه و تتولى الاهتمام بإسكان الفقراء. كما لقيت كارمن مساعدة من الأوساط العلمانية كجمعيات العمل الاجتماعي. ولم يتوقف الدعم على المؤسسات بل انخرط فيه الأفراد والمهتمون بالعدالة الأجتماعية، الذي جمعوا مبالغ صغيرة لدعم المشروع الصغير الهادف لتوفير العمل للنسوة القادمات من عالم أخر.

هكذا و في عام 1987 وفيما تعاني الصناعة النسجية من اضطرابات، وفي مدينة تعج بالمهاجرين؛ افتتحت كارمن كول تعاونية وورلد تريكو بماكينة حياكة (تريكو) وكرسي وهاتف. لم تكن كول تعرف شيئًا عن التريكو، وأما المهاجرات اللائي التحقن بالعمل في المشغل فلم يسبق لأي منهن الشغل على آلة ميكانيكية. كان التحدي كبيرًا، وكان الحل كما تعرفه كل حَيَّاكَة تريكو متمرسة، يعتمد على الصبر وفك شيفرة الكتالوج التعليمي بالإضافة لشجاعة التجريب. تبدأ الطلبات الصغيرة و معها صعوبات صغيرة "يجب أن تكون القطعة جميلة"، تقول كارمن قبل أن تطرق باب المشاغل الكبرى في باريس لتطلب المساعدة، وبعد قليل، يصبح وورلد تريكو مؤسسة منتجة تضم عشرات العاملات. 

معركة عدالة اجتماعية؟ أم ملكية فكرية؟

لحظات الازدهار كانت عام 2004 عندما خرج المشروع من رحم "التعاونية" الاجتماعية، وبدأ يتعاقد مع دور الأزياء العريقة كجيفنشي، شانيل، كينزو. كان المشغل وقتها يضم 100 عاملة من 13 جنسية مختلفة، وكانت ابتكارات النسوة -اللواتي لم يسبق لمعظمهن العمل- تخترق عالم الرفاهية والترف وتعتمد على البحث التاريخي أو العملي، لطرق عمل عقدة جديدة أو استعمال مواد خام غير اعتيادية، أو ابتكار مشاريع فنية تُزاوِج بين قطعة قماش وجسد امرأة. تقول شوكران الحائكة ذات الأصول اليوغسلافية في إشارة لابتكار طريقة حياكة جديدة :"ذات يوم جاءت سيدة تركية، من العاملات، وأخذت مظلتها وفككتها ثم سحبت شريطتان معدنيتان وقالت: هكذا تكون الدعامات".

مع تحرر التجارة العالمية وهجرة عقود العمل للشرق حيث العمالة الرخيصة؛ أصبح المشغل كغيره، يُعاني من نقص الطلبات، وكان على كارمن أن تتخذ قرارات صعبة في محاولة لإبقاء المشغل قادرًا على الكسب :"لقد خدعتهن، قللت ساعات العمل ثم فصلتهن بسبب الصعوبات في العمل.. كن يثقن بي".

                         

كول وزميلاتها يعرضن أعمال المشغل في قاعة المحكمة التي كانت تفصل في صراعهم مع شانيل

  

في 2004 وقعت القضية الشهيرة التي اشتبك فيها المشغل مع بيت الأزياء العالمي "شانيل"، عندما اكتشفت كارمن أثناء زيارة تسويقية لها في اليابان أن بوتيك شانيل، الذي توقف عن التعامل مع المشغل، يعرض ستة موديلات كان قد قدمها وورلد تريكو لشانيل، لكنها لم تحصل وقتها على إعجاب كارل لاجيرفيلد كبير مصممي شانيل. بالنسبة لها مثل ذلك التصرف سرقة إبداعية واضحة. 

حاولت كارمن التفاوض للحصول على حقوق المشغل المادية، لكنها لم تلق أي اهتمام أو رد، واضطرت للجوء للقضاء، فيما يُعد تمرد غير مسبوق في عالم الأزياء، حيث تعود عادة حقوق الابتكار للخيّاط. هذا التمرد كلفها الكثير، حيث توقفت كل طلبات بيوت الأزياء الكبرى تضامنًا مع شانيل، واضطرت كارمن لتسريح عاملاتها. 

ابتكارات مشتركة

"هذا تصميم يعتمد على استعمال خيوط بلاستيك مع خيوط حرير غير مشذبة"، تشرح كارمن أمام كاميرا فيلم وثائقي. في مشهد آخر، تظهر ماري كريستين مسؤولة في دار أزياء "تيري ماجلر" وهي تشرح كيف توصلت العاملات لأحد التصاميم أثناء جلسة عمل: "هذا تصميم استلهمناه من غطاء طاولة صنعته جدتي، ثم غيرنا الخيط وأَبعاد الغرزة، ثم اقترح أحدهم استعمال خيط مطاطي؟ إنه نتاج مشترك".

 

الحكايات كثيرة، ومن الصعب تحديد من ابتكر ماذا، ولمن تعود حقوق الملكية لتصميم ما. وقد تكون هنا بالذات نقطة الضعف التي لم تشجع أحد من بيوت الموضة على مساندة كارمن في قضية التزوير التي رفعتها على شانيل. فالتريكو ليس ملكًا لأحد، إنه تاريخٌ من التعليم و التكرار و الابتكار، تواترٌ متواصل من عقود وألفيات تنقله النساء للنساء وفي كل عملية نقل يحدث ابتكار فكيف يمكن التحدث عن ابتكار أو حقوق ملكية فكريةأو أبداعية؟

هذه الطريقة المختلفة في صناعة التصاميم المميزة جعلت معركة وورلد تريكو ضد شانيل وباقي بيوت الموضة التي اتخذت صف شركة الأزياء الكبرى، معركة مختلفة في طبيعتها كذلك. قد لا تكون هذه هي المعركة الأولى التي يبدو فيها الطرفان غير متعادلان. لكن عاملات وورلد تريكو وصاحبة فكرة المشروع لم يرهبن أو يترددن في خوضها. ورغم الصعوبات وتغيير لجنة المحامين ثلاث مرات، وتهديدات الإفلاس التي كادت أن تصير واقعًا؛ لم تكسل كارمن عن سعيها لإيصال صوتها لأي منبر.

في 2009 صدر حكم برفض دعوى التزوير التي تقدم بها وورلد تريكو ضد شانيل، وحكم القضاء بتغريم وورلد تريكو 200 ألف يورو. لكنه أيد دعوى كارمن التي اتهمت فيها شانيل بخرق العقد بينهما. وقضى بتغريم بيت الأزياء الشهير 400 ألف يورو. وأصدر حكمًا بإخلاء مكاتب المؤسسة المفلسة "وورلد تريكو"، لكن، وبينما تحاول كارمن مع مؤسسات محلية إنقاذ المشغل، صدر في عام 2012 حكم الاستئناف الذي أثبت ارتكاب شانيل لواقعة التزوير والتعدي على حقوق الملكية الفكرية لوورلد تريكو.  

معركة نسوية طبقية؟

تقول كارمن لصحيفة التليجراف البريطانية: "المسألة لا تعنيني وحدي، بل تخص الشرف والعدالة والنبل. أنا لا أخوض هذه المعركة لأجلي أو لأجل شركتي، بل لأجل النساء اللواتي عملن وابتكرن التصميمات، الناس البسيطة المنسية، غير الموجودة [محسوب حسابها]".

في دفاعها استعملت كارمن مصطلحات تعبر عن النضال الطبقي والنسوي، فهل كانت تستغل هذا الخطاب؟ قد يبدو الظاهر كذلك، لكن بالعودة لكارمن نفسها ولنشأة المشغل؛ نجد أن هذا الخطاب معبِّر عن صلب الرؤية التي بدأت منها هذه التعاونية النسائية.

 كارمن، ابنة المهاجر الإيطالي التي اضطرت لترك المدرسة للعمل في معامل التمديدات الصحية، ثم انخرطت في العمل بالمجتمع المدني حيث المؤسسات الداعمة للعائلات الفقيرة والمهاجرة، عاشت تفاصيل أجواء هذه الجمعيات والتواصل المباشر مع "الآخر المجهول" ومحاولة اكتشاف التشابه الإنساني معه. ومن هنا وتحديدًا أثناء عملها على إيجاد تمويل سكني لعائلة مهاجرة؛ ظهرت فكرة العمل بالتريكو. وعندما تواصلت مع المؤسسات المدنية الدينية والعلمانية، ظهرت فكرة التعاونية التي تولد عنها المشغل، كان الهدف اجتماعيًا نسويًا.. كان إنسانيا. 

 كان التريكو ولا يزال ملجأ النسوة غير العاملات، ربما بسبب طقوسه التي تحتاج للجلوس الطويل وانشغال اليدين بعمل عقد متكررة، وفي بعض الأحيان؛ التركيز في عقد مفصلية. وربما كان كذلك لكونه عمل فردي تمامًا، يعتمد على خصائص كل يد وكل شخص، على قدرة اليد على العمل بسرعة، أو على شد الخيط بوتيرة معينة، لتنتج عُقد مختلفة من خيوط ذات صلابة متنوعة، وخامات متعددة، تختلف طريقة عمل اليد مع كل منها، ليبقى لكل عمل تفرده وتميزه الخاص.

هكذا أصبحت الحياكة هواية النساء ممن يحببن التفرد في الصنعة التي تبقى في البيوت وراء الأبواب، بين أيدي الجدات المتعبات، أو تحت كاميرات الويب لشابات جامعيات. في كل هذه التنوعات لم يفقد التريكو سحره، وعندما تشتد الأزمة الاقتصادية تعود النساء بشكل غريزي لعمل العقد وتشكيل الشبكات ورسم العالم. 

هل كان انتصارًا؟                    

 

رغم أن الحكم النهائي جاء في صالح "وورلد تريكو"؛ لكن المشغل ظل يعاني قلة التمويل وندرة الطلبات، فدور الأزياء الأوروبية العالمية تهرب مثل غيرها من الشركات نحو الشرق حيث العمالة الرخيصة. كما أن التمرد على سلطة الرجال الذين يرسمون خطوط الموضة العالمية كلفها الكثير، لكن كارمن تقول: إنه لم يكن بإمكانها الصمت وهي تشهد استعمال تصميمات مشغلها الصغير والتعدي على المحاولات الحثيثة للحلم.

في شهادتها أمام البرلمان الأوروبي للحديث عن التزوير والمقاولات الفرعية تقول كارمن: "وورلد تريكو بدأ منذ عشرين عامًا، اعتمد على العمل اليدوي للنساء اللواتي كن يحملن في ذكرياتهن البعيدة شيئًا من الخبرة للعمل اليدوي. كل ما حققناه كان بسبب أشخاص عرفوا كيف ينقلون لنا الصنعة. لم أكن أعرف شيئًا عن عمل التريكو ولا عمل الغرز، لكن في محيطي التقيت بأشخاص رائعين علموني خبرتهم قبل رحيلهم. إنه كسباق التتابع. الأشخاص يختفون لكن المعرفة تتمدد ولا تدخل المتاحف".

تواصل كارمن: "المعرفة هنا لاستعادة الكرامة للناس. إن التزوير اغتصاب، سرقة، خيانة، وجريمة اجتماعية. كما تعلمون فالبطالة تجعلنا ننمي أفضل ما نملكه وهو الابتكار، الابتكار يجمعنا. من غير المقبول إحباط الناس والبسطاء".